وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة يوسف - تفسير الآية 6 تأويل الأحاديث.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الأخوة الكرام، ففي الآية السادسة الكريمة من سورة يوسف وهي قوله تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)﴾

(سورة يوسف)

 نقِفُ في هذه الآية عند كلِمَةٍ واحِدَة ؛ ويُعَلِّمُكَ من تأويل الأحاديث، إذْ هناك مَن يَفْهم النَّص فهْمًا يُهْلِكُهُ، وهناك آخر يَفْهَمُ النَّص فهْمًا يُسْعِدُهُ فالحديث شيء، وتأويلُهُ شيء آخر، مثلاً: لو أنَّك فهِمْتَ قوله تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)﴾

[سورة الشمس]

 إذا فَهمْتَ أنَّ الله يُلْهِمُ العَبْد الفُجور، ويُجْبِرُهُ عليه فأنت هنا وَقَعْتَ في شرِّ عقيدة ؛ عقيدة الجَبْر، وعَزَوْت إلى الله تعالى كل الأخْطاء وتقول: هكذا يُحِبّ الله !! يشْرب الخمْر ويقْطع الرَّحِم، ثمَّ يقول لك: هكذا يُحِبّ الله !! إذا فَهِمْتَ هذه الآية على أنَّها جَبْر هَلَكْتَ وأهْلَكْتَ، أما إذا فَهِمْتَ هذه الآية على أنَّها الفِطْرة فالنَّفْسُ إذا فَجَرَتْ تَعْلَمُ أنَّها فَجَرَت من دون أن يُعْلِمَها أحَد، فالله ألْهَمَها أنها فَجَرَتْ ؛ الكآبَة، والشُّعور بالذَّنْب، والنَّقْص، ومُرَكَّب النَّقْص، فهذه المشاعِر الداخِلِيَّة هي دليل الفِطْرة السَّليمة، وهي أنَّ الإنسان إذا انْحَرَفَ عن مبادئ فِطْرتهِ عذَّبَتْهُ، فشَتَّان بين أن تَفْهَمَ الآية على أنّ الله تعالى أجْبَرَكَ على الفُجور، وبين أنّ الله تعالى فَطَرَكَ فِطْرَةً عالِيَة ؛ إذا فَجَرَتْ تتألم، فالله تعالى خلقك ومنَحَك، وخيَّرَك، وفَضْلاً عن كلّ ذلك فطرَكَ فِطْرَةً عالِيَة، بِحَيث لو أنَّك انْحَرَفْتَ عن مبادئ الحق عذَّبَتْكَ فِطْرتك، فالنَّص شيء، وتأويلُهُ شيء آخر.
 مثلاً آخرَ، قال تعالى:

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)﴾

(سورة فاطر)

 يقول لك: أضَلَّهُ الله ! بِحَسَبِ الظاهر أنَّ الله تعالى هو المُضِلّ، فالله خلقَ الكَوْن لِيَهْدِيَنا إليه فَكَيْفَ يُضِلُّنا عن ذاتِه ؛ مُسْتحيل وهذا لا يَقْبَلُهُ العَقْل، لكن هذه الآية تَفْسيرُها أنّهُ إذا عُزِيّ الإضْلال إلى الله عز وجل فَهُوَ الإضْلال الجزائي المَبْنب على إضْلال اخْتِياري ! قال تعالى:

﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)﴾

[سورة الصف]

 فلو أنَّ طالبًا كان مُنْتَسِبًا إلى الجامعَة، ولم يُقَدِّم الفحْص وما داوَمَ فأنْذَروه أوَّل مرَّة وثاني مرَّة وثالث مرَّة، حينها صدر قرارٌ فيه على ترقيم قَيْدِهِ، وإلغاء اسمه من الجامعة، هذا القَرار تَجْسيدٌ لِرَغْبَةِ الطالب، وعلى هذا إذا عُزِيَ الإضْلال إلى الله عز وجل فهذا الإضْلال الجزائي المَبْني على ضلال اخْتِياري، لذا لو اعْتَقَدْت أنَّ الضلال من الله تعالى، فقد وَقَعْتَ في شرِّ عقيدة، وهي عقيدة سوء الظنّ بالله عز وجل.
 مَثَلٌ ثالث، قال تعالى:

﴿أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(31)﴾

[سورة الرعد]

 ظاهِر الآية يُشْكِل علينا، ولكِنَّ المَعْنى ليس كذلك، فلو أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يُلْغِيَ اخْتِيارَكم وتَكْليفَكم، والأمانةَ التي حَمَلْتُموها وطبيعة العلاقة التي بينكم وبينه، وأراد أن يُجْبِرَكم على شيء ما لأجْبَرَكم على الهُدى، لو شاء الله أن يُلْغِيَ اخْتِيارَكم لأجْبرَكُم على الهُدى، فلو أراد مثلاً رئيس الجامِعَة أن يُنْجِحَ الطلاب لكانت القَضِيَّة سَهْلَةً جدًا، يُوَزِّع أسئلة مع الأجْوِبَة، وما للطالب إلا أن يكْتب اسْمهُ ! فهل لِهذا الهُدى قيمة ؟! هذا هُدى الإجْبار، الله تعالى شاء لك أن تَسْعَد في جنَّته إلى أبَدِ الآبِدين، لذلك أعْطاكَ حُرِيَّة الاخْتِيار، ومنَحَكَ الشَّهوات لِتَرْقى بها صابِرًا أو شاكِرًا إلى ربّ الأرض والسماوات.
 وقال تعالى:

﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾

(سورة السجدة)

 شيء عظيم جدًا أن يُعَلِّمَكَ الله تعالى تأويل الأحاديث، فالمؤمن ولو سرق وزنى يدْخل الجنَّة، لأنّ الإسلام يَجُبّ ما قبلهُ.
لذا أيها الأخوة الكرام، يُمْكِن أن تَفْهَمَ نَصًّا يُتْلِفُكَ، أحَدُهم قرأ شفاعتي لأهْل الكبائر من أُمَّتي، فأصْبح يقول: بادِر إلى الكبائر مِن أجل أن تنال شفاعة النبي عليه الصَّلاة والسلام.
 وذكر البخاري في صحيحه:

((عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ يَغْفِرُ لَهُمْ ))

[ رواه مسلم ]

 فهل المعنى أن نُذْنِبَ ؟! الإنسان إذا أذْنَبَ ولم يشْعُر بِشَيْءٍ، فهذا ميِّت لذا مَعْنى لولا تُذْنِبون أي لو لم تَشْعُروا بِذُنوبِكم، اِغتاب وافْترى ونمَّم ثمّ نام وهو مُرْتاح، فَعَلامةُ الإيمان أن يرى المؤمن الذَّنْب كالجَبَل وعلامة النِّفاق يرى الذَّنْب كَذُبابَة !
أخْطَر شيء أن تَفْهَمَ النَّص لِوَحْدِك، ومِن دون مُعَلِّم، وفهْمًا على هواك، يقول لك: قال تعالى:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130)﴾

[سورة آل عمران]

 فأنا آكُل الرِّبا خمْسة بالمائة !! عُلماء الأصول قالوا: هذا قَيْد وَصْفي وليس احْتِرازي، أي لا تأكُلوا الرِّبا الذي مِن خصائصِه أنَّهُ أضْعافًا مُضاعَفَة.
 وقال تعالى:

﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ(33)﴾

[سورة النور]

 طيِّب إن لم يُرِدْنَ تَحَصُّنًا، فَهَل تُكْرِهُهَا على البِغاء ؟‍ النُّصوص القرآنِيَّة لِحِكْمَةٍ أرادها الله تعالى جَعَلَها في مُعْظَمِها قَطْعِيَّة الدَّلالة وجعل بعْضَها ظَنِيَّة الدَّلالة، فلو قُلْتَ لِواحِدٍ: اعْطِني ألف دِرْهَمٍ ونصْفه ! على ما تعود الهاء ؟! على الدِّرْهم أم على الألف ؟! فلو قال لك: على الدِّرْهم هنا تكون قد امْتَحَنْتَ بُخْلَهُ وكَرَمَهُ دون أن يشْعُر لأنَّكَ جئْتَ بِصيغَةٍ ظَنِيَّة.
 فالله تعالى يَمْتَحِنُنَا، ويأتي بِنَصّ ظَنِيّ الدَّلالة، وكُلّ إنسان يُدْلي بِدَلْوِهِ فإذا الواحِد كان مُنْحَرِفًا فَهِمَ النَّص مُنْحَرِفًا، قال تعالى:

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(7)﴾

[سورة آل عمران]

 درْسُا اليوم تأويل النُّصوص، فالواحِد لا حقَّ له إن كان النَّص في ظاهِرِهِ يَبْدو خِلاف المألوف والمَعْقول، وخِلاف رحْمة الله تعالى وعدالَتِهِ وحِرْصِهِ على هُدانا، يتوجَّب عليك أن تسأل أهْل الذِّكْر إن كنتم لا تعْلمون، من قبل أن يخْلُقَكَ الله كتَبَ عليك ما سَتَفْعَلُهُ شئْتَ أم أبَيْتَ ؟!!! فالله تعالى ما قال هذا ؛ قال تعالى:

﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12)﴾

[سورة يس]

 كلامٌ جميل جدًا ؛ نَكْتنُب فِعْل مُضارِع، فَبَعْدَ أن فَعَلْتَ الشيء وأصْرَرْتَ عليه، ولا اسْتَغْفَرْتَ ولا نَدِمْتَ، حينها يُسَجَّل عليك فالتَّسْجيل بعد الفِعْل، وليس قبل أن تُخْلَق، عقيدة الجبْر عقيدة فاسِدَة قال تعالى:

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾

[سورة الأنعام]

 هذه عقيدة الشِّرْك.
 فَدَرسُنا اليوم كما قال تعالى:

 

﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)﴾

 

[سورة يوسف]

 فالأحاديث شيء، وتأويلُها شيء آخر، وكُلٌّ على حسب ظنِّه ومَعْرِفَتِهِ بالله تعالى، فلو أنَّ أخًا أحْضر لِهذا المَسْجِد كلّ شيء، ثمَّ مدَّ يدَهُ إلى أحد الألبِسَة الموضوعة وأخذ عَشْر لَيْرات، هل تَقول سرَّاق ؟ لقد أنْفقَ مائة ألف، فهل يُعْقَل أن يَذُلّ نفْسَهُ على عَشْر ليْرات ؟ فالإنسان يُؤَوِّل بِحَسَب حُسْن ظَنِّهِ، لذا مَن عرف الله تعالى أوَّل الآيات بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بالله تعالى، ولا تَقُل كان النبي عليه الصلاة والسلام ماشي بالطريق ورأى بابًا نَفْتوحًا، وفيه امْرأة تَغْتَسِل عارِيَةً، وجميلة جدًا، فلَفَتَتْ نظَرَهُ، فقال: سبحان الله ! فطلَّقَها الله من زوْجِهَا وأخَذَها مُحَمَّد !!! هذه ليس أخلاق نُبُوَّة، هذه أخلاق أشْخاص يتعلَّقون بالنِّساء، وهذه القِصَّة باطلة ولا أساس لها، وهي من فِعْل الزَّنادِقَة، فأنت إذا عرَفْتَ مقام النُبُوَّة كان لك أن تُفَسِّر الأحاديث،فتأويل الأحاديث تَسْبِقُهُ مَعْرِفَةٌ بالله ورسولهِ، وحقيقة الإيمان.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور