وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة المؤمنون - تفسير الآيات 30 - 34 ملَّة الكُفْر واحِدَة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الأخوة الكرام، لازِلنا في سورة المؤمنون، وننتقل اليوم إلى قصَّة جديدة مِن قِصص الأنبياء، يقول الله عز وجل :

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)﴾

[ سورة المؤمنون ]

 تَحَدَّثتُ البارحة عن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:

((مِلَّة الكفر واحِدَة ))

 الكفار والفُجَّار والعُصاة، في أيِّ مكانٍ، وفي أيِّ زمانٍ، وفي أيِّ ظرْفٍ قديمًا، وحديثًا، وفي أيِّ جِهَةٍ ينطَلقون مِن مَقولاتٍ واحِدَة ويتَّهِمون اتِّهاماتٍ واحِدَة، ويتصوَّرون تصَوُّراتٍ واحِدَة، ويعْتَقِدون اعْتِقاداتٍ واحِدَة.
 قال تعالى:

 

﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 دقِّق في أتْرفناهم، التَّرَفُ في القرآن الكريم ورَدَ ثمانِيَة مرَّاتٍ حصْرًا، لو فَتَحْتَ المعْجم المُفهْرس على كلمة سرِف لوجَدْتَ أنَّ هذا الفِعْل وردَ ثماني مرَّاتٍ حصْرًا، وإذا رجَعْتَ إلى الآيات كُلِّها التي وردَت فيها كلمة التَّرف لا تجِدُ كلمة ترف إلا مع الكُفْر ! لذلك يقول الله عز وجل:

 

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31)﴾

 

[ سورة الأعراف ]

 وقال الله عز وجل:

 

﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)﴾

 

[ سورة الإسراء ]

 فالمُتْرف مُسْرِف ومُبذِّر، فهو مُسْرفٌ في المباحات ؛ في طعامه وشرابِهِ وسفرِهِ وسهراتِهِ، ومُبذِّر في المعاصي ؛ في الحفلات المُخْتلطة، ودور اللَّهْو وفي شرب الخمور، والتعامل بالربا والقِمار، لذلك الإنسان منْهي أن يكون مُسرفًا في المباحات، ومنهي أن يكون مُبذِّرًا في المعاصي فالمُتْرف مُسْرِف ومُبذِّر، وقُرِنَ مع الكفْر في ثماني آياتٍ حصْرًا، وهذه أحد الآيات، قال تعالى:

 

﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 فالإنسان ممكن بمائة ليرة يجلب مليارا، أو هذه المائة يُنفقها على وجْبة طعام واحِدَة يأكلها وتنتهي، فالذي معه المال الفائِض يُمكن أن يصل بِمَالِهِ إلى أعلى درجات الجنَّة، ولكنَّه يُنفقهُ إسْرافًا ويسْتهْلِكُه اسْتِهلاكًا رخيصًا، كُلْ واشْرَب وتزوَّج ولكن إيَّاك أن تسْرف أو تبذِّر لأنَّ الفائِض النَّقدي يُمكن أن تتقرَّب به إلى الله تعالى، فهذا بن عوفٍ رضي الله عنه يقول: حبَّذَا المال، أصونُ بِهِ عِرْضي، وأتقرَّبُ به إلى ربِّي فهذا الصَّحابي حدَّد وظيفتان للمال ؛ صِيانة العِرْض ؛ أُنْفقُهُ على زوْجتي وأولادي، وأشْبِعُهم، وأكْسوهم، وأُقرِّبهم من الله عز وجل، والوظيفة الثانية التَّقرّب به إلى الله تعالى، فهذه هي وظيفة المال، فالذي معه المال الفائض يُمْكن أن يصِل به إلى أعلى الدَّرجات، عن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا))

 

[رواه البخاري]

 فالذي يتْرف ماله يلتقي مع الكُفَّار، أما إذا وظَّف مالهُ في خِدْمة الخَلق ارْتقى إلى الحقّ، لذلك يوم القيامة يوقِفُ الله رجلين غَنِيَّيْن، يقول لأحدهما: عبدي أعْطيتُكَ مالا فماذا صَنَعتَ فيه ؟ " والله ترك أحدهم مالا لا تحرقه النيران كما يقولون، ثمّ بعد بضعة سنوات أصبح أولاده فقراء وبالمقابل ترى أُناسًا توَفَّاهم الله فأكْرم الله أولادهُ حتَّى جعلهم في أعلى عِلِيِّين، عِلمُ وغنَى، وأدب وتَقوى، فالذي يُنفق ماله في حياتِهِ يتولَّى الله أولاده مِن بعد مماتِهِ، وأنْدَمُ الناسِ رجُل عاشَ فقيرًا لِيَموت غنيًّا وأندَمُ الناس رجل دَخَل ورثَتُهُ بِمَالِه الجنّة، ودخَل هو بِمالِهِ النار، فالمال الحرام ورِثوه حلالاً، فتزوَّجوا، وتصَدَّقوا، ودخلوا الجنَّة بِمالهِ وصاحِب المال الذي جمعه دخل النار بِمالهِ !!
 أيُّها الأخوة الكرام، دَقِّقوا لما يقوله: الإسراف في المباحات ؛ في الطعام والشراب واللِّباس، والبيوت، والحفلات في المباحات، وعرس يُكَلِّف عشرين مليونًا !! واللهِ الذي لا إله إلا هو بِمِئتان ألف نُزَوِّج شابًّا، فكم مِن شابٍّ نُزَوِّجُهُ بالعشرين مليون ؟!! كم من شابٍّ يتلوَّى على زوْجة ؟! يُحْصِنُ بها نفْسَهُ، حضَرتُ عقْدَ قِرانٍ أكْبرْتُ أصْحابَهُ، فقد قام صاحب العرس وقال: لقد وضَعتُ لكم هدايا قيمتها سبعة مئة ليرة لكلّ واحدٍ منكم وقد عزمْتُ ألف شخْصٍ، وهذا المبلغ الذي كنت ناوٍ إهْداءكم إياه أعْطيْتُهُ لِعالٍمٍ - قيمة المبلغ سبعمائة ألف ليرة - كي يُزَوِّج به الشَّباب !! فهؤلاء هم المُسرفون، ولو في المباحات.
 وإذا كان الأمر في المحرَّمات أصبح تبْذيرًا، فلو كان العرس مُختلَط وهناك راقِصات وخُمور، وعلى البِطاقة الطَّيِّبون للطَّيِّبات، فإذا كان العرس على هذا الشَّكْل أصْبَحَ تبْذيرًا، وكلاهما أخوة الكُفر، قال تعالى:

 

﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 لو أنَّ الله أرسَلَ ملكًا وأمرهم بِغَضِّ البصَر، ما صدَّقوه، ولقالوا له: أنت ملَكٌ ونحن بشَر !! وكذا لو أمرهم بالصِّدْق، ولكن ينبغي أن يكون الرسول مِن بين البشَر، لولا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام مِن بني البشَر تجري عليه كلّ خصائص البشَر لما كان سيِّد البشَر، فجَميع الشَّهوات التي أوْدَعَها الله فينا أوْدَعَها في الأنبياء، وجميع الرَّغبات ومع ذلك ضَبطوا أنفسهم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا مَا وَارَى إِبِطُ بِلَالٍ ))

 

[رواه ابن ماجه]

 فالإنسان إذا كان بشرًا وانْتصَر على بشَرِيَّته يرقى عند الله تعالى، أما إذا انْتصَرَت عليه شَهَواته يسفل إلى أسفل السافلين، قال تعالى:

 

﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 هيْهات اسم فعل ماض بِمَعنى بَعُدَ، أنا لا أعْتَقِد أنَّ في العالم لإسلامي مَن يجرأ أن يقول: ليس هناك آخرة، فالتَّكذيب اللَّفظي لا يوجَد، ولكن لو دقَّقْتَ في حياة الناس لوَجَدْت باليقين القَطعي أنَّ الآخرة ليسَت داخِلة في حِساباتهم إطلاقًا، فالذي يأكل المال الحرام هل يؤمن بالآخرة ؟ والذي يعْتدي على أعْراض الناس هل يؤْمِن بالآخرة، والذي يبْني مَجْدَهُ على أنقاض الناس ؛ هل يؤمن بالآخرة ؟ والذي يشتري هذا الصحن المقعَّر هل يؤمن بالآخرة لذلك التَّكْذيب العملي أخْطر مِن التَّكذيب القولي والعِبْرة ليس بالكلام ولكن بالأفعال.
 لو أنَّك ذَهَبتَ إلى طبيب، ووصَفَ لك وصْفةً فصافَحْتَهُ بِحَرارة ولم تشْتر الوَصْفة لاعْتِقادِكَ أنَّه لا يفْهم بالطِّب، فأنت بهذا الفِعل تُكَذِّبُهُ رغْم أنَّك تحترِمُهُ في الظاهِر، فالتَّحذير الآن لا مِن التَّكذيب اللَّفظي، ولكن مِن التَّكذيب العَمَلي، ومِن أن يكون السُّلوك لا يؤكِّدُ لك إيمانَك بالآخرة يقول أحد العلماء الكِبار: تَرْكُ دانِقٍ مِن حرام خير من ثمانين حجَّة بعد حجَّة الإسلام ! فما بال الذين يغْتَصِبون البيوت والأموال، ويَعِدون الناس بِنَجاح الدَّعْوة وهي خاسِرَة علم يقين، وهم يعلمون أنَّها خاسِرَة ويأخذون الأموال !! وهؤلاء الأطِبَّاء الذين يطْلبون تحاليل ليسَ المريض بِحاجة إليها، وهؤلاء التُّجار الذين يَغُشُّون !! فالدِّين بالأسواق والمحاكِم والمحلاَّت، والمسْجد مناسبة لِقَبض الثَّمَن فقط، أما العمل في الخارج.
 أيها الأخوة، ملَّة الكُفْر واحِدَة، قال تعالى:

 

﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 الآن دقِّقوا، قال تعالى:

 

﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 الدنيا عند الكافر هي كلّ شيء، أحدهم جلسَ بِحَديقة بأمريكا، وكان من المشايِخ، فجاء رجل وجلس أمامه،وطلب منه أن يُحَدِّثه عن الإسلام ولمَّا أتمَّ هذا الشيخ الكلام، أخرج ذاك الرَّجل بعض الدولارات وقال له هذا هو رَبِّي !! فالدنيا عندهم كلّ شيء، فقولهم الدَّراهِم مراهم هذا كلام الشَّيْطان، قال تعالى:

 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾

 

[ سورة الحجر ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

تحميل النص

إخفاء الصور