وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة يوسف - تفسير الآيات 30 - 35 دهاء النساء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الأخوة الكرام، سيِّدُنا يوسُف لمَّا افْتُضِحَ أمْر امرأة العزيز، أرادَتْ أنْ تُبَرِّرَ سُلوكَها أمام صُوَيْحِباتِها، قال تعالى:

﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)﴾

[سورة يوسف]

 أي ارْتَكَبَتْ حماقة كبيرة، ثمَّ قال تعالى:

 

﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾

 

[سورة يوسف]

 ومعنى قطَّعْن أيْدِيَهُنّ أي جَرَحْنا أيْدِيَهُنّ من شِدَّة الشَّغَف، فرَبَّما أعْطَتْهُنّ سكاكين حادَّة، فأثناء اسْتِعمال السِكِّين دُهِشْنَ بِهذا الجمال فقَطَّعْنَ أيدِيَهُنّ، ثم قال تعالى:

 

﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾

 

[سورة يوسف]

 ألَيْسَت هذه شَهادة قَطْعِيَّةَ الدَّلالة من امرأة العزيز أنَّهُ لم يَهُمَّ بها كما توَهَّمَ الناس، قال تعالى: ولقد راودتهُ عن...الصاغرين " معنى ذلك أنَّهُ كان أمام خِيارَيْن إمَّا أن يُسْجَن وإمَّا أن يقْترِف الفاحِشَة ؛ وهذا هو مَوْقِف النبي الكريم، ومَوْقِف كلّ مؤمن يقْتدي بأنبياء الله الصالحين قال تعالى:

 

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

 

[سورة يوسف]

 أحْيانًا يُغْرى المؤمن بِمَالٍ وفير من طريق حرام، فهل يقول: ربِّ الفَقْر أحبُّ إليّ من هذا المَبْلَغ الحرام ؟! وأحْيانًا يدْفَعُ الإنسان ثمَن طاعتِهِ لله ؛ حِرْمان مِن وظيفة وحِرْمان مِن شراكة وحِرْمان مِن دَخْل كبير ؛ هذا حال المؤمن، العِلْم حرْف والتَّكْرار ألف، ماذا قال سيِّدُنا يوسف ؟

 

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾

 لو أنَّهُ اسْتَجاب لما سُجِن، إضافة إلى قضاء الشَّهْوة والاسْتِمْتاع ؛ هذا حال المؤمن:

 

 

فَلَيْتَكَ تَحْلو والحياة مريـــرةٌ  وليْتَك ترْضى والأنام غِضاب
وليْتَ الذي بيني وبينك عامِــرٌ  وبيني وبين العالمين خراب
إذا صَحَّ منك الوَصْل فالكُلّ هَيِّنٌ  وكل الذي فوق التُّراب تُراب
***

 أيها الأخوة، هناك حديث أنا أعْتَقِدُهُ شِعار كُلّ مُسلِم:

 

((ما ترك عبْدٌ شيئًا لله إلا عوَّضه الله خيرًا منه في دينه ودنياه ))

 دِقَّةُ الحديث أنَّ عبْدًا من عباد الله الصالحين عُرِضَ له شيءٌ مِن مَتاع الدنيا إلا أنَّهُ حرام فقال:

 

﴿مَعَاذَ اللَّهِ ﴾

 ربِّ الحِرمان من هذا المبلَغ أحَبُّ إليه مِن أن أعْصِيَك طيِّب.

 

 

((ما ترك عبْدٌ شيئًا لله إلا عوَّضه الله خيرًا منه ))

 وصَدِّقوا أيها الأخوة أنَّ زَوال الكَوْن أهْوَنُ على الله مِن أنْ يُؤْثِرَ عبْدٌ طاعة الله ثمّ يَحْرِمُهُ الدنيا إلا عوَّضَهُ الله خيرًا منه، كيف ؟ قال: في دينِهِ ودُنْياه، ففي دينِهِ ما دام قال:

 

﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾

 وقال:

 

﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾

 وأنِّني لن أفْعَلَ هذا ولو بقيتُ مَحْرومًا أصْبَح الطريق إلى الله تعالى سالك، أما إذا اقْتَرَفَ المَعْصِيَة أصْبح الطريق إلى الله تعالى مَقْطوع، إذا اقْتَرَفَ الشَّهْوة كان الطريق مَقْطوعًا، وإذا قبض المَبْلغ كان الطريق مَقْطوع، وإذا كذب وربِح كان الطريق مَقْطوع، وكذا إذا اغْتَصَبَ مَحَلاًّ وآثَرَ هذا المحلّ على الطاعة الله ؛ وهذا هو مَعنى إلا عوَّضَهُ الله خيرًا منه في دينه، طيِّب وَدُنْياه ؟ تأتيه الدنيا وهي راغِمَة ولكن مِن طريقٍ حلال.
 رجلٌ أُمِّيٌ له شَيْخ، وأعْطَوْهُ أرْضًا كبيرة، وقد كان قبلها فقيرًا لا يمْلِكُ شيئًا، فقال هذا الفقير للشَّيْخ: لقد أعْطَوْنَا أرضًا يا شيخ، فقال الشيخ: هذه أرْضٌ مُغْتَصَبَة ‍! وإذا كان الأمر كذلك فَحَرامٌ أخْذها، فذَهَبَ هذا الأخ يبْحث عن صاحِبِها إلى أنْ وَجَدَهُ فقال له: هل تَسْمَحُ لي أن أُعْطِيَكَ أساوِر زَوْجتي وأشْتري عليك البيت بالتَّقْسيط ! فقال صاحبُها: لقد ذَهَبَ عليَّ أربعة أضْعاف ما أخذْت، ولم يأتِ أحدٌ إلا أنت، وعلى هذا فهذه الأرض هَدِيَّةٌ مِنِّي لك !! ما ترك عبد شيئًا لله إلا عوَّضَهُ الله.
 وأحد الشباب قديمًا، كان في مَحَلِّه فجاءت إليه فتاة ودَعَتْهُ للزِّنا، فأغْلَقَ المَحَلّ وتَبِعَها، وهو في الطريق تذَكَّر إلى أين سيَذْهَب فَرَجَع واسْتَغفَر الله، ففي اليوم الثاني جاءَهُ أحدُ كِبار تُجار الزِّيت، وعرض عليه ابنتهُ ! أُكْرِمَ مِن أجل تَرْكِهِ الحرام، حقٌّ على الله إذا تَرَكْتَ الدنيا أن يُكرِمَكَ الله تعالى ؛

 

 

((ما ترك عبْدٌ شيئًا لله إلا عوَّضه الله خيرًا منه في دينه ودنياه.))

 

 دِقَّةُ الآية:

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

[سورة يوسف]

 هذا شِعارُ كُلِّ مؤمن، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف ؟

((إن لم يكن بِك غضَبٌ عليّ فلا أُبالي، ولك العُتبى حتَّى ترْضى، لكنَّ عافِيَتَكَ أوْسَعُ لي.))

 أجْمَلُ شيء في الآية العُبُودِيَّة لله تعالى، لم يقل: أنا إرادتي قَوِيَّة، وأنا سيِّدُ نَفْسي ! هذا شِرْك، أحْيانًا تَجِدُ إنسانًا شَخْصِيَّة في البلد، وله زَوْجة ملِكَة جمال، فإذا به يتعلَّق بامْرأة مثل الممْسحة !! فَسَيِّدُنا يوسف انتَبَهَ لهذه النُّقْطة قال تعالى:

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

[سورة يوسف]

 يا رب أنا مُسْتقيم بِمَعونَتِك، وعفيف بِمَعونتِك، وهذا مُلَخَّص إياك نعبد وإياك نسْتعين، أحدُ العلماء ألَّف كتابًا يَحْوي مُجَلَّدَيْن اسمهُ مدارج السالِكين بين منازل إياك نعْبد وإيَّاك نسْتعين، قال تعالى:

 

﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(127)﴾

 

[سورة النحل]

 صَبْرُكَ بالله، وعِفَّتُكَ بالله، ووَرَعُكَ وطاعتُك بالله، وهذا هو معنى لا حول ولا قوَّة إلا بالله، لا حَوْل عن معْصِيَة الله إلا بالله، ولا قوَّة على طاعَتِهِ إلا به، فإذا وفَّق الله عبْده للصَّلوات الخمْس في المَسْجِد فهذه مِن نِعَم الله، إذ هناك مَن يُغازِل النِّساء بِالبَيْع والشِّراء والصَّلوات تمرّ عليه مرور الكرام، فإذا سَمَح لك الله تعالى بِغَضِّ البَصَر، وبِزَوْجة صالِحَة ومالٍ حلال، فلا تَعْزو الطاعة لك ؛ هذا شِرْك، قُل: يا رب سَمَحْت لي أن أُطيعَك، وأن أقْتَرِن بِزَوْجة صالِحَة، وأولاد أبْرار.
 قال تعالى:

 

﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)﴾

 

[سورة يوسف]

 أي سميع لِقَوْله، عليم بِقَلْبِهِ وحالِهِ وصِدْقِهِ، والله عز وجل سميعٌ عليم أنتَ اُدْعوا الله وإن كان دُعاؤُكَ وِفْقَ السُّنَّة سترى الإجابة إن شاء الله قال عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّم عَنْهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ))

 

[رواه البخاري ]

 ناجي ربَّك وسَلْهُ وادْعوهُ وترجَّاه، وتذَلَّل بين يَدَيْه ؛ هذا هو المؤمن إلهي أنت مَقْصودي ورِضاك مَطْلوبي، كلمتين: قال تعالى:

 

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

 

[سورة يوسف]

 قال تعالى:

 

﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)﴾

 

[سورة يوسف]

 رأوا الآيات الدالة على براءَتِهِ وعِفَّتِهِ وطهارَتِهِ، أرادوا أنْ يطفئوا الفِتْنة فَوَضَعوه بالسِّجْن.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور