وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0289 - الوقت1- أهميته وخصائصه - الجراثيم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً بمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

قيمة الوقت في حياة الإنسان :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ أمضينا خطباً عدة في موضوع العبادة ، وخطباً مثلها في موضوع الصبر ، وعالجت في الأسابيع الماضية موضوع العلم ، وهأنذا أنتقل منه إلى أخطر موضوع في حياة الإنسان ، إنه الوقت .
 السيدة رابعة العدوية قالت : الإنسان بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، القرآن الكريم ، حبل الله المتين ، المنهج القويم ، الصراط المستقيم ، أبرز قيمة الوقت في حياة الإنسان ، فقال الله سبحانه وتعالى :

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾

[ سورة إبراهيم : 33]

 الليل والنهار يمثلان الوقت .

﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾

[ سورة إبراهيم :34]

الوقت وعاء كل عمل ، وعاء كل عبادة ، وعاء كل توبة ، وعاء كل إنجاز ، بالوقت تتعرف إلى الله عز وجل ، وبالوقت تحذر الدار الآخرة ، بالوقت تتقرب إلى الله ، فهذا الذي يمضي وقته من دون حساب يمضي وقته جزافاً ، هذا الذي يستهلك وقته استهلاكاً رخيصاً لا يعرف قيمة ذاته ، لا يعرف مهمته بالحياة .

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾

[ سورة إبراهيم : 33-34]

 في آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾

[ سورة الفرقان : 62]

 أي يخلف الليل النهار ، ويخلف النهار الليل .

﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾

[ سورة الفرقان : 62]

 أي الله سبحانه وتعالى منحنا وقتاً كافياً كي نعبده ، منحنا وقتاً كافياً كي نذكره، منحنا وقتاً كافياً كي نعود إليه ، كي نتوب إليه ليلاً ونهارًا ، أسبوعًا وأسبوعًا ، فصلاً وفصلاً ، صيفًا وشتاءً ، عامًا وعامًا .

 

قسم الله تعالى بالوقت ليلفت نظرنا إلى عظيم خطره :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى حينما يقسم ببعض خلقه ، والوقت من خلقه ، إنما يقسم ليلفت نظرنا إلى عظيم خطر هذا الشيء ، قال تعالى :

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾

[ سورة الليل : 1 ـ 2]

﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾

[ سورة الفجر : 1 ـ 3]

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾

[ سورة الضحى : 1 ـ 3 ]

ولكن السورة التي تعطي الوقت حقه من الخطورة ، ومن الأهمية إنها سورة العصر ، قال تعالى :

﴿وَالْعَصْرِ﴾

[ سورة العصر: 1]

 مطلق الزمن ، مضي الزمن ، تقلب الليالي والأيام ، تكرار الشهور والأعوام .

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

 تحرك عقارب الساعة يعني أن الإنسان في خسر ، كلما زادت ساعة خسر الإنسان من عمره ساعة ، كلما مرت الأيام والليالي اقترب الإنسان من ساعة الحساب ، كلما مضت الشهور والأعوام دنا يوم العقاب ، كلما تتالت السنون أصبح الحساب قريباً من الإنسان.
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وَالْعَصْرِ ، مطلق الزمن ، الزمن كما يصفه بعض علماء المادة إنه البعد الرابع للأشياء ، للشيء طول وعرض وعمق ، وله بعد رابع هو الزمن ، والحركة تعني الزمن ، مادامت الأرض تدور حول نفسها كان الليل والنهار ، ومادامت الأرض تدور حول الشمس كانت الفصول والأعوام ، ومادامت الشمس تجري لمستقر لها ، عندما تنتهي هذه الرحلة تنتهي الحياة الدنيا ، ينتهي كل شيء ، ويبقى كل شيء ، تنتهي اللذائذ ، وتبقى المآثم ، تنتهي الأحزان ، ويبقى الإكرام ، إذا مضت الحياة الدنيا بقي ثمن العمل .

 

الإنسان في خسر إلا من عرف مهمته في الحياة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

أي إنسان ، جنس الإنسان تقدم الزمن ليس في مصلحتك ، مرور الأيام ليس في مصلحتك .

﴿إِلَّا الَّذِينَ﴾

[ سورة العصر: 3]

 إلا الذين عرفوا مهمتهم بالحياة ، إلا الذين عرفوا لماذا كانوا في هذه الدنيا ، إلا الذين عرفوا من أين جاؤوا ، وإلى أين المصير ، إلا الذين عرفوا ربهم ، إلا الذين عرفوا حقيقة الحياة الدنيا ، إلا الذين عرفوا أثمن ما في الحياة الدنيا ، هؤلاء :

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

[ سورة العصر: 3]

 صبروا حتى آمنوا ، صبروا حتى عملوا الصالحات ، صبروا في الدعوة إلى الله ، هؤلاء

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

 عرفـوا ربهم ، وتقربوا إليه ، اتصلوا بخالقهم ، وأحسنوا إلى المخلوقات ، هؤلاء الذين عرفوا سرّ الحياة ، هؤلاء الذين عرفوا سرّ وجودهم مستثنون من هذه القاعدة :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

الوقت بين الاستهلاك و الاستثمار :

 يا أخا الإيمان ، ألا تصدق رب الأكوان ؟

ألا تصدق الخالق العظيم ؟ الحكيم الخبير يقول لك : مهما فعلت ، مهما اغتنيت ، مهما تنعمت ، مهما سافرت ، مهما زاد من شأنك ، مهما زاد من أولادك ، مهما تمتعت إنك في خسر ، ألا تصدق الله عز وجل ؟ لأن هذا العطاء لابد من أن ينتهي عند الموت ، لكنك إذا عرفت الله ، وتقربت إليه ، وعملت الصالحات، ونقلت اهتمامك كله من الدنيا إلى الآخرة ، أصبح الوقت في صالحك ، كنت تستهلك الوقت فإذا أنت تستثمره ، وشتان بين الاستهلاك والاستثمار ، مبلغ من المال قد تنفقه على طعامك وشرابك ونزهاتك ينتهي المال ، وتنقطع اللذة ، أما إذا استثمرته وعاد عليك بالأرباح الطائلة ، فأنت بين أن تستهلك الوقت ، وبين أن تستثمره ، هذه الساعة التي بيدك عقربها يسير نحو النهاية ، هذه الأيام ثمينة جداً .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيدنا معاذ بن جبل روى عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً قال فيه عليه الصلاة والسلام:

((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال ، عن عمره فيم أفناه ؟))

[الدارمي عن معاذ بن جبل]

 كيف أمضاه ؟ كيف استهلكه ؟ استهلكه في جمع الدرهم والدينار ؟ استهلكه في تحقيق مآربه الدنيوية ؟ استهلكه في تنمية ثرواته التي لن ينفقها جميعها ؟! كيف استهلكه؟!

((عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟))

[الدارمي عن معاذ بن جبل]

 قد يسأل سائل : أليس الشباب جزءاً من العمر ؟ نعم ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام خصّ الشباب بسؤال خاص ، لأن الشباب هي الفترة الخطيرة في حياة الإنسان ، فترة الاندفاع ، فترة اعتقاد العقائد ، فترة التطلع إلى المثل العليا ، فترة التمسك بالمبادئ ، فترة الاندفاع في أقصى سرعة ، ألم يقل الله عز وجل :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً﴾

[ سورة الروم : 54 ]

 لماذا الشباب بالذات ؟ لأنها قوة بين ضعفين ، قوة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة ، الطفل غير مكلف ، وضعيف ، ولا يقوى على شيء ، وإذا تقدمت بالإنسان العمر، أصبح ضعيفاً ، ووقف على هامش الحياة ، لكن سن الشباب من هنا قال الله تعالى في الحديث القدسي :

((أحب الطائعين ، وحبي للشاب الطائع أشد ، وأبغض العصاة ، وبغضي للشيخ العاصي أشد ))

[ورد في الأثر]

 شتان بين الشاب الطائع ، وبين الشاب العاصي ، من هنا يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه : " إن الله ليباهى الملائكة بالشاب التائب ، يقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي " .

((عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ وعن علمه ماذا عمل فيه ؟))

[الدارمي عن معاذ بن جبل]

 العمر والشباب أول سؤال يسأل عنه الإنسان يوم القيامة ، إنه الوقت كيف أمضيته ؟ هذه الليالي في الشتاء كيف أمضيتها ؟ في القيل والقال ؟ في كلام فراغ ؟ في الغيبة والنميمة ؟ في متابعة أعمال فنية سخيفة ؟ في الحديث عن الناس ؟ في الحديث عن الدنيا ؟ في الإيقاع بين الناس ؟ في الخصومات ؟ هذا الليل الطويل ربيع المؤمن ، كيف أمضيته ؟ هل طلبت العلم ؟ هل تعرفت إلى الله عز وجل ؟ هذا الصيف الطويل كيف أمضيته ؟ هذا النهار الطويل في الصيف كيف ضيعته ؟ في الاستجمام فقط ؟ في الاسترخاء فقط ؟ في مطالعة القصص السخيفة فقط ؟ كيف أمضيته ؟

((عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ ))

[الدارمي عن معاذ بن جبل]

تزامن العبادات في الإسلام مع الوقت :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ألا ترون معي أن العبادات في الإسلام تزامنت تزامناً عجيباً مع الوقت ؟ ما صلاة الفجر ؟ إنها قبل طلوع الشمس ، ماذا يقول المؤذن في أذان الفجر؟ يقول : الصلاة خير من النوم ، النوم استهلاك للوقت ، والصلاة استثمار له ، ماذا ينبغي أن تقول لهذا المؤذن الذي يقول لك : الصلاة خير من النوم ؟ تقول له : صدقت وبررت، إذا أصبحت الشمس في كبد السماء ، وزالت عن كبد السماء ، وأنت في زحمة العمل لئلا تستهلك استهلاكاً رخيصاً ، لئلا يأخذك العمل إلى مذاهب شتى كان وقت الظهر ، دع عملك ، دع معملك ، دع دكانك ، دع طاولتك وتوجه إلى الله عز وجل ، إذا مضى من الفجر ساعات عدة ، جاء وقت الظهيرة ، أصبح ظلّ الشيء مثله ، دخل وقت العصر ، غاب قرص الشمس جاء وقت المغرب ، غاب الشفق الأحمر دخل وقت العشاء .

((أرأيت لو كان بفناء أحدكم نهر يجري يغتسل منه كل يوم خمس مرات ما كان يبقى من درنه ؟ قالوا : لا شيء ، قال : فإن الصلاة تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن ))

[أخرجه ابن ماجه عن عثمان]

