وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 20 - سورة يوسف - تفسير الآيات 101 - 102 لن ترق إلى الله إلا إذا ملَكْتَ شَهَواتك.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الأخوة الكرام، لازلنا في قصة يوسف عليه السلام، ووصلنا إلى قوله تعالى:

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾

[ سورة يوسف ]

 ما معنى كلمة الملك ؟ لو أنَّ أحدنا فَهِمَ المُلك على أنَّهُ الحُكْم، جعلتني عزيز مصر وهذا عطاء يشْترك فيه المؤمن والكافر، ألم يؤتِ الله فرعون المُلك ؟ ألم يؤت الله الجبابرة الملك ؟ فهل هذه نِعْمة ؟ مِن أوْجز هذه الكلمة أنَّ المُلْك الذي أراده هذا النبي الكريم أنَّهُ ملَكَ شَهْوَتَهُ، فالناس رجُلان رجُلٌ ملَكَ شَهْوَتَهُ ورَجُل ملَكَتْهُ شَهْوَتُه، والثاني هلك في الدنيا والآخرة، بِمَ نال هذا المقام الرَّفيع ؟ لأنَّه قال:

﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾

 ولأنَّه قال:

﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾

 لأنَّها قالت:

﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾

 فحينما ملَكَ شَهْوتَهُ وسَيْطَرَ على أهْوائِه اسْتَحَقَّ هذا المقام الرَّفيع، ولن ترقى إلى الله عز وجل إلا إذا ملَكْتَ شَهَواتك ؛ لأنَّ الله تعالى يقول:

 

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40)﴾

 

[ سورة النازعات ]

 الهَوى، كما قالوا: مَن هوى فقد هوى، الهَوى مِن الهويّ وهو السُّقوط، فالمُلك هنا أي صار عزيز مصر، والقرآن حمَّال أوْجه ولا تُحَدُّ معانيه، والقرآن ليس ملْكًا لأحد، لكن من المعاني التي تُضاف إلى المُلك أنَّ الله سبحانه وتعالى مكَّن هذا النبي الكريم مِن نفسِه وسَيْطَر على نفسِه، أحدُ زعماء أوروبا الكبار الذين قاد الحرب العالمية الثانية قال كلمَةً دقيقة: قال ملَكْنَا العالم ولم نمْلِك أنفُسَنا فَعَظمة الإسلام تكمن مِن أنَّ المُسلم يمْلك نفسه، ويمْلك شَهوته ويجعلها وفق القنوات النظيفة ؛ رب قد آتيتني من الملك ؛ هذه أكبر نعمة عليك، فإذا الله عز وجل نوَّر لك قلبك، وسيْطَرْتَ على نفسِك وجوارحك، وسَيْطَرت على كسب المال أن جعلته حلالاً، وعلى إنفاقه وسَيطَرت على بيتك أن جعلْتَهُ إسلامي، فأنت هنا آتاك الله المُلك وأنت مُسَيْطِر، وقائِد وليس مَقود، فالكافر مَقود بِشَهَواتِك، والعقل له وظيفتان ؛ إما أن يكون قائِدًا وإما أن يكون مُسَيْطِرًا، فالكافر تَمْلِكُه شَهَواته، وعقْلُهُ يُبَرِّر، أما المؤمن يقودُهُ عقله إلى الله عز وجل، وهذا الفرق واضح، فالكافر جهدهُ العقلي كلّه في تَبْرير أخْطائِهِ وتَبْرير انحيازه لِشَهواتِهِ، أما المؤمن فَعَقْلُهُ يقودُهُ إلى الله، وشَهَواتهُ يضْبطُها وِفْق شَرْع الله، قال تعالى:

 

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾

 

[ سورة يوسف ]

 مِن هنا للتَّبْعيض، وفيها أدَب، ومَن يُفِّق إلى تأويل الأحاديث يسْعد سعادَةً كُبرى، فلو توهَّمْت أنَّ معنى قوله تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)﴾

[ سورة الشمس ]

 فلو توهَّمْتَ أنّ الفُجور من عن الله، وأنّ الله هو الذي ألْهَمَكَ أن تفْجر فهذه أفْسَد عقيدة، أما لو فهِمْتَ النَّص كما يلي: ألْهَمَها فُجورها ؛ أيْ أنَّ النَّفْس إذا فجَرت تعلم أنَّها فجَرَت بالفِطْرة، أعطاها دليل كاشف من دون تعليم، وبين المعنييْن مسافة كبيرة جدًا، كما بين الإيمان والكفر فالنَّفس فُطِرَت فطرة عالِيَة بحيث لو فجرَتْ تعلم فُجورها، أما لو فهمْتَ الآية أنَّ الله هو الذي أجْبر النَّفْس على فُجورها، وألْهَمَها أن تفْجر فهذا تأويل فاسد، ربنا عز وجل لما قال:

 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾

 فلو قال أحدنا أنّ المعنى ؛ الله تعالى ما أراد أن يَهْدِيَهم وهو يريد أن يُدخلهم النار ! فهذا معنى فاسِد، أما المعنى الصحيح أنَّه لو أراد الله تعالى أن يجبركم لأجْبرَكم على الهُدى لكنكم مُخَيَّرون، فَمَوضوع تأويل الأحاديث موضوع هامّ جدًا وخطير جدًا، فقد تفهم الحديث فهْمًا خاطئا فيَحْمِلُكَ على المعْصِيَة، قال عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( لولا تذنبون...))

