وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة يوسف - تفسير الآيتان 55-56 ، المؤمن مِقْدام للخير
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الأخوة المؤمنون، لازِلْنا في سورة يوسف عليه السلام، قال تعالى:

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)﴾

[ سورة يوسف ]

 يُسْتَنْبَط من هذه الآية أنّ الله سبحانه وتعالى هو الحق، وهو الذي يُظْهِرُ الحق، ويُجازي المُحْسِنَ على إحْسانِهِ، ماذا أراد أخوة يوسف ؟ وماذا أراد الله ؟ أنت تريد وأنا أريد والله تعالى يفْعَل ما يريد.
 ابن آدم كُن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كُن لي كما أريد ولا تُعْلمني بما يُصْلحك، ومَن أحبَّنا أحْبَبْناه، ومَن طلب مِنَّا أعْطَيناه ومن اكتفى بنا عمَّا لنا كنا له وما لنا، وإذا سلَّمْتَ لي فيما أريد كَفَيْتُك ما تريد، وإذا لم تُسَلِّم لي فيما أريد أتْعَبْتُكَ فيما تريد ثمَّ لا يكون إلا ما أريد.
 الإنسان عليه أن يستقيم على أمر الله، وأن يُخلص لله له ويتقرَّب إليه، وعلى الله تعالى الباقي ؛ هو الذي يُدافِعُ عنك وينصُرك ويُكْرمك ويُسْعِدُك ويُقَرِّبك ويُعْلي مكانك ويرفعُ ذِكْرك، اسْتقيموا ولن تُحْصوا قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: أي لن تُحصوا الخَيْرات مادِيَّة ومَعْنوِيَّة، وقريبة وبعيدة، مِن كُلّ النواحي، لذلك الفَوْز والنَّجاح كلّه في طاعة الله، والفلاح كله في طاعة الله، وكذا التَّفوُّق.
 وُضِع بالجبّ، واشْتُرِيَ بِثَمَنٍ بخْس، ووُضِع في قَصْر الملك خادِمًا وعَبْدًا، وأُمِر أن يفْعل ما يفْعل بامرأة العزيز، وكان شابًّا غريبًا جميل الصورة، وفي أشدِّ ثوران الشباب، أمَرَتْهُ امرأة ذات منْصب وجمال وقالت: هيْتَ لك، وليس مِن صالِحِها أن يفْشُوَ الأمر، وقد أمرتْهُ فقال معاذ الله إنَّه ربي أحْسنَ مَثْواي، ودخل السِّجن وفي النِّهاية - العِبْرَة في النِّهاية - قال تعالى:

﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128)﴾

[ سورة الأعراف ]

 نريد أن نرى مَن يضْحك أخيرًا، لأنّه مَن يضْحك أخيرًا يضْحك كثيرًا ومن يضْحك أوّلاً يبكي كثيرًا، المغانِم الآنِيَّة لا تغْتَرّ بها، فهذه تزول إنَّما اهتَمّ بالمغانم البعيدة التي لا تزول، فقارون قال عنه تعالى:

﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)﴾

(سورة القصص)

 ونِهاية القصَّة يقول الله عز وجل:

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾

(سورة القصص)

 فسيِّدُنا من طِفْلٍ صغير إلى جب خطير إلى سِجْن إلى خادم في السِّجن إلى إلى..عزيز مصر ! قال تعالى:

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)﴾

[ سورة يوسف ]

 قال تعالى:

 

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 وهنا سؤالٌ دقيق فالمؤمن ليس سلبيًا، وليس انْطِوائِيًّا، وليس منهَزِمًا، ولا يهْرب وإيجابي، ولكن بِشَرْط: إذا أوصِلَ إليك عمل فيه نَفْعٌ للأمة وأُطْلِقَت يدك ينبغي أن تَقْبَلَ به، وأنا أقول: وأطلقت يدك، أما إذا كنت أداةً فينبغي أن لا تَقْبَلَها، إذا أوكِلَت إليك مهمَّة فيها نفْعٌ للمؤمنين وأطلقت يدك، فلا بدّ أن لا تنْزوي وأن تتقَوْقَع، ولا تكن انعزالي، وقيل لك: أنت مخلص عندنا، كما أنَّهُ لا يهمُّك مَن وكَّلَك، فأنت في عملٍ تنفَعُ المسلمين ؛ فهذا الذي فعلَهُ يوسف عليه السلام، قال تعالى:

 

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 فالإنسان مثلاً إذا كان مُدَرِّسًا أو طبيبًا، ومدير مستشفى، فإذا كنت مؤمنًا فأنت أفضل من ذاك المدير غير المؤمن ألف مرَّة ! الأمور مَضْبوطة عندك ؛ فلا رَشْوَة ولا انْحِراف، لذلك قال يوسف في قوله تعالى:

 

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 وهذا حُكْم شرعي ؛ لك أنْ تعمَلَ عمَلاً فيه نَفْعٌ للمسلمين بِشَرْط أن لا تكون أداةً لِغَيْرِك، وأن تُطلق يدُكَ في هذا العمل، قال تعالى:

 

﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 والله لَزَوال الكَوْن أهْوَنُ على الله تعالى أن يُضَيِّع عمل مُحْسِنٍ، ومِن أن يُضَيِّعَ على مستقيم اسْتِقامتَهُ، ومِن أن يُضَيِّع على مَن خاف الله تعالى خَوْفهُ، تخاف الله تعالى ولا تنتفِع، ولا يرْفع ذِكْرَكَ، تقول: معاذ اله تعالى ثمَّ تكون آخر الناس ! تخْشى أن تعْصِيَ الله تعالى ولا تُوَفَّقُ في عملِك ؛ مُستحيل.
 أيها الأخوة، ما ترَكَ عبْدٌ شيئًا لله إلا عوَّضَهُ الله خيرًا منه في دينه ودُنياه، فقد كان الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين إذا قرءوا بِقِيام الليل بعض الآيات تهتزّ مشاعرهم، وكان بعض التابعين والعلماء العاملين يقرؤون آيةً يُعيدونها إلى الفَجْر، فهذه الآية:

 

﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 حاش لله تعالى أن يُضَيِّعَ عليك عملك الصالح واسْتِقامتك وخَوْفك وخشْيتك ومحبَّتَك، لابدّ أن تتفاءَل فأنت مع الله تعالى، وأنت مَحْفظ بِحِفْظ الله ومُكَرَّم بِكَرامة الله ومُقَرَّب إليه تعالى ومَنْصورًا بإذن الله، لذا الإخلاص الإخلاص، يا معاذ، أخْلِص دينَك يكْفِكَ القليل من العمل، أنْفِق يا بلال ولا تخْش من ذي العرش إقلالاً والقِصص المُؤيِّدة لهذه المعاني لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، فَكُلُّنا يعْلَم أنَّ مَن يستقيم ومن يخلص لله عز وجل يعرف كيف يحفظه الله ويرفع شأنه قال تعالى:

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) ﴾

[ سورة الشرح ]

 فالمستقيم يكون في المقدِّمة وليس في المؤخِّرة.
 المؤمن يمرّ بِثلاثة أطوار ؛ طَوْر يُعالَج، وفي طَوْر يُمْتَحَن، وفي طَور يُكَرَّم وهو الطَّوْر المديد والأخير، فمرحلة المُعالَجَة تكو هناك أمراض ومُخالفات، فإذا اسْتَقَمْتَ على أمْرِهِ كانت هناك مرحلة ثانية وهي مرحلة الابتِلاء، وقد سُئل الإمام الشافعي أنَدْعو الله تعالى بالتَّمْكين أم بالابْتِلاء ؟ فقال: لن تُمَكَّنَ قبل أن تُبتَلى، قال تعالى:

﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)﴾

[ سورة البقرة ]

 وقال تعالى:

﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(73)﴾

[ سورة الأنبياء ]

 تمر بثلاثة مراحل: مرحلة المعالجة ومرحلة الابتلاء، ومرحلة التَّكريم، فسيِّدنا يوسف مرَّ بهذه المراحل ووصل إلى مرحلة التَّمكين قال تعالى:

 

﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 ولكن أجْمَل ما في الآية أنَّ الإنسان إذا مكَّنَهُ الله تعالى في الأرض وجعلهُ قَوِيًّا، ومتَّعَهُ بِمالِهِ وأولادِه وصِحَّتِهِ، ومأوى، وكلّ الدنيا مُقْبِلَةٌ عليه، فهذا العَطاء الدُّنْيَوي ليس بِشَيء أمام عطاء الآخرة، اِذْهب إلى الساحل وارْكَب قارِبًا واغْرُسها في مياه البحر، ثمّ ارْفَعْها، فماذا حَمَلَتْ مِن مياه البحر ؟‍‍‍‍! هذا تَمثيل مثَّلَهُ النبي عليه الصلاة والسلام عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ..

 

(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))

 

[ رواه مسلم ]

 قال تعالى:

﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾

 أصْبَحَ عزيز مصر، وملِكًا وعظيمًا ويفعل ما يشاء، ومع ذلك هذا العطاء الدنيوي إذا قيس بعَطاء الآخرة فليس بشيء.
مِحْوَر الآية أنَّ المؤمن ليس انعزاليا وليس سلبيًا، ولكنَّهُ إيجابيّ ولكن وِفْق الشرع، يُضَحِّي بالدنيا كلِّها ولا يعصي الله تعالى، أما إن دُعِيَ لِعَمَلٍ صالحٍ، ولِخِدْمة المسلمين وأُطْلقت يده يقبلُهُ.
 الفكرة الثانية أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُضيع أجْر المحسنين، والفكرة الثالثة أنَّ الدنيا لا تساوي شيئًا قياسًا بالآخرة.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور