وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 83 - 89 ، الإنسان خمسة أيام.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، لازِلنا في قِصَّة إبراهيم عليه السلام في سورة الشُّعَراء، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)﴾

[سورة الشعراء]

 هذا اليوم لا بدّ آتٍ، وكلُّ مُتَوَقَّعٍ آت، وكلّ آتٍ قريب، فالواحِد مِنَّا لِيَسْأل نفْسَهُ: كيف مَضَت الأربعون عامًا ؟ والخمسون عامًا ؟ كَلَمْحِ البصَر، فالأيام تَمْضي سِراعًا، وكذا الزَّمَن والإنسان بين يومٍ مَفْقود، وهو الذي مضى، ويوْمٍ مَشْهود وهو الذي يَحْضُرُه، ويَوْمٍ موْرود وهو ساعةُ الموْت، ويومٍ مَوْعود وهو يوْم القِيامة، ويوم مَمْدودٍ إلى ما شاء الله، فأنت بين خمْسة أيام ؛ وفي قَوْلٍ آخر ثلاثة أيام: ما مَضى فات والمُؤَمَّلُ غَيْب، ولك الساعة التي أنت فيها، أيْ أنَّك لا تَمْلِكُ إلا الساعة التي أنت فيها، فالتي مضَتْ مضَت ولا جَدوى للحديث عنها والتي لم تأت أنت لا تمْلكُها فقد لا نَصِل إليها، ولا يوجَد إنسان تُوُفِّي إلا ومِئات الأفكار وتَخطيط لِعَشْر سنوات أو أكثر، وأقلّ شيء التخطيط خمْس سنوات، فإذا بالموت يأتي ويُلغي كُلّ هذه الآمال فالمُسْتقبل لا تمْلكُهُ، والماضي مضى، وأنت لا تمْلِكُ إلا المُستقبل وهذا اليوم لا بدّ مِن أنَ نصِل إليه،قال تعالى:

 

﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) ﴾

 

[سورة الشعراء]

 أحيانًا قانون يصْدر مَرْسوما لِتَفْسيرهِ، ويختلف الناس في تَفسيرهِ فتَصْدُر تَعليمات تنْفيذِيَّة، ويختلف الناس في فَهْم هذه التَّعليمات وتَصْدر اجْتِهادات في المَحْكمَةَ الدُّسْتورِيَّة حتى نفْهم كلامًا قالهُ البشَر !! فكيف إذا كُنَّا مع كلام رب البشَر، خالِقُ البشَر الذي يقول في هذا اليوم الذي لا يستطيع أحدٌ أن يتفلَّت منه، ومهما علا شأنُهُ وكَبُرَت قُوَّتُهُ، ومهما ازْداد عِلْمُهُ، قال تعالى:

 

﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)﴾

 

[سورة الرحمن]

 ففي هذا اليوم، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) ﴾

 

[سورة الشعراء]

 مهما تركتَ مِن المال، ثمان مائة مليون، دعا أحد العلماء، وهو على فِراش المَوت وقال له ماذا أفْعَل فإنَّ هذا المال حصَّلْتُهُ مِن حرام، ومن دور القِمار فقال له هذا العالِم وقد قسى عليه بعض الشيء، وهو الحقّ: والله لو أنْفقْتَهُ كُلَّهُ لا تنْجو مِن عذاب الله، مهما كان حجْمُكَ المالي كبيرا، هناك مُلوك للمال في العالم، أحدُ مُلوك الحديد وُجِدَ ميِّتًا في عرض البحر مع امرأة عارِيَة ! أين مالهُ ؟ الذين يمْلِكون الملايين المُمَلْيَنَة يموتون ولا يأخُذون معهم شيئًا، فرَبُّنا عز وجل يقول لك: إيَّاك أن تأكُلَ مالاً حرامًا، وهذا المال ربَّما دخل به وَرَثَتُكَ الجنَّة ودخلتَ أنت به النار، وهذا هو أنْدَمُ الناس ! فقد حصَّلهُ هو بالحرام وأنْفقَهُ وَرَثَتُه بالحلال، لذلك لا تعْصي الله مِن أجل إنسان ؛ عَبْدي خَلَقْتُ لك السماوات والأرض ولم أعْيَ بِخَلْقِهِنّ أَفَيُعْييني رغيفٌ أسوقُهُ لَكَ كُلَّ حينٍ، لي عليك فريضَة ولكَ عليَّ رِزْق، فإذا خالَفْتني في فريضَتي لم أُخالفْك في رِزْقِك، وعِزَّتي وجلالي إن لم ترْضَ بِما قَسَمْتُهُ لك فَلأُسلِّطَنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوَحْش في البَرِيَّة ثمَّ لا ينالُكَ منها إلا ما قَسَمْتُهُ لك ولا أُبالي، وكنتَ عندي مَذْمومًا أنت تُريد وأنا أريد، فإذا سَلَّمْتَ لي في ما أريد سلَّمْتُ لك فيما أريد، وإن لم تُسَلِّم لي فيما أريد أتْعَبْتُكَ فيما تُريد ثمّ لا يكون إلا ما أُريد !
 قال تعالى:

 

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)﴾

 

[سورة الشعراء]

 اِغْتَصَب بيْتًا، ودخَلَ بالقَضاء ثماني سنوات، ووكَّل أكبر قاضي، واتَّفَق معه وبالنَّتيجة لم يصْدُر حُكم بِإخْلاء البيت ! اضْطَرَّ أصْحابُهُ أن يبيعُوا البيت بِثُلث قيمتِهِ وقَّع العَقْد وشَعَرَ بِنَشْوَة ما بعْدها نَشْوَة، وبعد تِسْعَةٍ وعشرين يومًا جاء أجَلُهُ، وَوُضِعَ في قبْرٍ في الباب الصغير، فأيْنَ البيت ؟ اغْتِصَبَهُ حرامًا وورَثَتُهُ نَعِموا به حلالاً، وهو سَيُعَذَّبُ به، قال تعالى:

 

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)﴾

 

[سورة الشعراء]

 نازَعْتَ أيْتاما، وأدْخَلت مَن يُمَثِّل ! ورَشَوْت ! وكذا لو كان لك شريك والمحلّ باسْمِك وهو ضعيف، تعلَّمْتَ منه الخِبْرة، وبعدما أتْقَنْتَها أخْرَجْتَهُ مِن المحَلّ بِأُسْلوب ذَكِيّ، ورميت هذا الأخير بالطريق ! الآية دقيقة جدًا، فالمال الذي تُحَصِّلُهُ من طريق غير مَشْروعٍ لا ينْفَعُكَ وسوف تكْوى به في نار جهنَّم، ولذا الميِّت إذا مات رفْرَفَتْ روحُهُ فوق العرْش، وتقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلْعَبَنَّ بكم الدنيا كما لَعِبَتْ بي، جَمَعْتُ المال مِمَّا حلّ وحَرُم، فأنْفَقْتُهُ في حِلِّهِ وفي غير حِلِّه فالهَناء لكم، والتَّبِعَةُ عليّ، فالطبيب أحْيانًا يُكَلِّف المريض بتحليل لا فائِدَة منه، وتَخطيط، وقد يتَّفق المريض مع المُحَلِّل، يُعَمِّر بيْته بمال الناس، وبعدها يأتيه ملَكُ المَوت، وهذا مُحامي لامِع جدًا، وكلَّما أخَذَ قضِيَّة نجَحَ فيها، لا لأنَّه ذكِي وإنَّما بِأساليب لا شرْعِيَّة يسْتخْدِمُها وجمَّع ثرْوَة، وبعدها مات ! أيُّ مالٍ تَجْمعُهُ حرامًا لن ينفعَكَ إضافة أنه يكون سبب شقَاءَك الأبَدِيّ، تواضِع لا ترْتفع، اتَّبِع ولا تبْتَدِع الورِع لا يتَّسِع، لُقْمة مِن حلال أفضَل من بيت من حرام، كُلّ شيء في الدنيا يُحَل بالسُّهولة ؛ دُيون وذِمم والغيبة يُسْتسْمح منها، مادام القلب ينبض فهُناكَ أمَل، وباب التوبة مَفتوح على مِصْراعَيْه، والله أيها الإخوة لا أرى أغْبى إنسان بنى مالاً على معْصِيَة الله، وهو يظنّ أنَّهُ ذَكِيّ، فهذا المال سيُدَمَّر، وسَيَكون سبب الشَّقاء الأبديّ، أربع أولاد دكاتِرة معهم شهادة البورد، ولكن الاسْتِقامة معدومة فيهم، وأتَوا بِزَوْجات أجْنبِيَّات، يسْبحون على البحْر بِأفْضَح ثِياب، لا بدّ لك مِن ولَدٍ صالِحٍ يدْعو لك، ومِن ولدٍ تُعَلِّمُهُ الشرع، وأن يدْعو إلى الله عز وجل، وهناك آية أُخرى بالإسراء، وهي قوله تعالى:

﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)﴾

[سورة الكهف]

 مال دون أولاد، وقلْبُهُ مَحْروق، وما ترَك بلدًا إلا وزارَهُ من أجل الإنْجاب ! وهذا معه جيش من الأولاد ولكن ليس معه المصاريف ! فالله جمَعَ بين المال والبنون، ولكن يوم القيامة لا يفْتخر الإنسان بهما فالأب قد يفْتخر بِمَرْكزه في المجتمع، ولكن الدِّين يقول لك: أصْلَحُهُ الله !
 قال تعالى بعد ذلك:

 

﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

 

[سورة الشعراء]

 هل طهَّرْتَ قلبَك من الحسد والأدْران والكِبر والغشّ والعُجْب وأمراض القلب، فأمْراض الجسَد مهما تفاقَمَتْ تنتهي عند الموت، ولكن أمراض القلب قد لا نشْعر بها في الحياة، كِبْر واعْتِداد بالذات واسْتِعلاء على الناس، وتيه، سمَّاها الغزالي المُهْلِكات، هذه الأمراض مُشْكِلَتُها تبْدأ عند الموت، ولا تنتهي إلى أبَدِ الآبدين، سرطان ! هناك سرَطان بالأمعاء لا يُحْتَمَل، ولكن بعد سَنَتيْن يموت، تشَمُّع كبِد ولكن بعدها يموت، وهذه الآية دقيقة جدًا، أرَدْتُ أن تكون مِحْوَر هذا الدَّرْس ؛ اِتَّق أن تأكل المال الحرام، يا سَعْدُ أطِب مطْعَمَكَ تكُن مُسْتجاب الدَّعْوَة، يقول العبد يا رب يا رب ومَطعمه حرام ومَشْربُهُ حرام، وغُذِّيَ بالحرام فأنَّى يُسْتَجاب له، والبنون عليك أن لا تهْتم بالولد النَّجيب واللاَّمِع ودَخْلُهُ كبير، وتأتى بِزَوْجة أجْنَبِيَّة، وتلْبس أفْضَح ثِياب، هذا لا ينْفعُكَ يوم القيامة، لا ينْفعُكَ إلا ابن عرف الله، ودعا إلى الله، تكون أعمالهُ كُلُّها في صحيفَتِك، قال تعالى:

 

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾

 

[سورة الشعراء]

 سَلِمَ من الشِّرْك والكِبر والحسد والعُجب والاستِعلاء وحُبّ الذات والذي عنده إحياء عُلوم الدِّين أو منهج القاصِدين، فهذان الكتابان على أمراض القلب، والله لا ينْجَح إلا القلب السليم، فتعاهَد قلْبَكَ، لذا قال عمر بن الخطاب: تَعَاهَد قلْبَكَ، ولا تَجْعل الناس أهْوَنَ الناظِرين إليك عبدي طهَّرْتَ مَنظَر الخلق سِنين، لماذا يعْتني الإنسان بالمنْظر الخارِجي ؟ اِعْتنِ بالمَنظر الداخلي ؛ القلب ! غرفة الضُّيوف يجب أن نُعيدَها، أفلا طهَّرْتَ قلبَكَ ساعَة، قلبٌ مُوَحِّد، ومُسْتسْلِم ومُفْتقِر.

 

تحميل النص

إخفاء الصور