 

 ليس المعنى عليك أن تُذْنب ! ولكنَّ المعنى إن لم تشعروا بالذُّنوب فأنتم ميِّتُون، وتَهْلَكون، أما المؤمن إذا ارْتَكَب معْصِيَة يشْعر بِضِيقٍ حينها يُبادر إلى التوبة.
 قال تعالى:

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾

[ سورة يوسف ]

 قال تعالى:

﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257)﴾

[ سورة البقرة ]

 ثمّ قال تعالى:

 

﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 أخطر يوم بِحَياة الإنسان هو يوم موتِهِ، والدليل قوله تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)﴾

[ سورة الملك ]

 بدأ بالموت لأنَّ الموت منْفذ له طريقان ؛ إما إلى الجنَّة وإما إلى النار أما حينما يولَدُ الإنسان فله أمامه ألف خِيار ؛ له أن يتعلَّم أو يجهل أو يؤمن أو يكفر، أما حينما يموت فله خياران، فو الذي نفس محمَّد بِيَدِه ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فالإنسان إن لم يكن مؤمنًا فهو كافر، وإن لم يكن مُستقيم فهو ضال، وإن لم يكن مُحسِن فهُوَ سيِّء، لذلك بدأ الله بالموت لأنَّ حَدَث الموت أخطر من حدَث الحياة، وفيه يتحدَّد المصير، ففي الدنيا والحياة لك مجال التوبة والصلح، أما حين الموت فإما إلى جنَّة أو نار، لذلك قال تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)﴾

[ سورة الملك ]

 لذا ينبغي على الإنسان أنْ يعْلَم أنَّ أخْطَر يوم هو يوم مَوْتِهِ، وهو إما إلى جنَّةٍ يدوم نعيمُها، وفيها ما لا عين رأتْ ولا أذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإما إلى نار لا ينفذ عذابها، قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)﴾

[ سورة النساء ]

 طيِّب مَن هو العاقل ؟ هو الذي لا يغيب عنه هذا الحَدَث ولا ثانِيَة بِكُل حركاتِهِ وحِساباتِهِ اليَوْمِيَّة، وبِكُلّ نشاطاتِه وقبْضِهِ ودَفْعِهِ، وبِبَيْتِهِ وعَمَلِهِ، كيف سأُسْأَل ؟ وماذا سأُجيب ؟ وما هو موقفي من الله حينما أقف بين يديه ؟ هذه هي البطولة، والذي له حُرِيَّة الحرَكَة، وله عمل حر فيه ؛ عليك أن تهيئ جوابًا لِله على كُل عمل فعلته تراه غير ملائم، جوابًا لله وليس لِمُديرك، وكل منا له عمل يهيئ لربِّه جوابًا لِمَ أعْطَيْت ؟ ولمَ مَنَعْتَ ؟ ولِمَ طلَّقْتَ ؟ لمَ تزوَّجْت ؟ ولِمَ بخِلْتَ ؟ كل تصرُّف منك هيأ له جواب لله تعالى، مَن هو السَّعيد ؟ فكلٌّ منَّا سوف يأتي عليه يوم يخرج من بيته أفقًا، ويُوضَع في نعْش ويُصَلَّى عليه، فهذا اليوم العظيم عليك أن تُدْخِلَهُ بِحِساباتِك اليَوْمِيَّة واللَّحْظِيَّة امرأة جميلة رأيتها ولم تغُضَّ البصر، هذه مُسَجَّلَة، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا﴾

 وكذا الابْتِسام ف غير محلِّه، وهذا هو حال المؤمن يُحاسب نفسه أشَدَّ الحساب، كي يكون حسابهُ يسيرًا إن شاء الله يوم القيامة.
 قال تعالى:

 

 

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 أي ملكْتُ نفسي، وعلَّمتني من تأويل الأحاديث ؛ هذا من نِعَم الله الكُبرى أنْ تفْهَمَ النَّص فهْمًا صحيحًا، فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة ؛ فيا رب، اجْعَل حياتي مُنْتَهِيَةً بالاسْتِسلام إليك بِأعمالي ومشاعري، وقوله:

 

﴿َأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾

 هذا أدَبٌ من الأنبياء، فالإنسان دائِمًا يتواضع، الكبرياء إزاري فمن نازعني إزاري قصَمْتُهُ ولا أُبالي، فسيِّدنا يوسف عليه السلام كان مُتواضِعًا، قال تعالى: رب إن ليم تصرف عني كيدهن..."، وهو طلب منه عليه السلام أن يُلْحقَهُ بالصالحين.
 الآية الأخيرة:

 

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾

 هذه القصَّة من دلائل نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:

 

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 من أعلمك هذه القِصَّة ؟ ومن بلَّغك هذه التفاصيل ؟ هل كنت معهم ؟! قضِيَّة لها أربعة آلاف سنة، فهذه من دلائل نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام، ومركز الثقل في هاتين الآيتين: أن تَمْلُكَ نفْسَك وتُسَيْطِر على شَهَواتِك ومُيولِك، فإذا سَيْطَرْتَ ملَكْتَ كُلّ شيء، وإن لم تُسَيْطِر فأنت عبْد مَمْلوك، قال عليه الصلاة والسلام:

((تعس عبد الدرهم...))

 فهناك من هو عَبْدٌ لِفَرْجِهِ، أو عبْدٌ للدِّرْهم والدِّينار أو عَبْدٌ لِثِيابِهِ أو عبْد لِبَطْنِهِ لكنَّ المؤمن عبدٌ لله عز وجل، والمؤمن عبْدٌ حرّ وليس له قيود.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور