وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الفتح - تفسير الآيتان 1 - 2 حياة الجِسم وحياة النفس.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الأولى من سورة الفتح، وهي قوله تعالى:

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2)﴾

[سورة الفتح]

 كلُّ إنسانٍ بِحَسَبِ مرْتبَتِهِ عند الله له ذَنْبٌ يَحْجُبُهُ عن الله، فكلَّما ارْتقى مقامُ الإنسان أصْبَحَتْ صغائِرُ الذُّنوب تحْجُب عن الله عز وجل، وأصْبحَت المباحات التي يفْعَلُها مُعْظمُ الناس، وهم مُطمئِنُّون إذا قاموا بها حُجِبوا عن الله عز وجل، فما ذَنْبُ النبي عليه الصلاة والسلام ؟ وهو الذي أثْنى الله عليه فقال تعالى:

 

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾

 

[سرة القلم]

النبي عليه الصلاة والسلام مِن أعْظَمِ القُوَّاد ؛ وعالِمٌ مِن أعْظَمِ العلماء، يا أيُّها الأُمِّيُّ حَسْبُكَ رتْبةً في العِلْم أنْ دانَتْ لك العُلماء ! خطيبٌ وأعظم خطيب، وأعظمُ عالمٍ، وأعظَمُ مجْتَهِدٍ، وأعظَمُ قائِدٍ، وأعْظَمُ سِيَاسِيٍّ، كلُّ هذه الصِّفات التي توافَرَتْ فيه لم يُثني الله عليه بها، إنَّما أثْنى عليه بِخُلُقِهِ العظيم.
 التَّفسير اجْتِهادي، بعضهم قال: الله جلَّ جلاله لا نِهايةَ لِعَظَمَتِهِ، ولا نِهايَةَ لِكمالِهِ، وكلّما أقْبلْتَ إليه رأيْتَ رؤيَْةً أكْبر مِن التي رأيْتَها من قبل وكلَّما أقْبلْتَ إليه رأيْتَ مِن كماله، ومِن رحْمَتِهِ، ومن عِلْمِهِ، ومِن قدْرَتِهِ رؤيةً لمْ تكُن تراها من قبل، ذَنْبُ النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه إذا أقْبَلَ على الله إقْبالاً جديدًا رأى رؤْيَتَهُ السابقة لا تليق بالله عز وجل، فهذا هو ذَنْبُهُ، وهذا الذَّنْب يتناسبُ مع مقام النبي عليه الصلاة والسلام، فأحيانًا الإنسان إذا كان غارِقًا في المعاصي يكْفيهِ أن يَدَع شُرْب الخمْر، نقول له: هنيئًا له على هذه التَّوبة، وهو لا يزال عنده آلاف المعاصي، فهو إن ترَكَ الكبائِر نُسَمِّيهِ إنسانًا تائِبًا، الآن ترك الكبائر، ما سواها الذُّنوب، ثمّ ترَكَ الذُّنوب، هناك صغائر الذُّنوب تحْجبُهُ عن الله عز وجل، فكلَّما ارْتقى إيمان الإنسان دقَّتْ ذُنوبُهُ التي تحجُبُهُ عن الله تعالى ؛ لذا قال عليه الصلاة والسلام: لو لم تُذنبوا لأبدل الله قوما غيركم..." قد يتبادَر إلى الذِّهْن أنّ هذا الحديث يَدعونا لارْتِكاب الذُّنوب حتَّى يُغْفَرَ لنا ! لكنَّ الحديث يُشير أنَّهُ مِن خصائص المؤمن أنْ يشْعُرَ بِذَنْبِهِ، فإن لم يشْعُر فهو ميِّت، فالطَّبيب يُمْسِكُ بنَبْض المريض، فيأتي بِمِرآة فيضَعُها على أنفه فلا يرى بخار الماء، فيقول لعلَّ هذا البخار قليل جدًّا، فيأتي بِمِصباح فيَضَعُهُ في بؤْرة عَيْنهِ، فإذا لمْ تَضِق قُزَحِيَّةُ العَين يقول: هذا ميِّت ‍‍! وكذا الإنسان إن لم يشْعُر بِذَنبِهِ فهو ميِّت، قال تعالى

﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22)﴾

[سورة فاطر]

 فالذي لا يشْعُر بِذَنبِهِ هو ميِّت، قال تعالى:

 

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)﴾

 

[سورة النحل]

 والحياةُ حياتان أيُّها الإخوة ؛ حياة الجِسم، فالقضِيَّة سَهلة، وهي بِفَحْص الأعضاء أما حياة النَّفس فلا تكون بِفَحص الأعضاء، ولكن بِمَعْرِفة الله عز وجل، وحياة النَّفس بِطاعة الله، فالذي لا يعرف الله، ولا يُطيعُهُ، ويرْتَكِبُ لا ذَّنْبُ ثمَّ يقول: هل هناك مشكلة ؟! وهذا الذي يأكل مال الحرام، ويَعُدُّ هذا ذكاءً، والذي يعْتدي على أعراض الناس، ويعُدُّ هذا حَيَوِيَّةً !! فالمَعْصِيَة في زماننا أصْبَحَت حَيَوِيَّة مُتَدَفِّقة، وذكاءً وشطارةً، هذا الإنسان ميِّت عند الله تعالى.
أيُّها الإخوة، اِكْتَشِفوا حياتكم، وحياة قلوبكم، وإيمانكم مِن إحساسِكُم بالذَّنْب، إن لم تُحِسَّ بالذَّنْب فالمرضُ خطير جدًّا، قال تعالى:

 

﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)﴾

 

[سورة هود]

 فلذلك اِبْحَث عن الذي يَحْجُبُكَ عن الله تعالى، إن لم تَحْجُبهُ الغيبة، ولا النَّميمة، ولا إطلاق البصر، ولا خَلوة مع الأجنبيَّات، ولا أكل المال الحرام، فلْيَعْلَم عِلْمَ يقين أنَّهُ ميِّت، ولا خَيْر فيه إطلاقًا، فالثَّوْب الأبيَض المصنوع من الحرير، إن وقَعت عليه ذبابة وتركتْ أثرًا لظَهَر أثرها من بعيد وكذا نفس المؤمن كهذا الثَّوب، وهناك إنسانٌ آخر، يرْتدي ثوبًا أصلُهُ أزرقًا، ومن الوَحْل والزَّيت أصْبح أسْوَدًا لو جِئْتَ بِلِتر حِبْر، ووضَعْتَهُ فوقهُ فلَوْنُهُ لا يتأثَّر ! لذلك سيِّدنا عمر رضي الله عنه يقول: تعاهَد قلْبَكَ، هل تكلَّمْتَ كلمةً تَجْرح ؟ وهل في كلمة احْتِقار للآخرين ؟ فهذه السيِّدة عائشة قالتْ لأُختها صفيَّة: يا صفيّة، إنَّك قصيرة ! فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة قد قلت كلمة لو مُزِجَت بِمياه البحر لأفْسدتْهُ..." فالإنسان الذي يتَّهِم الناس، ويغْتاب النَّاس، ويتحدَّث في أعراضِهم، ذمامة وجوههم ؛ هذا كُلُّه مُحَرَّم، ولن يستقيم إيمانُ عبدٍ حتَّى يسْتقيم قلبُهُ، ولا يستقيمُ قلبُهُ حتَّى يستقيم لِسانُه، فالإنسان قد يتكلّم كلمات يُثيرُ بها الشَّهوات، والنبي قال لِفتاةٍ ترتدي ثيابًا شفَّافة: إنَّ هذه الثِّياب تكشف حجم عظْمِكِ..." هل هناك عِظام ؟! لم يُرِد أن يتكلَّم الكلام المُثير، وأنت تعرف الإنسان مِن منْطِقِهِ، شخصٌ كان يرتدي ثيابًا جميلة جدًّا، ثمَّ تكلَّم كلامًا بذيئًا، فقال له أحدهم: إمَّا أن تتكلَّم بِمُستوى ثِيابِك، وإما أن ترْتدي ثِيابًا بِمُسْتوى كلامك ! فَضَبْطُ اللِّسان جزْء من الكلام، وقد أدْرج الإمام الغزالي بابا سماه آفات اللِّسان فارْجِعوا إليها.
قال تعالى:

 

﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2)﴾

 

[سورة الفتح]

 ما تقدَّم ؛ هذه مغْفرة الشُّعور بالذَّنب، ولن ما تأخَّر هذه مغفرة وِقائِيَّة فالإنسان يمكن أن يقع بِحُفرة، فالمِصباحُ يُعفيه من الوقوع، فهذا المصباح وِقائي، وكذا إن كان لك قريبًا غنيًّا، وأنت تتوهَّم معه مليون، وهو معه ألف مليون، تُعامله على أساس مليون، فإن عُرِضَ مشروع بِثَلاثة ملايين تقول له: هذا فوق طاقتك، فإذا به يقول لك: أنا معي مائة مليون !! ألا تشْعر أنَّك لا تعرفهُ ؟ هذا مِن باب التَّقريب، وكذا لا يعرف الله إلا هو، ومهما ارْتقى الإنسان، وحتَّى سيِّدُ الأنام، ولكنَّ النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم أعْرفنا بالله تعالى على الإطلاق، ومع ذلك قال تعالى:

 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾

 

[سورة آل عمران]

 فالذي يرى الأخبار ويملأُ عَيْنَيه من هذه التي تُذيع ألا يشْعر بِشَيء ؟ هذا نوعٌ من الذُّنوب، فكلَّما ارْتقى الإنسان عند الله تضيقُ القَنَوات التي يتعامل معها، حتَّى يصل إلى الله عز وجل، فالذي يتباهى بِتَرْك الكبائر ! الكبائر بديهِيَّة جدًّا، ومُجْتَمَعُ الكُفْر موضوعٌ ثاني، أنت ضِمْن مجتَمَعٍ إسلامي، بل إنّ الشيطان نفسُه يئِس أن يُعبَدَ في أرض المسلمين لكن رضِيَ فيما نحْقِرُ مِن أعمالنا، فكلَّما ارْتقى مقام الإنسان لم يعد هناك مجال لارتِكاب الذُّنوب، إلى أن يصِل إلى المنهج القويم الذي سنَّهُ سيِّدُ المرسلين عليه الصلاة والسلام.
تأخَّر نزول الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام فقال لِعائشة لعلَّها تمرة أكلْتُها من صدقة المسلمين ! هذا هو الورَع.
 والآن تُقام سَهَرات، والاخْتِلاط، والنِّساء مع الرِّجال يضْحَكنَ، ثمَّ يقول لك: هذه كأُختي !! كلّ هذا خَلط في خَلْط، فَمَنْهجُ الله أحقُّ أن يُتّبَع، وكلمة ليغفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، لعلَّ ذَنْب النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى رؤيَة جديدة استحيا بِرُؤْيَتِهِ القديمة، وأما ما تأخَّر فهو النور الذي ألْقِيَ في قلبِهِ يقيهِ أن يقَع في الذَّنْب.
 ولكن كلمة ويُتِمُّ نعْمته عليك، أقِفُ عندها دقيقة واحدة، الإنسان عنده زوْجة ومأوى، وأولاد، وله دخْل يكفيه، لا شكَّ أنَّ هذه نِعَم، لكنَّها تنتهي عند الموت، ولكنَّ تمام النِّعمة هو الهُدى، فأنت إن اهْتَدَيْتَ إلى الله فقد أتمَّ الله عليك نِعْمتَهُ، لذلك هذه النِّعَم الدُّنْيَوِيَّة ما دامَت تنتهي بالموت فليس لها معنى النِّعمة الحقيقي، أما النِّعمة الحقيقيَّة هي أن تهتدي إلى الله، وتسعَدَ به إلى أبد الآبدين.

تحميل النص

إخفاء الصور