وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 04 - سورة يوسف - تفسير الآية 6 نعمة الوجود.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الأخوة الكرام، لازِلْنا في الآية السادسة الكريمة من سورة يوسف وهي قوله تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)﴾

[سورة يوسف]

 مرْكز الثِّقل قوله: ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عليك، فلا شكَّ أنَّنا جميعًا مُتَمَتِّعون بِنِعْمَةِ الوُجود، وهي نِعْمَةٌ كُبْرى، قال تعالى:

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾

[سورة الإنسان]

 فأنت الآن مَوْجود، فإذا كان هذا الوُجود مِن أجْل أن تَسْعَد بالقُرْب من الله عز وجل فالشَّرْط الأوَّل مُحَقَّق، وهو أنَّك مَوْجود، فلو أنَّ الله تعالى خَلَقَ الخلائِقَ لِيُسْعِدَهم، فإذا لم تَكُن مَوْجودًا لم تتحقَّق فيك هذه النِّعْمة، لذا أوَّل نِعْمة هي الإيجاد.
هناك نِعْمة أخْرى، وهي نِعْمَة الإمْداد، فَهُناك هواء تسْتنْشِقُه ؛ إذْ هناك مُدُنٌ مِن شِدَّة التَّلوُّث لا تسْتطيع أن تسْتنشِق، ففي بعض البلاد يأخذون عَشَرات الألوف بِسَبَب الاخْتِناق.
 وهناك ماءٌ تَشْرَبُهُ، وبيْتٌ تأوي إليه، وهناك عَمَل ترْتَزِقُ منه، هذه كُلُّها نِعَم، لكنَّ هذه النِّعَم المؤمن وغير المؤمن فيها سواء، إلا أنّ - هنا الدرْس - تمام النِّعْمةِ الهُدى، فَمَهْما غَرِقْتَ في نِعَمٍ كثيرة، فَهذه نِعَم، ولكنَّها لا تَتمُّ إلا بِمَعْرِفَة الله عز وجل، لذلك درْسُنا اليوم، قال علماء التَّفْسير بالحَرْف الواحِد: تمام النَّعْمة هُدى، فالإنسان إذا لم يهْتدِ إلى الله تعالى، هذه النِّعَم التي بين يَدَيْه نِعَمٌ زائِلَة، وتنْقطِعُ بالموت، وعند الموت كُلّ هذه النِّعَم تنْقطِع، لكِنَّ النِّعْمة التي تُتَمِّمُ هذه النِّعَم ؛ وهي نِعْمةُ الهُدى، لن تَعْرِفَ قيمتها إلا بعد الموت، يجب أن ترى في الدنيا الآن ؛ مؤمنٌ فقير، وكافِر غَنِيّ، ومؤمن ضعيف، وكافر قوِيّ ومؤمن مريض وكافر صحيح، ومؤمن مُسْتَضْعَف، وكافر مُتَكَبِّر لكِنَّكَ لا تعرِف نِعْمة الهُدى حتَّى تنتهي هذه الحياة ويُفْرَزُ الناس لا بِحَسَبِ أموالهم ولا بِحَسب قُوَّتِهم، بل بِحَسَبِ معْرِفَتِهم بالله، وأعمالهم الصالحَة، لذلك أرَدْتُ أن أقِفَ عند هذه الكلمة في هذه الآية: ويُتِمَّ نعْمته عليك ؛ لأنَّ الله عز وجل أنْعَمَ على كُلِّ المَخْلوقات، وأعْطى المال لِمَن لا يُحِبّ ؛ أعْطاه لِقارون قال تعالى:

﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)﴾

[سورة القصص]

 وأعْطى السُّلْطة لِمَن لا يُحِبّ، فقد أعطاها لِفِرْعَون، وألم يقل فرعون: أليس لي مُلك مصْر ؟!! ألم يقل: أنا ربُّكم الأعلى ! لكِنَّه تعالى أعْطى المُلْك لِفِرْعَون، وأعْطى المُلْك لِسُلَيْمان، فالمُلْكُ يُعْطيهِ لِمَن يُحِبَ، ولِمَن لا يُحِبّ، فالمُلْك لا يُعَدُّ مِقْياسًا.
 كُلٌّ مِنَّا يسْتنْشِقُ الهواء ؛ الكافر والمؤمن، فهل اسْتِنْشاق الهواء علامة الإيمان ؟ لا، وهل هي عَلامة كُفْر ؟ لا، كلّ هذا لا علاقة له فالقاسِم المُشْترك بين المؤمن والكافر يُنَحَّى على أن يكون مِقْياسًا.
 سمِعَ سيِّدُنا عوف عائشة رضي الله عنهما تقول: أخْشى أن يدْخل الجنَّة حَبْوًا، فقال والله لأدْخُلَنَّها خببًا ‍‍!! أي هَرْوَلَةً، وقال: وما عليَّ إذا كنتُ أنْفِقُ مائة في الصَّباح فَيُؤْتيني الله ألْفًا في المساء، أحد الصَّحابة الأنصار عرضَ على سَيِّدنا ابن عوف: نصف مالهِ، ونصف بساتينِهِ، ونصف حواتينه، فقال: لا يا أخي، بارَكَ الله بِمَالِك ولكن دُلَّني على السُّوق فما رأيْنا ناسًا أتْقِياء كالأنصار، وما رأيْنا ناسًا أعِفَّة كالمُهاجِرين ولم يرْوِ التاريخ أنَّ مُهاجِرًا أخَذَ مِن أنْصارِيٍّ، وكان السَّخاء من الأنصار كثيرًا.
 فَتَمامُ النِّعْمة الهُدى، والله تعالى أعْطانا نِعْمة الوُجود، وأعْطانا نِعْمة الإمْداد، فما دام هناك طعام وشراب ومأوى، وزَوْجة تأْوي إليها فهذه نِعَمٌ إلا أنَّها تنتهي عند الموت، وكما قلنا المُلْك والمال ليْسا مِقياسَيْن ولكن الذي أحبَّهُ الله تعالى ماذا أعْطاهُ ؟ قال تعالى:

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(14)﴾

[سورة القصص]

 الحِكْمة في التَّصْريف، والحِكْمة أن تقول الشيء المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب، ومع الرَّجُل المناسب، والحِكْمة أن تُعْطِيَ الشيء المناسب للرَّجُل المناسب بِالقَدْر المناسب في الوَقت المناسب، والحِكْمة أن تغْضَبَ الغَضَب المناسب في الوقْت المناسب مع الرَّجُل المناسب، فالحِكْمة أكبر عطاء تناله من الله عز وجل والدليل قوله تعالى:

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(269)﴾

[سورة البقرة]

 أعْظمُ عطاء من الله تعالى، إلا أنَّ العِلْمَ والحِكْمة هما خاصَّان لِمَن يُحِبّهُ الله تعالى، فالذي لا يُحِبُّه يُعْطيه الجَهْل والحُمْق، والدليل قوله تعالى:

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ(1)﴾

[ سورة محمد ]

 لا بدّأن يرتكب حماقَةً وشيئًا غير مَعْقول، وإذا أراد ربُّكَ إنْفاذ أمْرٍ أخذَ مِن كُلِّ ذي لُبٍّ لُبَّهُ، فارْتِكاب الحماقات مِن لوازِمِ الكُفْر، والدعاء الشريف: اللهم اجْعل تدبيرهم في تدميرهم، يَعْقِدون المؤْتَمَرات مِن أجْل إفْساد الشُّعوب، ولازِم لِشُعوب العالم الثالث بعدما ألجئوها للفَقْر المرّ، يُلَوِّحون لها بالمُساعدات السَّخِيَّة كلّ هذا مِن أجل أن تُصْدِر هذا الشُّعوب قوانين تُبيحُ الزِّنا واللِّواط والسِّحاق وتَجْعل العلاقات الجنْسِيَّة خارِج الأُسْرة، وما على الأب إلا أن يرْعى أولاده المُراهقين مارسوا الجِنس، ويُقَدِّم لهم التَّسْهيلات، ماذا حصَل ؟ قال تعالى:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾

 

[ سورة الأنفال ]

 لا توجد شَهْوة أوْدَعَها الله في الإنسان إلا رسَمَ لها قناةً نظيفة، أما الانْحِراف مِن صِفات الجَهَلَة.
 أيها الأخوة، أنا أرَدْتُ أن أقِفَ عند كلمة واحِدَة، وليتم نعمته عليك فلا تظننَّ أبدًا أنَّك في نِعْمة إن لم تكُن مُهْتَدِيًا إلى الله عز وجل، نِعْمة المال والصِّحة والملك والزَّوْجة والبيت الواسع المُزَيَّن والمُزَخْرف ؛ كُلُّ هذه تنتهي بالموت، فلا تبْقى إلا نِعْمة الهُدى، لذلك احْفظ هذه العِبارة: تمام النِّعْمة الهُدى، ولم تكون في نِعْمةٍ عُظْمى إلا إذا كنتَ مُهْتَدِيًا إلى الله عز وجل، لذلك كما قال تعالى :

 

﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 فالنِّعْمة أن تعرِفَ الله، وأن تعْبُدَهُ وتُؤَدِّيَ حقَّهُ، وأن تكون في خِدْمة الخَلْق، وان يكون لِسانُكَ رطْبًا من ذِكْر الله تعالى، وأن يكون مُتَّصِلاً بالله.
 قال الإمام عليّ رضي الله عنه: النِّعَمُ ثلاثة ؛ نِعْمَةُ الصِّحة، ونِعْمَةُ الكِفايَة، ونِعْمةُ الهُدى، فلا معْنى لِنِعْمة الكِفاية من دون صِحَّة، ولا معنى لِنِعْمة الصحَّة من دون هُدى، فأوَّل نِعْمة الهُدى ويليها الصِّحة وتليها الكِفايَة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

 

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ))

 

[ رواه مسلم ]

 فَمَن قال لك: ليس لي فائض على ما أعيش به فهذا مَحبوب فقد دعى له النبي عليه الصلاة والسلام، وأنت خُذْ من الدنيا ما شئت، وخُذ بِقَدَرِها همًّا، ومن أخَذَ من الدنيا فوق ما يَكْفيه أخذَ مِن حَتْفِهِ وهو لا يشْعُر.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور