وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 06 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 105 - 111 ، البلاء في الدنيا والجزاء في الآخرة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، في قِصَّة نوح عليه السلام مع قَوْمِهِ التي ورَدَت في سورة الشُّعراء بدْءً مِن الآية الخامِسَة بعد المائة، قال تعالى:

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) ﴾

[سورة الشعراء]

 بيتُ القصيد: أَنُؤمِنُ لك وقد اتَّبعك الأرْذَلون ! طبْعًا كلمة الأرْذلون ليس مقصودها المعنى الذي نَفْهَمُهُ، فالأرْذَلون معناها أنَّهم فُقَراء، عَدِي بن حاتِم كان مَلِكًا في الجزيرة العَرَبِيَّة، ووقَعت أمُّهُ سفَّانَة أسيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقد رأَتْ أُخْتُهُ، ومِن كمالهِ، وكيف كان يُطْعِم الجائِع ؟ ويَكسو العريان ؟ ويفكُّ الأسير ؟ ويرحم الصغير ؟ فنَصَحَتْ أخاها أن يذْهَب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقالتْ له: إنْ يكن ملِكًا ينالُكَ مِن خَيْرِهِ، وإن يكن نبِيًّا فللسابق فضْله، فجاء عدِيّ بن حاتِم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، سألهُ النبي عليه الصلاة والسلام: مَن الرَّجل ؟ فقال: عدِيّ بن حاتِم ! فأخَذَهُ إلى البيْت تَكْريمًا له، وفي بيْت النبي أعطاهُ وِسادَةً مِن أدَمٍ مَحْشُوَّةً به، وقال: اِجْلِس عليها، فقلتُ: أنت فقال: بل أنتَ، قال: فَجَلَسْتُ عليها، وجلسَ رسول الله على الأرض فقال: عليه الصلاة والسلام: إيهِ يا عدِيّ بن حاتِم، ألم تكُ رُكوسِيًّا ؟! دينٌ بين النَّصرانِيَّة والصابِئِيَّة، فقال: بلى، فقال: أوَلم تسِر في قَوْمِكِ بالمِرْباع ؟! قال: قلتُ بلى، قال: فإنَّ ذلك لم يكن يحلّ لك في دينِك ! - دقِّقوا في المناقشَة - أنت تُخالِف مبادىء دينِك، والإنسان ينْسَجِم ما الذي يَعْتَقِد قال: فَعَلِمْتُ أنَّه نبِيٌّ مُرْسَل يعْلم ما يجْهَل، فقال عديّ بن حاتِم: في الطريق اسْتَوْقفَتْهُ امْرأةٌ فقيرةٌ تُكَلِّمُ النبي في حاجَتِها، فَوَقَفَ النبي عليه الصلاة والسلام طويلاً فقُلْتُ في نَفْسي: ما هذا بِأَمْر ملِك، قال: إيهِ يا عديّ بن حاتم، لعلَّه إنَّما يَمنَعُكَ مِن دُخول في هذا الدِّين ما ترى من حاجتهم ! فقد كان أصْحاب النبي فقراء إلى درجة غير مَحْدودة، وكان أهل الفجور والعصْيان، يأكلون أطْيَبَ الطَّعام، وهم أقْوِياء مُتَمَكِّنون فالنبي قال له: لعلَّه إنَّما يَمنَعُكَ مِن دُخول في هذا الدِّين ما ترى من حاجتهم، وَيْمُ الله، لَيوشِكَنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجَدُ مَن يأخُذه ! فلمَّا جاءَت غنائِم كِسْرى سيِّدنا عمر قلَّبها بِقَضيب، وثمّ قال له: ولعلَّه إنَّما ما يمْنعُك مِن خول في هذا الدِّين أنَّك تر المُلْك والسُّلْطان في غيْرِهِم، فو الذي نفس مُحمَّد بِيَدِه لَيوشِكَنّ أن ترى القصور البابِلِيَّة مُفتَّحة للمسلمين، ولعلَّهُ إنَّما يمْنعُكَ مِن دُخول في هذا الدِّين ما ترى مِن كَثْرة عَدُوِّهم، فو الذي نفس محمَّد بيَدِه ليوشِكَنَّ أن تسْمع بالمرأة البابِلِيَّة تحجّ هذا البيْت على بعيرِها لا تخاف، لذا قال تعالى:

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)﴾

 

[سورة النور]

 قال تعالى:

 

﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) ﴾

 

[سورة الشعراء]

 أن يكون المؤمنون فقراء ؛ هذا مانِع، وأن يكون المؤمنون ضُعفا ء هذا مانِع ثاني، وأن يكون أعداء المؤمنين ؛ هذا مانِع ثالث، لكن أيُّها الإخْوة، الحُظوظ، فالمال والقوة حظّ، فالدَّولة النَّوَوِيَّة مرْهوبة الجانب وقد لا تسْتخدم هذا السِّلاح إطْلاقًا، والذكاء حظ والغِنى حظ والحُظوظ مُوَزَّعة في الدنيا تَوْزيع ابْتِلاء والدنيا مُؤَقَّتة إما أن تنْجح، وإما أن لا تنْجَح، وكلّ إنسان فيما عطاه له، وفيما منَعَه الله منه، هما مادَّة امْتِحان، فأنت مُمْتَحَنٌ مرَّتَين، فيما أوتيتَ وفيما حُرِمْت، فالواحد قد يُوَفَّق إلى زوْجة صالِحَة، فهذا مُمْتَحَن هل يأخذ بها إلى الله أم يسْتمْتِع بها وفقط ! وآخر لم يقدِر على الزَّواج، هذه مادَّة امْتِحانِهِ مع الله ؛ هل يَعُفّ ؟ فالحُظوظ ما أوتِيتَ منها، وما حُرِمْتَ منها هي مادَّة امْتِحانِكَ مع الله، ولأنّ الله عز وجل يقول:

 

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)﴾

 

[سورة المؤمنون]

 لا بدّ مِن أن تُمْتَحَن، والإمام الشافعي سُئل: أنَدْعوا الله بالابْتِلاء أم بالتَّمْكين ؟ فقال هذا الإمام: لن تُمَكَّن قبل أن تُبْتَلى، فالسيارة لا يُتَصَوَّر أن تُمْتَحَن بالهبوط، وكذا المؤمن لا بدّ أن يُمْتَحَن، قال تعالى:

 

﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)﴾

 

[سورة الأنفال]

 وقال تعالى:

 

﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾

 

[سورة آل عمران]

 فالله أعْطاك صِحَّة، إذًا مادَّة امْتِحانِك مع الله هذه الأخيرة، ماذا فَعَلْت بِهذا النَّشاط ؟ غيْرك عاجِز، وأعْطاك مالا، فماذا فَعَلْتَ به ؟ يقول الله عز وجل يوم القيامة: عبْدي أعْطَيْتُكَ مالاً فماذا فَعَلْتَ به ؟ فيقول: ما أنْفقْت منه شيئًا مخافَةَ الفقْر على أولادي من بعدي، فيقول الله له: ألم تعلم أنِّي أنا الرَّزاق ذو القوَّة المتين ؟ إنَّ الذي خَشيتَهُ على أولادِك مِن بعْدِك قد أنْزَلْتُهُ بهم ! ويقول لآخر: عبدي أعْطَيْتُكَ مالاً فماذا فَعَلْتَ به ؟ فيقول: يا رب، أنفقته على كُلّ مُحْتاجٍ ومِسْكين، لأنَّك خير حافِظًا وأنت أرْحَمُ الراحِمين فيقول الله له: عبدي أنا الحافظ لأولادِك من بعدِك، فالله يتولى أولاد مَن فعَل الخَيْر، وتجدهم بِمَناصِب رفيعة ولو كانوا في حياة أبيهم لما أمَّنَ لهم ما هم فيه ! دِرْهَمٌ تُنْفِقُهُ في حياتِك خير من ألف دِرْهمٍ بعد مماتِكم، ولقد شَهِدْت أرْبعًا أو خمْسا من الوصايا كُلُّها لم تُنَفَّذ، ومزَّقْتُها، ولم يُوافِقوا على إنفاق مائة ألف على روح والِدهم، وترك لهم عشرين مليون، فلا تَكُن تحت رحْمة إنسان قد لا يرْحمُك.
 النقطة الثانِيَة، أنّ الحُظوظ سوف تُوَزَّع في الآخرة تَوْزيع جزاء لا تَوْزيع ابْتِلاء، فلو أنَّ فلانًا غَنِيًّا، ولو معه ألف مليون، فالقُدْرَة على الاسْتِمْتاع مَحْدودة، والسَّنوات مَعْدودة، فإذا نجَحَ في امْتِحان الغِنى وذلك بِإنْفاقِهِ تمتَّع بِنَعيم مُقيم إلى أبد الآبدين، أما إذا أخْفقَ صار في جهنَّم إلى أبد الآبِدين، فالامْتِحان في الدنيا مؤَقَّتَة، وهذا الحظ لا يعْني شيئًا، فقد أعطى الله المال لِمَن لا يُحِبّ ؛ وكذا القوَّة، ولكن العِلم والحِكمة لا يُعطيها إلا لِمن يُحِبّ، فالحُظوظ مُوَزَّعة في الدنيا تَوزيع ابْتِلاء، وفي الآخرة توْزيع جزاء، قال تعالى:

﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)﴾

[سورة الإسراء]

 فالجندي مثل رئيس الأركان ! والمُعلِّم الابتِدائي مثل رئيس جامِعَة ! مُمَرِّض مثل جراح القلب ! مرتبَةُ الدنيا لا تعني شيئًا، وقد تعْني العَكس، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ))

 

[ رواه مسلم ]

 فالمال وسيلة وليس غايَة، ولكن عند أهل الدنيا غايَة، وإذا مات الإنسان ترك كل شيء، فعن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ بِنِصْفِ النَّهَارِ قُلْتُ مَا بَعَثَ إِلَيْهِ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِشَيْءٍ سَأَلَ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ سَأَلَنَا عَنْ أَشْيَاءَ سَمِعْنَاهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

 

(( مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ))

 

[ رواه ابن ماجه ]

 فالحُظوظ مُوَزَّعة في الدنيا تَوزيع ابْتِلاء، وفي الآخرة توْزيع جزاء، قال تعالى:

 

﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)﴾

 

[ سورة الإسراء ]

 الآخرة أبَدِيَّة وتعني كُلَّ شيء، أما المرتبة في الدنيا مُؤَقَّتة ولا تعني أنَّ الله يُحِبُّك.

 

تحميل النص

إخفاء الصور