وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 14 - سورة الشعراء - تفسير الآية 217 ، التوكل والإيمان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، الآيات الأخيرة في سورة الشعراء، وهي قوله تعالى:

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)﴾

 

(سورة الشعراء)

 قال تعالى:

﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(23)﴾

[ سورة المائدة ]

 مِن لوازِمِ الإيمان التَّوَكُّل، ومن توكَّل فَهُوَ مؤمن،فالَتَوَكَّل علاقة ترابُطِيَّة، فإذا آمَنْتَ ولم تتوَكَّل ففي إيمانِكَ شكّ، أما أن تتوَكَّل وأنت لسْتَ مؤمنا فهذا مُسْتحيل.
 أيها الإخوة، التَّوَكُّل مَحَلُّهُ القلب، والعمل محلُّه الجوارح، والمسلمون حينما عَكَسوا الآيَةَ تَخَلَّفوا عن رَكْب الحضارة، وأصْبَحوا في مُؤَخِّرَةِ الأمم، حينما ترَكوا الأسباب وتوكَّلوا على الله ؛ هذا هو التَّواكُل فالتَّوَكُّل في القلب، أما في الجوارِح فيجب أن تأخذ بِكُلِّ الأسباب، ولا تُسامَح في تَرْك الأسباب اتِّكالاً على الله، وأوْضَح مثَل تُفاحَّة لم تُغْسَل فيقول له: كُلْهَا وتوكَّل ! هذا هو الجَهْل بِعَيْنِهِ، فأنت عليك أن تغْسِلَها ثمَّ تتوكَّل على الله، وكذا الابن مرِض يقول لك: سَلِّمْهُ إلى الله ؛ هذا هو التَّخَلُّف، وهذا هو الجَهْل، ولكن خُذْهُ إلى الطبيب، واخْتَر أحْسَنَهم وخُذ الدَّواء بِشَكْل دقيق ثمّ قُلْ: يا رب، اِشْفِهِ وأنت الشافي، وكذا الأمر إن كنتَ تاجِرًا، ورأيْتَ صَفْقَةَ فاشْتَرَيْتَها بِتَسَرُّع ؛ يجب أن تدْرس السوق والأسْعار والنَّوْعِيَّة، وحاجة السوق لهذه البِضاعة والكَمِيَّة التي تُسْتَهْلَك، بعدها قل: يا جبَّار ! وكذا الأمر مع طالبٍ مُنْغَمِسٍ بالسَّهرات، تقول له: اُدْرُس فيقول لك: لن ينْسانَا الله ! نحن مؤمنون ! هذه الأمثِلَة مِن واقِعِ الحياة، فنحن لمَّا ترَكْنا الأخذ بالأسباب أصْبَحْنا في مُؤخِّرَةِ الرَّكْب، وليس هذا هو الإسلام، أوْضَح مثَل سيِّدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لمَّا هاجَر، لماذا لم يتْرُك الأخذ بالأسباب ؟ ولماذا أخَذَ طريقًا مُعاكِسًا للمدينة ؟ لماذا اتَّجَهَ نحو الساحِل؟ ولماذا عيَّن رجُلاً يَمْحو الآثار بعده ؟ لماذا عيَّنَ آخَرَ يتقصَّى الأخبار ؟ واسْتأجر خبيرًا بالطريق وكان مُشْرِكًا ؟ لماذا دَخَل إلى غار ثَوْر ؟ هذا هو النبي، فإذا كان التَّوَكُّل بِتَرْكِ الأسْباب، فالأوْلى أن يتوكَّل النبي على هذا النَّمَط، أين قوله تعالى:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا(71)﴾

[ سورة النِّساء ]

 لا يوجَد مؤمن يترُك الأخْذ بالأسباب إلا ويُؤاخِذُهُ الله عز وجل، يجب أن تأخذ حِذرَك، والمؤمن كيِّس فَطِن، فهذه النُّقْطة دقيقة جدًا، فالتَّوَكُّل مَحَلُّهُ القلب، والأخذْ بالأسباب مَحَلُّها الجوارِح، فإذا عُكِسَتْ وأصْبَحَ التَّوَكُّل في الجوارِح لا الأخذ بالأسباب كُنَّا في مُؤَخِّرة الرَّكْب، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح يقول:

 

((عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ فَقَالَ مَا قُلْتَ قَالَ قُلْتُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))

 

[ رواه أحمد ]

 تسْتَسْلِم، وتتْرُك الأخذ بالأسباب، ونحن عبيد إحْسان وليس عبيد امْتِحان ونحن ضِعاف، وأمورُنا ليْسَت بِيَدِنا، ولا حَوْل ولا قوَّة إلا بالله ؛ هذا كلام مُسْلِم ؟‍‍! فسَدَ ولَدُهُ، يقول لك: ليس بالأمر حيلة، والزَّمَن قدْ فسَدَ هذه أمْراض المُسْلمين ؛ عَكَسوا التَّوَكُّل ونقلوه من القلب إلى الجوارِح:

 

((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))

 

[ رواه أحمد ]

 ذَكَرْتُ في خُطْبَتَيْن سابِقَتَيْن أنَّ هناك فَقْر الكسَل ! وفقْر التَّسَيُّب، وفقْر التَّسْويف والاسْتِرخاء، وفقْر نقْض المواعيد، وفقْر عَدَم الإتْقان ؛ هذه كُلُّها تُسَبِّب الفقْر، هذا ليس فقْر القَدَر وإنَّما فقْر الكسَل.
 أحْيانًا يكون هناك تيَّار مائتان وعشرون، وهناك مأخَذ كهْربائي مَكْشوف، وعندك أحد الأولاد صُعِق ومات، لا تَقُل: انْتهى أجَلُهُ ! أنت تُحاسَب على هذا التَّقْصير، فما دام التَّيار مائتان وعشرون وكانت أسلاك مَكْشوفَة، وعندك أطفال صِغار ويَمشون دون حذاء، فلا تقل يتوَلاَّنا الله، هذا كلام مَرْفوض، فأنت يجب أن تأخذ بالأسباب كُلِّها الدَّواء والمُعالَجة والدِّراسة والتِّجارة، وبعد كُلِّ هذا تقول: يا رب، تَوَكَّلْتُ عليك، هذا بعد الأخْذ بالأسباب.
 أيها الإخوة الكرام، طريق عن يمينِهِ وعن يسارِهِ وادٍ سحيق فالوادي الأوَّل هو وادي تَرْك الأسباب، والوادي الثاني هو وادي الاعْتِماد عليها إن ترَكْتَها عصَيْتَ، وإن اعْتَمَدْتَ عليها أشْرَكْت ! فيَجِب أن تأخذ بها وأن تعتمد على الله تعالى، وهذا هو الإيمان.
 ومَن لم يتوَكَّل فليس مؤمنًا، وعلى الإنسان أن يوقِن أنَّ الله تعالى معه قال تعالى:

 

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)﴾

 

[ سورة الحديد ]

 معِيَّة عامَّة، أما فوله تعالى:

﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ(19)﴾

[ سورة الأنفال ]

 فهذه مَعِيَّة الحِفْظ والتَّاييد والنَّصْر والتَّوْفيق، فالعُلَماء قالوا: هناك مَعِيَّتان ؛ عامَّة وخاصَّة، فالمَعِيَّة العامَّة ؛ الله تعالى مع الكافر والمُلْحِد والمُجْرم، لقوله تعالى:

 

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)﴾

 

[ سورة الحديد ]

 بِعِلْمِهِ، أما المَعِيَّة الخاصَّة قال تعالى:

 

﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ(19)﴾

 

[ سورة الأنفال ]

 وقوله تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 وقوله تعالى:

 

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(123)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 أي معهم بالتأييد والنَّصْر، لكنّ هذه المَعِيَّة لها ثَمَن، قال تعالى:

 

﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(12)﴾

 

[ سورة المائدة ]

 إذًا التَّوَكُّل من لوازِمِ المؤمن، ومن لم يتوكَّل فليس مؤمنًا، وربُّنا عز وجل لِحِكْمةٍ بالِغَة بالغَةِ خلق الإنسان ضعيفًا، وهلوعًا، وذلك مِن أجل إن جاءَتْهُ الشِّدَّة يخاف فيَتَوَكَّل فإذا توَكَّل شَعَرَ بِوُجود الله، وأنَّ الله تعالى بصير وسميع وعليم ورحيم وقدير، فسَمْعُهُ تعالى ورحْمته وقُدرته وعلمهُ كُلُّها تتحقَّق منها إذا تَوَكَّلْتَ عليه سبحانه وتعالى، تشْعُر وكأنَّ الأمور سارَتْ بِشَكل آخر غير مألوف مِن أجل أن تنْصُرَكَ ومن أجل أن تحْفظك.
 أيها الإخوة الكرام، هناك أكبر عِبادة بالإسلام يغْفل عنها الكثير الدُّعاء مليون خطر وشبح مُصيبة تُصْرف بالدُّعاء، وهذا مِن أجل أن تتَّصِل به وتتقرَّب منه، لذلك جعلك شديد الخَوف والجزع، وترْتعد فرائسك لأيّ خطر، أما إذا اتَّصَلْت بالله وتَوَكَّلْت عليه ألقى في قلبك الطمأنينة والثبات، وألقى في قلبك التوازن، فالإنسان ضعيف وجذوع من أجل أن يعرف الله، ومن أجل أن يُحِبَّه، فهو أرادكَ أن تعرِفَهُ، وأن تُحِبَّه لأنّ كُلَّ السعادة معه، وفي القرب منه، فالمُشكِلات خلقها الله من أجل أن تقرب إليه، وأت تلوذ به وتتوكَّل عليه، فيأتي الفِعْل الإلهي لِمَصْلَحَتِك، عند ذلك تزْداد معْرِفَةً وتقرُّبًا، قال تعالى:

 

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)﴾

 

[ سورة الشعراء ]

 مَن هو العزيز ؟ الله عز وجل، ومِن معاني العزيز أنَّهُ يُنال جانبُهُ وأنَّه يحْتاجُهُ كُلُّ شيء في كُلِّ شيء، ومن معانيه كذلك أنَّهُ ينْدر وُجودُهُ، وتَشْتَدُّ الحاجة إليه، ويصْعب الوُصول إليه، فالله تعالى تصْعب الإحاطة به، وهو القويّ الغنيّ الذي لا يُنال جانِبُه والذي لا تتوقَّف حياته على شيء آخر، وهو فرْدٌ صَمَد، العزيز صِفَة قُوَّة، أما الرحيم فهي صفة كمال، فهو تعالى بِقَدر ما هو عظيم هو رحيم وبقدْر ما هو قوي هو كريم، وأنت في حياتِك قد ترى إنسانا تُحِبُّه ولا يُعْجِبُكَ، فأحيانًا الإنسان والِدَتُه قد تكون أُمِيَّة ويُحِبُّها حُبًّا لا حُدود له لكن تصَرُّفاتها فيها تَجاوُز، وقد تجد إنسانًا تُعْجَب بِعِلْمِهِ ولكنَّهُ لئيم ولا تُحِبُّه، لكنَّ الله تعالى عظيم، وبقدْر ما هو كذلك فهو رحيم، وبِقَدْر ما تخافهُ فأنت تُحِبُّه.
 قال تعالى:

 

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)﴾

 

[ سورة الشعراء ]

 من مقام إلى مقام، ومن منزلة إلى أخرى، ومن حال إلى حال قال تعالى:

 

﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾

 

[ سورة الشعراء ]

 فالله تعالى سميع عليم بصير، إن تكلَّمْتَ سمِعَكَ، وإن تَحَرَّكْتَ رآك، وإن سكَتَّ يعْلم ما في نفْسِك، فأنت توكَّل على هذا الإله العظيم، قال تعالى:

 

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) ﴾

 

[ سورة الشعراء ]

تحميل النص

إخفاء الصور