وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الأنبياء - تفسير الآيات 51 - 70 امتحان الله عز وجل للإنسان .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الأخوة الكرام، في سورة الأنبياء عدة قصص الأنبياء كرمهم الله عز وجل و ذكر قصصهم في هذه السورة.
 بادئ ذي بدء، القصة في القرآن لها هدف كبير، إنها حقيقة مع البرهان عليها، فالمبادئ النظرية وحدها لا تقنع الإنسان فلا بد لهذه المبادئ من تطبيقات عملية و ما القصص التي وردت في القرآن الكريم إلا تطبيقات عملية لهذه المبادئ النظرية، لذلك قال تعالى:

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)﴾

[سورة يوسف]

 و القصة أسلوب تربوي بالغ التأثير لأن الإنسان حينما يقرأ القصة يتفاعل معها لأن أبطالها بشر والله سبحانه وتعالى جعل الأنبياء من بني البشر لتقوم الحجة على البشر، قال تعالى:

 

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)﴾

 

[سورة التوبة]

 و قال تعالى

﴿:قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾

[سورة فصلت]

 فكل الظروف التي تحيط بنا تحيط بالرسل و كل الضغوط يتحملونها، و البيئات يعيشونها و الملابسات يمرون بها فلذلك حينما ينتصرون على أنفسهم يكون الأنبياء حجة علينا، والنبي صلى الله عليه وسلم بشر و تجري عليه كل خصائص البشر لهذا حينما انتصر على نفسه كان سيد البشر، ولا يقنع الإنسانَ أن يكون النبي ملَكا، فلا بد من أن يكون من بني البشر، يشتهي كما نشْتهي، ويُحِبّ كما نُحِبّ، ويغْضب كما نغْضَب، ولكنَّه انْتصَر على نفْسِهِ وسار على منهَج الله، ودعا إلى الله، لذلك نحن جميعًا حينما نقفُ أمام قبْر النبي عليه الصلاة والسلام نقول: نشْهَد أنَّك أدَّيْتَ الأمانة وبلَّغْتَ الرِّسالة ونصَحْت الأمَّة، وكشَفتَ الغُمَّة، وجاهَدْتَ في الله حقّ الجِهاد، وهَدَيْتَ العِباد إلى سبيل الرَّشاد.
 الآن تنشأ عِدَّة أسئلة ؛ طبْعًا هذه الأسئلة تُثيرُها هذه القِصَّة، النبي صلى الله عليه وسلَّم قالوا عنه ساحِر، وقالوا عنه مَجْنون، وقالوا عنه كاهِن ؛ هذه التُّهَم التي ألْصَقَها كُفَّار مكَّة للنبي عليه الصلاة والسلام لماذا أثْبَتَها الله في القرآن الكريم ؟ لِيُتْلى إلى يوم القيامة، والحقيقة أنَّ الله تعالى أثْبَتَها لِيَكون النبي صلى الله عليه وسلَّم أُسْوَةٌ لنا، فهذه القِصَّة التي جَرَت مع سيِّدنا إبراهيم، كانت مِحْنةٌ شديدة أن يؤمر هذا النبي الكريم بِذَبْح ابْنِهِ، ومِحْنةٌ شديدة أن يُلْقى في النار، فما الحِكمة مِن ذِكْر هذه القِصَّة في القرآن الكريم ؟
 هؤلاء الأنبياء جَعَلهم الله مُثُلاً عُلْيَا، وجعلهم الله تعالى أبْطالاً كي نقْتَدِيَ بِهِم، قال تعالى:

 

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 كلمة آتَيْنا أنَّ الرُّسُل لا يُكْتَسَبوا اكْتِسابًا، ولكن يُؤتى إيتاءً ‍، فَكُلّ مَن اسْتَقام على أمر الله، وأقْبَلَ عليه يُؤتى الرُّشْد ويُؤْتى الحِكْمة، قال تعالى:

 

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾

 

[سورة البقرة]

 وقال تعالى:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ(32)﴾

 

[سورة محمد]

 فالكافر لا بدّ أن يفْعَل فِعْلاً أحْمقًا، ولا بدَّ أن يكون تَدْبيرُهُ في تَدْميرِهِ، ولا بدّ مِن أن يرْتَكِبَ عمَلاً جُنونِيًّا، ولا بدّ مِن أن يفْقِدَ الحِكْمة ؛ لأنّ الحِكْمة لا تأتي بالذَّكاء، ولا تأتي بِالخِبْرات ولكن تُؤْتى إيتاءً مِن الله عز وجل، فالله جلَّ جلاله إمَّا أن يُؤْتِيَ الحِكْمة وإما أن يحْجُبَها، وإما أن يأتي رُشْدَ الإنسان وإما أن يحْجُبَ عنه الحُجْب، فإذا أراد ربُّك إنْفاذَ أمْرٍ أخَذَ مِن كلّ ذي لُبٍّ لبَّه، قال تعالى:

 

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 لذا كلمات آتيْنَا ووَهَبْنا لا تعني أنَّها تأتي كَسْبًا، فالابن الصالِح لا يأتي كَسْبًا، قال تعالى:

 

﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 ." والحِكْمة لا تأتي كَسْبًا وإنَّما إيتاءً وكذا الرُّشْد، قال تعالى:

 

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 أيْ أنَّ إيتاء الله عز وجل وِفْق عِلْمٍ وحِكْمة والله جلَّ جلاله لا يُعْطي الأشياء جُزافًا، ولِمَن يسْتَحق ومن لا يسْتَحِق ! هذا ليس مِن شأن الإله، فالعَوام يقولون أحيانًا كلمات هي كُفْر ؛ كأن يقول أحدهم الله تعالى يُعطي الحلاوة للذي ليس له أضْراس !! هذا الكلام يعني أنَّه الحِكمة الإلهيَّة غير موجودة ! أما الله تعالى فيقول:

 

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 قال تعالى :

 

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 لذلك ماذا يقول الشيطان ؟ قال تعالى: لأقْعُدَنَّ لك، فهناك سِتَّة جِهات ؛ الأولى نحو الأعلى وجِهَة نحو الأسفل، وجِهة عن اليمين وأخرى عن الشِّمال، وأخرى من الأمام والوراء، فالله عز وجل في هذه الآية أغْفل الجِهَة العُليا وأغْفل الجِهَة السُّفلى ‍! لماذا ؟ لأنّ الطريق الواصِل إلى الله عز وجل لا يمْكن أن يكون فيه شيطان، أما الجِهَة السُفلى فيض جِهة الافْتِقار إلى الله، وجِهة التَّذلُّل والانْكِسار والعبودِيَّة، وهذه الجِهة لا يستطيعُ الشيطان أن يأتِيَ منها، لذا جِهتان مَصونتان عن الشَّيطان وكَيْدِهِ جِهَة العلوّ، وجِهة الانْكِسار والافتِقار إلى الله عز وجل، أما قوله تعالى:

 

﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)﴾

 

[سورة الأعراف]

 بِاسْم الحداثة والعَصْرَنَة، وعصْر تقدُّم الإنسان تُرْتَكَب المعاصي والآثام، والفسْق والفُجور، فالشَّيْطان أحَدُ أكْبر مآخِذِهِ على هذا الإنسان بِدَعْوى التَّجْديد والتَّقدُّم والحضارة والعَصْرَنَة، ومِن خلفِهِم إذا كانت هناك عادات وتقاليد تُخالف الدِّين فالتَّمَسُّك بالعادات والتقاليد والتُّراث والأصالة وما إلى ذلك إذا كانت هناك مخالفات في الدِّين ؛ كان هذا أيضًا بابًا من أبواب الشيطان، قال تعالى:

 

﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)﴾

 

[سورة الأعراف]

 الشَّمائل هي المعاصي مِن خَمْر والزِّنا والفُجور، أما عن أيمانهم فقد يقول الشيطان للإنسان أنت مَكتوبٌ عليك بالشَّقاوَة مِن الأجَل، وهذه الصلاة التي تُصَلِّيها ليسَت هي الصلاة المطلوبة، إذًا لا تُصَلِّ !! فالشيطان إما أن يأتي عن اليمين أو عن الشِّمال، أو مِن الأمام أو مِن الوراء، لذلك قال تعالى:

 

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا ))

 

[رواه الترمذي]

 فالله عز وجل أعْظَمُ مِن أن تَعْصِيَهُ مِن أجل تقاليد وعادات، أحَدُ كِبار العلماء قال: والله ما مِن رجلٍ أحبُّ إليّ مِن شَيْخي فلان، ولكنَّ الحقَّ أحبَّ إليَّ منه ! فإذا كانت التقاليد وِفْق المنهج فلا مانِع، أما إذا صادَمَت المنهَج الإلهي والتشريع فلا نعبأُ بها، أنت لسْتَ عَبْدَ البيئة، ولا عبْدَ التقاليد ولا عبْدَ العادات ولكنَّك عبْدُ الله عز وجل، فالمؤمن الحرّ لا يستجيب إلا لأمْر الله عز وجل، وهناك قِصَّة شَهيرة جدًا، ولها مغْزى كبير، عَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ:

 

(( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ فَقَالَ أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا فَقَالَ ادْخُلُوهَا فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ))

 

(رواه البخاري)

 فالإنسان عليه أن يُعْمِلَ عَقْلهُ وقد ورَدَ في الأثَر أنَّ الله تعالى قال: ما خلَقْتُ خلْقًا أحبّ إليّ من العَقل، بِكَ أُعْطي وبِكَ آخذ ! فالإنسان إذا أعْمَل عقْلَهُ سَعِد، وإن عطَّلهُ شَقِي قال تعالى:

﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) ﴾

[سورة الأنبياء]

 لأكيدنَّ أصْنامكم ؛ أيْ سوف أُريكُم بِدَليل قَطعيّ أنَّها أحجار لا تنفعُ ولا تضرّ وسوف أحْمِلُكم على النُّطْق بأنَّها أحْجار، فلمَّا كسَّر هذه الأصْنام ووضَعَ الفأس في عُنُق كبيرِهم، قال تعالى:

 

﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) ﴾

 

[سورة الأنبياء]

 فَحَمَلهم على الاعْتِراف بأنَّ هذه الأصنام حِجارة لا تنفعُ ولا تضرّ.
 أحد الأعراب كان له صَنَم مِن تَمْر، فلمَّا جاعَ أكلَهُ فقالت العرب: أكلَتْ وُدٌّ ربَّها، وأحدُ الرِّجال في الجاهِلِيَّة رأى صنمهُ قد بال عليه ثعلبان، فقال:

 

أإلـه يبول الثُّعلبان بِرأسِهِ لقد  ضلّ مَن بالتْ عليها الثعالبُ
***

 فالإنسان لا حقَّ له أن يؤمن بِشَيء لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يُحيي ولا يُميت.
 قال تعالى:

 

 

﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 وقرأْتُ تعليقًا لِشَيْخ الأزْهر عن حديث شريف فَحْواه أنَّ هذا النبي الكريم قد كذَب فقال هذا العالم: والله لأنْ أتَّهِم الراوي بالكَذِب أهْوَنُ عليَّ مِن أن أتَّهِمَ نبيًّا بالكذِب.
 قال تعالى:

 

﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) ﴾

 

[سورة الأنبياء]

 الله عز وجل سَمَح لهم أن يُلقوا القبْض عليه، وسَمح لهم أن يُبْرِموا نارًا عظيمة، وسمَحَ لهم أن يُلْقوهُ في النار، فالسُّؤال الآن: أليْس الله قادِرًا على أن يُخْفِيَهُ عن الأنظار كما فعَلَ بِسَيِّدنا عيسى، قال تعالى: وما قتلوه وما صلبوه، فَلِمَ مكَّنَهم الله مِن القبْض عليه؟ ومِن إبرام النار ؟ أليْسَ الله قادِرًا على أن يُرْسِلَ أمطارًا غزيرة تطفئ نيرانهم ؟ هذه القصَّة دقيقة جدًّا فالله عز وجل أحْيانًا يُقَرِّبُكَ مِن الخَطَر، لِيَمْتَحِنَ إيمانك، فهذا سيّدنا موسى مع أصْحابِهِ، قال تعالى:

 

﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي(62)﴾

 

[سورة الشعراء]

 فرعون وما أدْراكم ما فرعون بِجَيْشِهِ وحِقْدِهِ وجبَروتِهِ واسْتِعلائِهِ وجَيْشِهِ الجرار وراء شِرْذِمَة قليلة وخائفة، تهرب منه والبحر أمامها وفرعون وراءَها ؛ ماذا قال أصْحاب موسى ؟ إنا لَمُدْرَكون ! والنبي عليه الصلاة والسلام في معركة الخندق قال أحدهم: أيزْعم صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد قيْصر وكِسْرى، وأحدُنا لا يأمنُ أن يقْضِيَ حاجتَهُ ؟! قال تعالى:

 

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾

 

[سورة الأحزاب]

 فالله تعالى أحيانًا يُقَرِّبُك من الخطَر، وكلمَّا قرَّبَك أكْثر وكنت ثابتًا فمعنى هذا أنَّك نَجَحْتَ ولذا قال تعالى:

 

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾

 

[سورة العنكبوت]

 فالله تعالى سوف يضَعُكَ في امْتِحانٍ دقيق دقيق تُكْشَفُ حقيقة إيمانِك، فكما أنّ المعادن كالإسْمنت تُجَرَّب قُوَّتها بآلات، وكذا كل مؤمن له درجة ينكَسِر فيها، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام في طريقه إلى المدينة كان مُلاحَقًا ودَمُهُ مَهْدورًا، ومائة ناقةٍ لِمَن يأتي بِهِ حيًّا أو ميِّتًا يتْبَعُهُ سُراقة فيقول له: يا سراقة كيف بِك إذا لبِسْتَ سِوارَي كِسْرى ؟! النبي عليه الصلاة والسلام كان واثِقًا من وُصوله المدينة، وسَيُقيم دولة، ويُنشأُ جيشًا، وسيَنْتَصر على أكبر قوَّة في العالم، وستأتي صحابتُهُ بِكُنوزِ كِسرى وتاجهِ وسِواراه وقميصهِ، وهكذا كان الحال فلمَّا جاءت كُنوز كِسرى لِسَيِّدنا عمر قال: أين كُنوز كِسْرى ؟ فألبسَهُ القميص والتاج والسِّوارين، وقال: أُعَرابِيٌّ مِن بني مَدْلَج يلْبِسُ سِواري كِسرى ؛ بَخٍ بخٍ ! فالأنبياء ثِقتهم بالله تعالى كبيرة، فالنبي وهو في هِجْرته يقول هذا الكلام، وبعد الطائِف يقول له سيِّدُنا زيْد: كيف تعود إلى مكَّة وقد أخْرَجوك ؟! فقال: إنَّ الله ناصِر نبيِّه! هؤلاء هم الأنبياء ؛ واثِقون مِن نَصْر الله، وواثِقون مِن أنَّ الله تعالى لن يتخلَّى عنهم، واله تعالى لا يدَعُ دينَهُ للكُفار، قال تعالى:

 

﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا(141)﴾

 

[سورة النساء]

 فالآن يقول لك ضِعاف المؤمنين: انتهى الإسلام !! والعالم كلّه ضِدّه ! ومن قال لك هذا ؟ إذا كان الله معك فَمَن عليك ؟ وإذا كان عليك فَمَن معَك ؟ فالله سَمَح للكفار أن يُلْقوا القبْض على سيِّدنا إبراهيم، وسمَحَ للنار أن تشْتعِل، وسمَحَ لهم أن يُلقوه في النار !!! فكانت كلمة مِن الله تعالى، قال تعالى:

 

﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾

 

[سورة الأنبياء]

 قال العلماء: لو قال الله يا نار كوني برْدًا لمات مِن البرْد.
 درس اليوم معناه أنَّ الله تعالى أحْيانًا يمْتَحِنُك، ويُقَرِّبُكَ من الخطر لِيَمْتَحِنَ إيمانك، والمؤمن مهما أحاطت بِهِ المِحضن فَهِيَ مِنَح، والشِّدَّة عنده شدَّةٌ إلى الله عز وجل، ونحن بِحاجة ماسَّة إلى ثِقَةٍ بالله عز وجل، وأنَّ الله لا يتخلَّى عنَّا، وأنَّهُ يُحِبُّنا، ولكن عليكَ أن تُطيعه ونحن إن لم نقْبل بالاسْتِقامة فلْنَسْتَعِدّ للمتاعِب، قال: عظني ولا تُطِل..." وعلى قدْر طاعة لله عز وجل يأتيك النَّصر والتَّطْمين.
 قال تعالى:
ً

﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) ﴾

[سورة الأنبياء]

 والله تعالى يقول:

 

﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12(﴾

 

[سورة آل عمران]

 الكفار جميعًا أين هم الآن ؟! في مَزْبلة التاريخ ! أين أبو لهب ؟ وأبو جهْل ؟ ولكن أين أبو بكر ؟ إلى جنب المصطفى عليه الصلاة والسلام.

 

كن مع الله ترى الله معك  واتْرُكِ الكُلّ وحاذِر طمَعَك
وإذا أعْطاكَ مَن يَمْنَعُــهُ  ثمّ مَن يُعطي إذا ما منَعَك
***

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور