وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 83 - 89 ، طلب العلم فريضة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، النبي الكريم إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء يَدعو ربَّهُ ويقول:

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)﴾

[سورة الشعراء ]

 ولو درسنا الأدْعِيَة التي جاء بها الأنبياء لَوَجَدْنا فيها عَقْلاً راجِحًا وعِلْمًا نافِعًا.
 الله جل جلاله أعْطى القوَّة إلى مَن لم يُحِبّ، ولِمَن يُحِبّ، فَهُوَ أعْطاها لِفِرْعَون وهو لا يُحِبُّهُ، وأعطاها لِسُليمان وهو يُحِبُّه، إذًا ما دامَ الشيء الواحد قد أُعْطِيَ لِمَن يُحَب ولِمَن لم يُحَب فهو حِيادي لا علاقة له بِحُبِّ الله إطْلاقًا، فقد أعطى المال لِقارون وهو لا يُحِبُّه، وأعْطى المال لعبد الرحمن ابن عَوف وهو يُحِبُّه، فما دام الشيء الواحد يُعطى لِمن يحب ولمن لا يحب فهذا لا علاقة له بالحُبّ، لكنَّ الشيء الذي لم يُعْطِهِ تعالى إلا لِمَن يُحِبُّه هو العِلْم والحِكْمة، قال تعالى:

 

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 لأنَّك بالعِلم تعرف الله وتُطيعُهُ وتَسْعَدُ بِقُرْبِهِ، وبالعِلم تَسْعُد بِحَياتِه، وبه تدخل الجنَّة، فإذا أرَدت الدنيا فعليك بالعِلم لذلك طلب العلم فريضة ولا شأن في الدنيا يَعْلو على العِلْم، وأيُّ عِلْمٍ هذا ؟ العلم بالمنهج القرآني، لو أنَّ الإنسان عنده مكتبة من الأرض إلى السقف على أربعة جدران، وعنده بعد أسبوع امْتِحان التَّخَرُّج، وعلى هذا الامْتِحان يتوقَّف نجاحه وتَعْيينُهُ في أرْقى وظيفة، وزواجُهُ، وكلّ مُسْتَقْبَلِهِ مُتَعَلِّق بهذا الامْتِحان، فهل مِن المَعْقول أن يقرأ كل هذه المكتبة ؟ أم يلجأ إلى المُقَرَّر عليه في الامْتِحان فقط ؟! هناك عِلْمٌ يُنْفِعُ ولا يَنْفَع ؛ فَيُمْكِنُكَ أن تقرأ قصَّة من ألف صفحة، وتستمتِع بها أشَدُّ المُتْعة، ولكنَّك لا تستفيد منها لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهناك عِلمٌ مُمْتِعٌ غير نافِع، وآخر مُمْتِع ونافِع، فقد تدرس عِلْمًا دُنْيَوِيًّا تستفيد منه أرباحًا كبيرة لكنَّ العِلْم الدّيني هو العِلم النافع والمُسْعِد في الدنيا والآخرة لأنَّ أيَّ شيء تقرؤُه في كتاب الله، تجده موجودًا في بيْتِك وعملِك وصِحَّتِك وفي زواجِك وتِجارتِك ومالِك، وفي تربيَةِ أولادك، وفي إقْبالِكَ على الله، فالقرآن الكريم هو مَنْهَجُ الإنسان، لذلك سيِّدنا إبراهيم بعد أن قال:

 

﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)﴾

 

[سورة الشعراء ]

 بالمناسبة أخْطَر شيءٍ في حياة الناس حياتهم ورِزْقُهُم، والمُسْلِم أعْتقِدُ اعْتِقادًا جازِمًا أنَّ حياتَهُ ليْسَت بِيَدِ أحد إلا الله، فالذي منَحَ الحياة هو الذي يسْلُبها، وأنّ رِزْقهُ ليس بِيَدِ أحدٍ إلا الله، والذي رزَقَ هو الذي يَمْنَع، والذي رفع هو الذي يخْفض، والذي أعزَّ هو الذي يُذِلّ، والذي بسَط هو الذي يقْبض، فلذلك العُمْر والرِّزْق بِيَد الله عز وجل، وهناك قَوْلٌ رائِع ؛ كلمة الحق لا تُقَرِّبُ أَجلاً، ولا تقْطعُ رِزْقًا، والذي تَعْبُدُهُ ضامِنٌ لك، فلو سأل أدهم قبل عَشْر سَنَوات ماذا أفعل بِهذا المال ؟ ثمَّ أشرْتَ عليه أن يشْتري حاجَةً ظَنَنْتَ أنَّها سَيَرْتَفِعُ ثمنها في القادِم، فإذا بالنَّتيجة مُعاكِسَة ! فأنت لا تستطيع أن تضْمَن له نتيجَة، فأيُّ آمِرٍ من بني البشَر ليس آمِنًا إلا الله، فالله وحْدهُ الضامِن، إذا أَمَرَكَ بِشَيءٍ يضْمنُ لك الفَوْز والسَّعادة، فالله عز وجل حينما أمَرَنا بِطاعَتِهِ ضَمِنَ لنا السَّعادة، وضَمِنَ لنا السلامَة، والعَقَبَة هي عَبَقَة عِلْم، والإنسان يُحِبُّ ذاتَهُ ووُجودَه، وسلامة وُجوده وكمال وُجودِه واسْتِمْرار وُجودِه وانْطِلاقًا مِن حُبِّهِ لِوُجودِهِ ؛ إن رأى الخير في هذا الباب دَخَلَهُ، وإن رأى الخير في هذا الطريق سَلَكَهُ، وإن رأى الخير في هذا العمَل فعَلَهُ، وإن رأى الخير في تَرْك هذا الشيء تَرَكَهُ،، ولو أنَّ أشْقى الأشْقِياء رأى ما رآهُ النبي لكان مثل النبي ! فلذلك أعدى أعْداء الإنسان هو الجهْل، مَعرِفة كلام ربِّ العالمين، وسُنَّة رسول ربِّ العالمين، ولا يَعْلو عليها شيء في الأرض، فأنت حينما تجد عِيادة الطبيب مُكْتظة بالزِّبائِن، وكلّ واحِد ألف ليرة ؛ كُلّ هذا الدَّخْل الكبير سبب دِراسَتِهِ بالجامِعَة، فَدِراسَتُهُ هي سببُ هذا الرِّزْق الوفير، فلا شيء يَعْلو على طلب العِلْم، وبِطَلَبِ العِلْم يُصبِح ذا دَخْلٍ عظيم، وهذا بِحَسَبِ قِيَم الأرض، ماذا دعا سيِّدنا إبراهيم ؟ قال تعالى:

 

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) ﴾

 

[سورة الشعراء ]

 الحُكم ؛ العِلْم والحِكْمة والمَعْرفة مِن معرفة الله وكتابِهِ ومنهجِهِ تعالى أنَّى يأتيك وأنت في البيت ؟ وأنَّى يأتيك وأنت مُضْطجعٌ على سريرك ؟ وأنَّى يأتيك وأنت مُسْتَلْقٍ على أريكَةٍ وفيرة في بيتِك ؟ أنى يأتيك وأنت في سَهْرةٍ مُخْتَلَطَة ؟ وأنَّى يأتيك وأنت في مَتْجَر ونُزْهة ؟! لا يأتيك إلا في مكانِهِ ؛ بيتٌ من بيوت الله إنَّ بُيوتي في الأرض المساجِد، وإنَّ زُوَّارَها هُم عُمَّارُها، فَطوبى لِعَبْدٍ تطهَّر في بيتِهِ ثمّ زارَني، وحُقَّ على المَزور أن يُكْرِمَ الزائِر، لو تمنَّى طالب مليون سنة أن يكون طبيبًا ؛ لن يكون طبيبًا إلا إذا انْتَسَبَ إلى كُلِيَّة الطِبّ، وذهَبَ إلى الجامِعَة وجلسَ على مَقْعَدِ الدِّراسَة، واسْتَمَع إلى مُحاضرة الأساتِذَة مكان العِلْم الدِّيني هو المساجِد، والمَسْجَد له أخْطَر دَوْرٍ في حياة المُسْلِمين، لما هاجَرَ النبي عليه الصلاة والسلام مِن مكَّة إلى المدينة ألَيْس من المَعقول والمنطِق أن يبْنِيَ بيْتًا ؟ نزَلَ ظَيْفًا وبنى المَسْجِد فأوَّل عملٍ قام به النبي عليه الصلاة والسلام بعد الِهجْرة أنَّه بنى المَسْجِد مكان العِبادة والعِلْم ومكان حلّ قضليا المُسلمين، فالإنسان الذي لا مسجِد له ينْهَلُ منه هو إنسان ضائِعٌ وشارِد وجاهِل ويَدْفَعُ ثمَنَ جَهْلِهِ باهظا ؛ تَعْليقي على هذه الآية:

 

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) ﴾

 

[سورة الشعراء ]

 فالإنسان إذا آتاهُ الله الحِكْمة يُصْلِحُ الزَّوْجَة الفاسِدَة والسيِّئة، أما إن لم يَكُن حكيمًا يُفْسِد الجيِّدَة، فبالحِكْمة تجْلب المال، وبالحُمْق تُبَدِّدُهُ وبالحِكمة تكْسِب الأصْدِقاء، وبالحُمق تُنَفِّرُهم، وبالحِكمة تسْعَدُ فيما آتاك الله، وبالحُمْق تَشْقى فيما أوتيتَ، لذلك لمَّا قال تعالى:

 

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(269) ﴾

 

[سورة البقرة ]

 إلهٌ عظيم يقول: فقد أوتِيَ خيْرًا كثيرًا، والحِكْمة مَعرِفة كلام الله ومنهج رسول الله، والأحكام الشَّرْعِيَّة، ومعْرفَة ما يكون وما لا يكون هذه المعارف كلُّها مجْموعةٌ في كتاب الله، ومُفَصَّلة في سُنَّة رسول الله، ومُطَبَّقة في سيرتِهِ صلى الله عليه وسلَّم، فإذا قرَأْتَ كتاب الله وتفهَّمْتَ معانيه، وقرأتَ سُنَّة رسول الله، وتفقَّهْتَ أحكامَها وقرأْتَ سيرة رسول الله، واقْتَدَيْتَ به فقد جَمَعْتَ العِلْم من كُلِّ أطْرافِهِ وهذا هو العِلْم النافِع الذي ينْفع ويرفَع، وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجُلاً في المسْجِد تحلَّق الناس حوْله، فقال: مَن هذا؟ -وهو يعرف من هو ؛ سؤال العارِف - فقالوا: نسَّابَة يا رسول الله قال: وما نسَّابَة فقالوا: يعْرف أنْساب العرب ! فقال صلى الله عليه وسلم:

((ذاك علْمٌ لا ينفَعُ مَن تعلَّمَهُ ولا يضرُّ مَن جَهِلَ به !))

 فلو كان معك بيتٌ فيه أثاث مِقداره خمْسة ملايين ! ولا سمَحَ الله أُمِرْت أن تُغادِر هذا البيت وأن تحْمل معك سِعَة شاحِنَة صغيرة فقط، ما الذي سَتأخذُهُ من أثاثِك ؟ أثْمَن شيءٍ وأقلَّهُ حجْمًا، الذَّهَب، والأجهزة الإلكترونية هاتِف والأشياء الثَّمينة، فالحياة مُعَقَّدة جدًا، وعُمْرنا قصير، وما يُطْبَعُ في اليوم الواحِد مِن الكُتب لا تسْتطيعُ أن تقرأه عبْر مائة عام، وفي شتَّى بِقاع الأرض، وبِكُلّ اللُّغات، عليك أن تصْطفي ماذا تصْطفي ؟ كلام الله، وفضْل كلام الله على كلام خلقِه، كَفَضْل الله على خلْقِهِ والإنسان زائِل ومُنته وحادِث وضعيف، ومضى وقتٌ لم يكن شيئًا مذْكورًا، والله تعالى أزلي وأبدي، والله قويّ وعالم والله تعالى مالِك لذا أعظم كتاب وهو كلام الله، وتختار أعْظم رسول وهو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فالذي يتبَّع كلام الله وسيرة رسوله فقد حاز العِلْم كُلَّه، وهذا هو العِلم النافِع، وهذا القرآن الذي لا فقْر بعده ولا غِنًى بعدهُ، وهو روحُ الرُّوح، وهو ربيع القلوب، وغِذاء الروح، وقد قال تعالى أنَّه شِفاء للمؤمنين، قال تعالى:

 

﴿وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا(82)﴾

 

[ سورة الإسراء ]

 الشيء الثاني و ألْحقني بالصالحين، فَمِن نِعَم الله الكُبْرى أن تكون مع المؤمنين، وأن تكون مع الصالحين، وفي مُجْتمع المؤمنين والإنسان مهما كان صفاؤُهُ تنْحرف نفْسُهُ إذا خالط المُنْحَرِفين ؛ من نظراتهم وبذاءة لِسانِهم ومُزاحِهم المُنْحَطّ وتعليقاتِهم الساخرة، فالصديق المُنْحرِف يُعَكِّر صَفْوك، ويُشَوِّهُ أخلاقك، قال تعالى:

 

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) ﴾

 

[سورة الشعراء ]

 و باقي الآيات نشْرحها في الدرس القادِم إن شاء الله.

تحميل النص

إخفاء الصور