وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0281 - الصبر8- الأشياء التي تعيق عن الصبر3 - الأذن
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخطبة الأولى
 الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا، و ما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكُّلي إلا على الله، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بربوبيته، وإرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمدا صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله، سِّيدُ الخلق والبشر، ما اتَّصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر،اللهم صلِّ، وسلِّم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقا و ارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، لا زلنا في موضوع الصبر، ولا زلنا في موضوعه الأخير، والمتعلق بالأشياء التي تعين على الصبر.
 فيا أيها الإخوة الأكارم، من الأشياء التي تعين على الصبر أن تقتدي بأهل الصبر، وأهل العزائم، فمما يعين على الصبر التأمل في سير الصابرين، وما لقوه من صنوف العذاب، وألوان الشدائد، وبخاصة أصحاب الدعوات، و حملة الرسالات من أنبياء الله ورسله، المصطفين الأخيار، الذي جعل الله حياتهم و جهادهم دروسا بليغة لناس من بعدهم، ليتَّخذ الناسُ حياة هؤلاء أهل الصبر وأهل العزيمة دروسا ثمينة، و ليتَّخذوا منهم أسوةً صالحة و مثلا يُحتذى، يعينهم على تحمُّل متاعب الحياة.
 الله سبحانه و تعالى أشار إلى هذه الحقيقة في القرآن الكريم، فقال جل من قائل:

﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾

[سورة هود]

 يا أيها النبي نقصُّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، نحن من باب أولى، إذا قرأت سيرة الصابرين، إذا قرأت سيرة أهل العزيمة، إذا قرأت سيرة الأعلام الذين لاقوا ما لاقوا في سبيل الله هانت عليك مصيبتُك، و رضيت بها، و الله سبحانه وتعالى أشار إلى هذا، بل إن النبيَّ عليه الصلاة و السلام نفسه كما قال الله عزوجل يستأنس و يثبت قلبُه إذا تلا اللهُ عليه سير الصابرين، قال تعالى:

 

﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾

 

[سورة هود]

 أيها الإخوة الأكارم، لما جعل اللهُ النبيَّ عليه الصلاة و السلام أسوةً حسنة لنا، و قدوة صالحة، ومثلا يُحتذى، إذًا لا بد من أن نقرأ سيرته، لا بد من أن نقف عند مواقفه، لابد من أن نطَّلع على المحن التي أصابته، وعلى الشدائد التي لاقاها، وعلى المصائب التي نزلت به، من أجل أن يكون هذا النبيُّ العظيم قدوةً لنا في السير في دروب الحياة التي جعلها الله دار ابتلاء لا دار جزاء.
 يا أيها الإخوة المؤمنون، في آية أخرى يقول الله جل من قائل:

 

﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾

 

[سورة الأنعام]

 آية ثالثة قال تعالى:

 

﴿صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 "آية رابعة قال تعالى:

 

﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾

[سورة ص]

 وفي نهاية القصة قال الله عزوجل:

 

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾

 

[سورة ص]

 إذا قرأت سيرة النبي عليه الصلاة و السلام، إذا قرأت سيرة أصحاب النبي عليهم رضوان الله، هؤلاء الذين رضي الله عنهم، هؤلاء الذين حقَّقوا المرادَ الإلهي، كانت حياتُهم مشحونة بالابتلاء، إذا قرأت أن هؤلاء العظام أصابهم ما أصابهم، وتحمَّلوا في سبيل الله عندئذ يا أيها الأخ الكريم تكتسب قوة تحمُّل كبيرة، الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى عبدَه صابرا يحب أن يرى عبده عليما بحكمة الله عزوجل، إن يد الله يدٌ رحيمة، يدٌ لطيفة، يدٌ رؤوفة، فإذا رأيت المصيبة من الله هانت عليك الأمور، لأنه حكيم عليم، لأن الذي أراده وقع، و الذي وقع أراده، وإرادته متعلِّقة بالخير المطلق، بالحكمة البالغة.
 أيها الإخوة المؤمنون، الله سبحانه و تعالى أشار إلى أن من طبيعة الحياة الدنيا الابتلاء، أشار إلى هذا في القرآن الكريم، فقال:

 

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾

 

[سورة العنكبوت]

 إذا امتُحنت بالرخاء فنجحت، فلا بد من أن تُمتحن بالشدة، إذا امتُحنت بالعطاء فنجحت، فلا بد من أن تُمتحن بالمنع، إذا امتُحنت بهذا الطريق فنجحت، فلا بد من أن تُمتحن بطريق آخر، لأن الله سبحانه و تعالى لابد من أن يكشف حقيقة الإنسان، لا بد من أن يضعه في حجمه الحقيقي، لابد من أن يجعل مكنونه ظاهرا، و سره علانية، قال تعالى:

 

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾

 

[سورة العنكبوت]

 أيُعقل هذا ؟ قال تعالى:

 

﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾

 

[سورة آل عمران]

 الشدائد محكُّ الرجال، الشدائد تفرز الأشخاص تصنِّفهم إلى مؤمنين صادقين، و إلى مؤمنين ضعفاء، فهذا الذي فرزته المصيبةُ، وجعلته مؤمنا ضعيفا عليه أن يجِدَّ في السير، عليه أن يجدِّد إيمانه، عليه أن ينهض من كبوته.
 يا أيها الإخوة الأكارم، لابد من أن يكون النجاحُ حافزا لك لنجاح آخر، وإذا كان الإخفاقُ فلا بد من أن يكون الإخفاق حافزا لك إلى نجاح ينسيك هذا الإخفاق.
 أيها الإخوة الأكارم، شيء آخر، آية أخرى، قال تعالى:

 

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

 

[سورة البقرة]

 يجب أن يوطِّن المؤمن نفسه على أن الدنيا دارُ ابتلاء، لابد من أن يُمتحن بها، لا بد من أن يُبتلى بها، لا بد من أن يوضَع في ظرف دقيقٍ دقِيقٍ دَقيقٍ فيُكشَف على حقيقته، إذا كان يدَّعي حبَّه لله فلا بد من أن يوضع في ظرف، فإما أن يصدُق في دعواه، وإما أن تأتي دعواه مقصِّرةً عن حاله، إذًا كأن الله عزوجل بطريقة أو بأخرى يبيِّن له مستواه، فلينهضْ هذا الإنسان إلى المستوى الأعلى.
 أيها الإخوة الأكارم، شيء آخر يعين على الصبر ألا وهو الإيمان بالقضاء و القدر، النبيُّ عليه الصلاة و السلام يقول:

 

((الإيمان بالقدر يذهب الهم و الحزن))

 لأن المؤمن يرى أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولئن اجتمعوا على أن يضرُّوه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال تعالى:

 

 

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

 

[سورة فاطر]

 إذا قنَّن الإنسان فتقنينه تقنين عجز و فاقة، أما إذا قنَّن الإلهُ فتقنينه تقنين تأديب وعلاج، قال تعالى:

 

﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا﴾

 

[سورة الفجر]

 ليس عطائي إكراما، و لا منعي حرمانا، إنما عطائي ابتلاء، و حرماني دواء.
 يا أيها الإخوة المؤمنون، آية في القرآن الكريم تؤكِّد هذا المعنى الثاني، المعنى الأول إذا قرأت سير الصابرين، إذا قرأت سير أولي العزم، إذا قرأت سير الأنبياء، إذا قرأت سير الدعاة، إذا قرأت سير الصحابة وجدت أن هؤلاء على علوِّ قدرهم، و على رفعة شأنهم، و على مقامهم الرفيع عند الله عزوجل أصابهم ما أصابهم، امتُحنوا، ونجحوا في هذا الامتحان، قال تعالى:

 

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾

 

[سورة الأحزاب]

 همْ هُمْ، في الرخاء و الشدة، في العطاء و المنع، في الرفعة و الخفض في العزة وغير العزة، في الصحة والمرض، في إقبال الدنيا وإدبارها، همْ هًم على محبتهم، وعلى ورعهم، وعلى استقامتهم لا يغيِّرون ولا يبدِّلون الإيمان بالقدر يذهب الهم و الحزن، بعد أن تستنفذ كلَّ طاقاتك من أجل أن تحقِّق الذي أنت بصدده، إذا جاءت الأمورُ على غير ما تريد، و لا حيلة لك في الذي جاءك، وليس في إمكانك أن تردَّه، ولا أن تجلبه، شيء فوق إرادتك، و فوق طاقتك، هذا هو القضاء والقدر، عندئذ ليكن وقعُ القضاء والقدر على قلبك أمنا وسلاما، هذا الذي شاءه الله، هذا الذي أراده، إن كنت تحب الله عزوجل فهذا قراره، هذه إرادته، هذه مشيئته، قال تعالى:

 

﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾

 

[سورة الطور]

 و هذا حكم ربك، فالإيمان بالقدر يذهب الهمَّ والحزن، آية في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى، يقول الله عز وجل:

 

﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾

 

[سورة الحديد]

 هذا الشيء قدَّره الله، ليس في إمكاني ردُّه، و ليس في إمكاني أن أنجو منه، شيء، وإذا أراد اللهُ شيئا وقع، و كل شيء وقع أراده الله، فالإيمان بالقضاء والقدر يذهب الهم والحزن، هذا الإله العظيم عظيم حكيم عليم قدير سميع بصير خبير، وهذا فعلُه، فإذا كنت تؤمن بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى فلا بد من أن تكون أسماؤه الحسنى كلُّها في أفعاله، هو إلهٌ عظيم، أسماؤه حسنى، صفاته فضلى، وهذا فعلُه، ففعله لابد من أن يكون متصفا بأسمائه الحسنى كلها، و صفاته الفضلى كلها، هذا هو الإيمان، لذلك كان عليه الصلاة و السلام إذا أصابه ما يكره كان يدعو و يقول:

 

((لا إله إلا الله العليم الحكيم، لا إله إلا الله الرحمن الرحيم))

 هذا الذي وقع من فعل الله، و اللهُ رحمنٌ رحيم، هذا الذي وقع من فعل الله، واللهُ عليمٌ حكيم، هذا الذي وقع من فعل الله، و الله أسماؤه حسنى.
 أيها الإخوة المؤمنون، هناك صبر الإيمان، وهناك صبر الاضطرار فإذا لم تصبر فماذا عليك أن تفعل، ماذا بإمكانك أن تفعل، ماذا تستطيع أن تفعل، لن تستطيع أن تفعل شيئا، فإذا لم تفعل ولم تصبر، رسبت في الامتحان، لذلك قيل: هناك صبر الإيمان، وهناك صبر الاضطرار، والذي ليس له خلفية إيمانية، وليس له معرفة بالله عزوجل يصبر صبر الاضطرار، لا صبر الإيمان، النبيُّ عليه الصلاة والسلام قال:

 

 

((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))

 و الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه أراد أن يعزِّي رجلا لوفاة ابنه فقال له: (يا فلان إنك إن صبرتَ نفذت فيك المقادير، و لك الأجر، و إن جزعت نفذت فيك المقادير وعليك الوزر " أحد الحكماء يقول: إن أنــت صبرت إيمان واحتسابا كنت عند الله من الصابرين، و إلا سلَوت سلُوَّ البهائم)، وحكيم آخر يقول: " العاقل يفعل أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهلُ بعد أيام "، الفرق بين المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن عند الصدمة الأولى يفعل ما يفعله الجاهلُ بعد أيام، لكنك إذا جاءك الأمرُ على خلاف ما تريد و قلت: الحمد لله رب العالمين، يا ربي أنا راضٍ بقضائك وقدرك، فأنت من أولي العزم، فأنت من المؤمنين الصادقين، فإن هذا العمل من عزم الأمور قال تعالى:

 

 

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾

 

[سورة لقمان]

 يا أيها الإخوة المؤمنون، بقي علينا موضوعٌ واحد في الصبر ألا هو الآفاتُ المعيقة عن الصبر، من هذه الآفات الاستعجال، النفس مولعة بحب العاجلة، وهكذا قال الله عز وجل:

 

﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾

 

[سورة الإسراء]

 و قال تعالى:

 

﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾

 

[سورة الأنبياء]

 هذا الذي ينحرف و يبغي و يطغى يظن أنه في منجاة عن عذاب الله، و يظن الناسُ كذلك، و قد يتأخر العلاج، و قد يتأخَّر الحسابُ، قال تعالى:

 

﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾

 

[سورة الأنبياء]

 الإنسان أحيانا يستعجل الدنيا، و الله سبحانه و تعالى يقول:

 

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾

 

[سورة الإنسان]

 أما المؤمن يحب الآجلة و يتحمل هذه الآجلة، أما غير المؤمن، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾

 

[سورة الإنسان]

 ثقيلا في حسابه، في آية ثانية يقول الله تعالى:

 

﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾

 

[سورة القيامة]

 و قال تعالى:

 

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً﴾

 

[سورة الإسراء]

 يا أيها الإخوة المؤمنون، الله سبحانه و تعلى يقول:

 

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 من بعض أدعية النبي عليه الصلاة و السلام:

 

((اللهم رضِّنا بقضائك و بقدرك، حتى لا نستعجل ما أخَّرت، ولا نستأخر ما عجَّلت))

 لكل شيء أجل، لكل شيء كتاب، لا تستعجل ما أخره الله، و لا تستأخر ما عجله الله.
 يا أيها الإخوة المؤمنون، آية رابعة يقول الله عزوجل:

 

 

﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾

 

[سورة مريم]

 لكنك إذا استعجلت في فعل الخيرات، و إذا بادرت إلى فعل الخيرات فهذه العجلة التي يرضى الله عنها، قال تعالى:

 

﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾

 

[سورة طه]

 إذا استعجلت إلى الطاعات، إلى فعل الخيرات، إلى عمل الطيبات، إذا استعجلت في تعلم العلم فهذا عين العقل.
 يا أيها الإخوة المؤمنون، شيء آخر، الغضب قد يعيق الإنسان عن الصبر، الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم حدَّثنا عن قصة ذي النون، سيدنا يونس الذي دعا قومه ليلا و نهارا، علّمهم، بيَّن لهم، إلى أن يئس منهم، و ربما استعجل في اليأس، فتركهم و ذهب مغاضبا، وظن أن لن نقدر عليهم، بمعنى أن لن نقدر هدايتهم على يديه، عندئذ ربُّنا سبحانه وتعالى حدَّثنا عن قصة مأساوية كيف التقمه الحوت، و كيف نادى في الظلمات،

 

﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾

 

[سورة الأنبياء]

 يا أيها الإخوة المؤمنون، هذه قصة يجب أن يضعها كلُّ مؤمن نصب عينيه، لا تستعجل، لا تسرع في اليأس، الله سبحانه و تعالى حليم، إذا دعوت إلى الله فلزم النفس الطويل، اصبر على من تدعوهم، لعل الله سبحانه و تعالى يقدِّر هدايتهم على يديك، لا تيأس، شيء آخر شدَّة الحزن و الضيق مما يعيق عن الصبر، قال الله تعالى:

 

﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾

 

[سورة النحل]

 اصبر، ولا تجزن، ولا تكن في ضيق، فالحزن والضيق يتناقضان مع الصبر، قال تعالى:

 

﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾

 

[سورة النحل]

 و لكن في هذه الآية لفتة بلاغية، لم يقل الله عزوجل: و لا تحزن منهم، بل قال:

 

﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾

 

[سورة النحل]

 و فرق كبير جدا بين أن تحزن منهم، و بين أن تجزن عليهم، إن قلبه الكبير، ورحمته الكبيرة جعلته يحزن عليهم، لا يحزن منهم، لأن الحزن عليهم يعني الشفقة عليهم، يعني أنه قد رثى لحالهم، يعني أنهم قد ضيَّعوا سعادتهم في الدنيا و الآخرة، فالله سبحانه وتعالى بيَّن بحرف " على " مكانة النبي عليه الصلاة و السلام، لا تحزن عليهم، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾

 

[سورة النحل]

 أيها الإخوة المؤمنون، شيء آخر يعيق عن الصبر ألا وهو اليأس ، واليأس ليس من لوازم المؤمنين، المؤمن متفائل، المؤمن يرى فعل الله عزوجل، يرى قدرة الله عز وجل، يرى أن الله بيده كل شيء، يرى أن خزائن كل شيء بيد الله عزوجل، يفتحها متى شاء، قلت لكم في أول الخطبة: إن تقنين العباد تقنين عجز، لكن تقنين الإله تقنين تأديب، فمتى استجاب هذا العبد لهذا التأديب، وتاب إلى الله عزوجل زال التقنين، قال تعالى:

 

﴿أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾

 

[سورة الأعراف]

 و قال تعالى:

 

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

 

[سورة الجن]

 و قال تعالى:

 

﴿أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾

 

[سورة المائدة]

 إذًا التقنين تقنين تأديب، و لا بد من الصلح مع الله عزوجل، لابد من أن نصطلح مع الله، إن كل شيء يسوقه الله للإنسان إنما هو دفع إلى باب الله، إذا قصَّر، أو خالف أمره، أو حاد عن طريقه، فلا بد من تأديب يسوقه إلى بابك.
 أيها الإخوة المؤمنون، حول اليأس يقول الله عزوجل:

 

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

 

[سورة آل عمران]

 و قال تعالى:

 

﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾

 

[سورة آل عمران]

 و في آية ثانية يقول الله عزوجل:

 

﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾

 

[سورة الأعراف]

 اليأس، والغضب، والحزن، والضيق، والاستعجالُ، كلها عقبات تصرفك عن الصبر، والصبر، قال تعالى:

 

﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

 

[سورة الزمر]

 وفي أربـع آيات كما قلت قبل خطبتين، في أربع آيات وعد اللهُ الصابرين بأنه معهم، وهذه المعية الخاصة التي تعني الحفظ والرعاية والتأييد و النصر، وقد سُئل النبيُّ عليه الصلاة و السلام عن الإيمان فقال:

 

((هو الصبر))

 و شيء آخر، أخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهـــَانٌ وَالصَّبــْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))

 

[رواه مسلم]

 إذا صبرت شعرت أن الله راض عنك، فأقبلت عليه فقذف في قلبك نورا يريك حكمة هذه المصيبة، عندئذ ترضى عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((الطُّهُورُ شَطـْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمـَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))

 

[رواه مسلم]

 أيها الإخوة المؤمنون، بهذه الخطبة ينتهي موضوع الصبر، و إن شاء الله تعالى ننتقل في الخطبة القادمة إلى موضوع آخر.
 أيها الإخوة الأكارم، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، و سيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتَّخذ حذرنا، الكيَّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت، و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنَّى على الله الأمانيَّ، و الحمد لله رب العالمين.

 

 الخطبة الثانية
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، و أشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ و سلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين.
 يا أيها الإخوة المؤمنون، لازلت في الحديث عن جسم الإنسان، لأن الله سبحانه و تعالى يقول:

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾

[سورة الذاريات]

 لأنه أقرب شيء إلينا، جسم الإنسان فيه من الآيات الدالة على عظمته ما تحار به العقولُ، كلنا لنا آذان، من منا يصدِّق أن هذه الأذن الخارجية المؤلَّفة من الصوان، ومن القناة السمعية، والأذن الوسطى، بما فيها الغشاء،و العظيمات الأربع، والأذن الداخلية، فيها من دقة الصنع، وبالغ الحكمة، وعظيم القدرة ما يعجز عن فهم آليته عملها أذكى الأذكياء.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور