وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة فاطر - تفسير الآية 8 العبرة أن تمتلك الرؤية الصحيحة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الثامنة من سورة فاطر، وهي قوله تعالى

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)﴾

[سورة فاطر]

 النبي عليه الصلاة والسلام كان يدْعو ربَّهُ ويقول: اللَّهمّ أرِنَا الحقَّ حقًّا...." السَّبب أنَّ هناك أناسًا يرَوْن الحقَّ باطِلاً، والباطِل حقًّا، فما سِرُّ هذه الآية وهذا الدُّعاء ؟ الإنسان له بصَرٌ وبصيرة، فالبصَرُ عَينُهُ التي يرى بها الأشياء وهذه الأشياء لا يخْتَلِفُ عليها اثْنان، الأحمر أحمر، و الأبيض أبيض لكنَّ الخلافَ في رؤية البصيرة ؛ فهناك إنسانٌ يملك رؤيةً صحيحة استنار بنور الله و هناك إنسانًا يملك رؤيةً فاسدةً، ابتعد عن الله فعميَ قلبُه، و إذا أردتَ أن ترجع كلَّ مشكلاتِ الإنسان يمكن أن نرجعها إلى قلبٍ أعمى ؛ يرى الحقَّ باطلا و الباطلَ حقًّا، إذاً لان الإنسانَ يحبُّ نفسَه ووجودَه و يحبُّ سلامةَ وجوده و يحبُّ كمالَ وجوده و يحبُّ استمرار وجوده، لمجرَّد أن يرى رؤيةً صحيحةً يتحرَّك وفق الطريق الصحيح، فالعبرةُ أن تملك هذه الرؤيةَ الصحيحةَ، فالذي يسرق أموال الناس، لماذا يسرق ؟ لأنه يرى أن السرقةَ جهدٌ قليل و دخلٌ كبير، لكنَّ قلبَه الأعمى غفل عن العقاب الأليم و عن السجن المديد، وعن الفضيحة الاجتماعية، فأنْ يرى الإنسان الحقائق بِقَلبِهِ هذا أعظَم كَسْب يَصِل إليه الإنسان المؤمن لأنّ الإنسان إذا رأى الحقيقة سلَكَ طريقَها، وإن كان أعْمَى القلْب تاهَ في مجالات الحياة فارْتَكَب الأخطاء، أوْضَحُ مثلٍ ؛ يُمكن لإنسانٍ أن يرْكَبَ مرْكبةً وعن يَمين الطريق وادي وعن يسارِهِ وادٍ آخر، والطُّرق مُتَعَرِّجَة وليس مَعَهُ مِصباح !! سُقوطُه في الوادي حَتْمي.
 أيها الإخوة الكرَام، قال تعالى:

 

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(28)﴾

 

[سورة فاطر]

 بائِعٌ يأتيه إنسان لِيَشْتري منه حاجة، يُدْرِك بِحاسَّتِهِ السادِسة أنَّه غِرّ، لا يعْرِفُ مُسْتويات البضاعة فيَبيعُهُ أدنى البضاعة بأعلى ثَمَن، ويغْتَبِطُ هذا البائِع وهو أنَّه اسْتَطاع أن يُحَقِّق أكبر ربْح في هذا اليوم، فهذا التاجِر نظْرتُهُ قاصِرَة، وهو يرى حتْف أنْفِهِ، لي قريب له جار جاءَهُ صاحِب مرْكبة جديدة، وقد تعطَّلَت، وأدْرَكَ هذا الإنسان أنَّ صاحب هذه المركبة قلق جدًّا على مرْكَبتِه، وأنَّ صاحبها مَيْسور فطلبَ منه عشْرة آلاف ليْرة ! هذا الشَّخص وافَقَ، فلمَّا انْصرَف صلَّحها له بِدَقائِق مَعْدودة، واتَّصَل بِأهْلِهِ، وأخذَهم إلى الزَّبداني، وثاني يوم أخَذَهم إلى المطار، وثالث يوم أخذَهم إلى الوادي، وفي اليوم الرابِع جاء صاحبها وتسلَّمَها، ودَفَع عشْرة آلاف ليرة ! فقال له جارُهُ: هذا حرامٌ عليك، وهذا غِشّ كبير، والقضِيَّة تَحتاج إلى مئات اللَّيرات فقط، فقال له: هكذا العَمل ‍! وهكذا الرِّبْح وبعد يوْمَين دَخَلَت بِعَين ابنِهِ ريشة ! فاضطرّ إلى أن يأخذه إلى بلدٍ مُجاوِر ويدْفع إحدى وعشرين ألف ليرة !! لو أنّه رأى أنَّ الله له بالمرصاد وسوف يُحاسِبُه حِسابًا عسيرًا في الدنيا والآخرة.
 وهذا إنسان أراد أن يُظهر مهارَتَهُ في السَّواقة، فرأى كلبًا نائِمًا فأراد أن يقطع له رِجْليه دون أن يمسَّ بقيَّة أعضائِهِ !! فقَطَع رِجليه وضَحِكَ ضحْكةً هِسْتيرِيَّة، وبعد أسبوع فقط وفي نفْس اليوم قُطِعَت يدا هذا السائِق ‍‍‍!
أيُّها الإخوة، يُمكِنُ أن تُعْزى كلّ أخْطاء البشَر إلى عَمَى القلب، فهذا الذي يغشّ الناس في البِضاعة تأتيه مُصادَرات تَجْعلُهُ فقيرًا، وهو لا يرْبِطُ هذه المُصادرات و تلك الانحرافات، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾

 

[سورة الفجر]

 و قال تعالى

 

﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(8)﴾

 

[سورة الحجرات]

 و قال تعالى:

 

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾

 

[سورة البروج]

 فلكلِّ مخلوق أمامك مخلوق يدافع عنه، فالذي يملك رؤيةً صحيحة يستقيم بدافع الخوف من الله، و بدافع طلب السلامة، و لكن بعد ذلك يتصل بالله، فإذا اتصل به اصطبغ قلبُه بصبغة الله، قال تعالى:

 

﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ(138)﴾

 

[سورة البقرة]

 أيها الإخوة، ما من انحرافاتٍ خطيرةٍ أو غير خطيرة ؛ إذْ أحيانا الإنسانُ يطلق بصرَه في الحرام، أو يرفع السعرَ بلا مبرِّرٍ، أو يبيع بضاعةً فاسدةً، أو يستغل جهلَ المشتري، النبيُّ الكريم يقول: غبنُ المسترسل حرام.." و من هو المسترسل؟ هو الذي لا يدري السعرَ و لا نوع البضاعة، فالعبرة أن يلقيَ اللهُ في قلبك نورا عند الاتصال به وهذا النور يريك الحق حقًّا و الباطل باطلا، و إذا ملكتَ الرؤية الصحيحة فقد ملك كلَّ شيءٍ لأنَّك لن تخطئ، ولن تنْحرف، ولن تأخذ ما ليس لك، ولن تعْتدي على الآخرين، ولن تتطاوَلَ على غيْرِكَ، أما الذي يتطاوَل ويأكل المال الحرام، ويأثَم بِجَوارِحِه ويعْتَدي بِلِسانِهِ، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾

 

[سورة الفجر]

 فهو يفْعل هذا لأنَّه جاهِل، قال تعالى

 

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)﴾

 

(سورة طه)

 لمَّا يفْتح الإنسان مَتجَر أو ملهى يقوم على المَعْصِيَة، يبيع الخمْر ويأتي بالراقِصات، وقد قال لي أحدهم في خمسةٍ وأربعين يوم ثمانيَة ملايين رِبْح !! فالذي يَمْلِكُ رؤْيَةً صحيحة ولو قطَّعْتَهُ إرْبًا إرْبًا لا يعْمَل عملاً في معْصِيَة الله، وأذْكر أنَّه كان لي طالب كان خالهُ يَمْلِك دار سينما، في الثانيَة والأربعين أُصيبَ بِسَرَطان في دَمِهِ، فدَخَل عليه فرآهُ يبْكي، فقال له: مالكَ تبْكي يا خال ؟! فقال له: جَمَّعْتُ خمسة ملايين ليْرة - يوم كان الدولار بثَلاثة ليْرات - لأُنْفِقَها في خريف عُمُري وأسْعَدَ بها، وها هو ذا المرض قد عاجَلني ولم يسْمَح لي أن أتمتَّعَ بهذا المال ! فهذا جَمَع المال على أنقاض الشباب وتَدْمير الأُسَر، فالإنسان الذي يمْلِكُ رؤْيَة صحيحة يعُدّ للملْيار قبل أن يقْتَرِف معْصِيَة أو يُؤْذي المَخلوق، وقبل أن يضرّ غيره.
 الطَّبيب لمَّا يرى إنسانًا يأكل الفاكِهَة من دون غسيل فإنَّه يراهُ أعْمى لا يعْرِف ما الجراثيم والعَدوى، طيِّب ؛ هذا الذي عرف أنَّ مرض الإيدْز انْتشَر ويزْني مع امرأةٍ ساقِطَة ألا تَظُنُّه جاهِلاً ؟ الإنسان كلَّما تعلَّم واتَّصَل بالله صحَّتْ رؤْيَتُهُ واسْتَقام عملُهُ، والآية الكريمة

 

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)﴾

 

[سورة فاطر]

 عمل سيئ، وعمل فيه ظُلم وإثْم، وعَمَل فيه تَعَدِّي، وفيه غشّ، كلّ هذا يراهُ حسَنًا، يُرْوى أنَّ رجلاً كان يطوف حوْلَ الكعْبة وهو يقول: ربِّ اغْفِرْ لي، ولا أظُنُّكَ تفْعَلُ !! فَعَجِبَ منه رجلٌ وقال له: يا هذا ما أشَدَّ يأسَكَ مِن رحْمة الله، فقال: ذَنْبي عَظيم، فقال له: ما ذَنْبُكَ ؟ فقال له: كنتُ جُنْدِيًّا في حَمْلة قَمْعِ فِتْنة فلمَّا قُمِعَت الفِتْنة أُبيحَت لنا المدينة، دَخَلْتُ أحدَ البيوت فرأيتُ فيه رجلاً وامرأةً وولَدَين، فقَتَلْتُ الرَّجُل، وقلتُ للمرأة: اِعْطِني كلَّ ما عِنْدَكِ، فأعْطَتْهُ كلَّ ما عِنْدَه فقَتَلتُ ولَدَها الأوَّل فلمَّا رأتْني جادًّا في قَتْلِ الثاني أعْطَتْني ذِرْعًا من ذَهَب، تأمَّلْتُها فإذا عليها بَيْتَين مِن الشِّعْر فلمَّا قرأْتُهما صُعِقْتُ ! وأتَيْتُ إلى بيت الله الحرام، قرأ على هذه الذِّرْع المُذْهَبة:

 

إذا جار الأمير وحـاجِباه  وقاضي الأرض أسْرَفَ في القضاء
فَوَيْلُ ثمَّ وَيلٌ ثمَّ وَيْـــلٌ  لِقاضي الأرض مِن قاضي السَّماء

 إنسانة تعْمل في المُحاماة لها أخٌ مُوَظَّف له أربعة عشرة طِفلاً، عَرَضَتْ عليه قبل عِشرين عامًا أن تشْتري وإيَّاه بيتًا عن طريق جَمْعِيَّة تعاوُنِيَّة بِقَصْر العَدْل، ودَفَعَ لها نِصْف البيْت نقْدًا، ولم يُطالِبْها بالإيصالات لِثِقَتِهِ أنَّها أُخْتُهُ، والآن ثمنُهُ خمسة عشرة مليون !! وقبل عامَين قالَت له إمَّا أن تخْرج من هذا البيت وإمَّا أن أُخْلِيَكَ، والقانون معها، فَوَضَع أثاث بيْتِهِ في مُسْتَودعات، وقسَّم أُسْرته إلى قِسْمَين قسْم عند أهل زوْجَتِهِ، وقِسْم عند أهْلِهِ !! يقول لي ابن أخيها: أُصيبَتْ عمَّتي بِمَرضٍ خبيثٍ في أمْعائِها وهي تَصيحُ كلَّ الليل، فإذا بها بعد شَهْرٍ واحِدٍ تَموت، وذَهَبْتُ إلى البيت وألْقَيتُ فيه كلمة، وكان وريثُها الوحيد هو أخوها ؛ فعاد إلى البيت، واسْتَحَقَّت هي لعنة الله والملائكة فهذه لو أعْمَلَت عقْلها لما وصَلَت إلى ما وصَلَت إليه.

 أيها الإخوة، العِبرة أن ترى الحقَّ حقًا والباِطل باطِلاً، قال تعالى

 

 

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)﴾

 

[سورة فاطر]

تحميل النص

إخفاء الصور