الصلوات الخمس متعلقة باليوم ، وأما صلاة الجمعة التي لها أحكام خاصة ، فيها خطبة ، فيها تذكير بكتاب الله ، فيها تذكير بسنة رسول الله ، فيها أمر بالمعروف ، فيها نهي عن المنكر ، فيها أمر بالتقوى ، فيها تذكير بالآخرة ، فيها تعريف بالدنيا ، إنها في كل أسبوع ، فإذا دخل الشهر ورأيت الهلال في كبد السماء ، فهناك عبادة الدعاء ، تقول : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله الذي خلقك أيها الهلال ، وقدرك منازل ، وجعلك آية للعالمين ، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والتوفيق لمَا تحب وترضى ، هلال خير ورشد ، ربي وربك الله . الأوقات في اليوم الواحد لها عبادات ، وهناك عبادة أسبوعية ، ألا وهي صلاة الجمعة ، وهناك دعاء شهري كلما استقبلت شهراً من شهور العام ، ويأتي رمضان عبادة السنة ، فيها حساب السنة ، رغم أنف عبد أدرك رمضان فلم يغفر له ، إن لم يغفر له فمتى ؟ ويأتي الحج عبادة العمر فالعمر مرة واحدة .
 الصلوات الخمس في اليوم ، وصلاة الجمعة في الأسبوع ، ودعاء استقبال الشهر عند كل شهر ، وفي كل عام شهر الصيام ، وفي العمر كله فريضة الحج ، لذلك كان السلف الصالح يقول : الصلوات الخمس ميزان اليوم ، كيف كان هذا اليوم ، وصلاة الجمعة ميزان الأسبوع ، ورمضان ميزان العام ، والحج ميزان العمر ، ألا ترى أن هذه العبادات تتماشى مع الأوقات ؟ ألا ترى أن هذه العبادات تريد أن تشعرك بالوقت ؟ استيقظ من الفراش فقد دخل وقت الفجر ، دع عملك وتوجه إلى المسجد ، فقد دخل وقت الظهر ، دخل وقت العصر ، دخل وقت الغياب ، دخل وقت العشاء ، جاء الأسبوع ، مضى الأسبوع ، جاء الشهر، مضى الشهر ، جاء العام ، مضى العام ، جاء العمر ، ومضى العمر .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ والزكاة أيضاً لها علاقة بالوقت ، عند كل حول يجب أن تزكي ، وعند كل محصول يجب أن تزكي ، وعلاقتها بالوقت واضحة .

 

خصائص الوقت :

1 ـ سرعة انقضائه :

 يا أيها الأخوة الأكارم ، الشيء الذي يلفت النظر أن للوقت خصائص ، من أبرز خصائص الوقت سرعة انقضائه .

﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾

[ سورة المؤمنون : 112ـ 113]

 الذي عاش عمراً مديداً مَديداً يراه قد انقضى وكأنه ساعة ، لذلك قال بعضهم: العمر ساعة اجعلها طاعة ، العمر كله ساعة اجعلها طاعة ، والنفس طماعة عودها القناعة .
 قال بعض الشعراء :

مرت سنين بالوصال وبالهنــــــــا  فكأنها من كفرهــــــا أيـام
ثم انثنت أيام هجر بعدهـــــــــــــــا  فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها  فكأنها وكأنهم ما كانـوا
***

تصفحت كتاباً عن قصص العرب ، وهو في أربعة أجزاء ممتعاً غاية المتعة ، بعد أن انتهيت من تصفحه وجدت أن هؤلاء أصحاب هذه القصص جميعاً ذكيهم وغبيهم ، قويهم وضعيفهم ، غنيهم وفقيرهم ، قد أصبحوا تحت أطباق الثرى ، ولم يبق إلا عملهم ، نحن كذلك بعد مئة عام لن تجد واحداً منا على قيد الحياة ، هكذا ، لذلك أخطر ما في حياة الإنسان الوقت ، دقيقة الألم ساعة ، وساعة اللذة دقيقة .

﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾

[ سورة غافر : 46]

 اللذائذ قد انقضت ، والنعيم قد انقضى ، وبقي الحساب والعذاب وهكذا الإنسان .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا كان آخر العمر موتاً فسواء فيه القصير والطويل ، تروي بعض الكتب أن سيدنا نوحاً عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، يلقبه بعض العلماء شيخ الأنبياء ، لما جاءه ملك الموت ليقبضه قال : يا أطول الأنبياء عمراً كيف رأيت الدنيا ؟ قال : رأيتها داراً لها بابان ، دخلت من أحدهما ، وخرجت من الآخر ، هكذا .

2 ـ ما مضى منه لا يعوض :

 الشيء الثاني من خصائص الوقت أن ما مضى منه لا يعوض ، الخصيصة الأولى : سرعة انقضائه ، والخصيصة الثانية : أن ما مضى منه لا يعوض ، ما مضى فات ، لن تعود عقارب الزمن إلى الوراء أبداً ، لذلك قال الإمام حسن البصري :

" ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا بن آدم أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني ، فإذا مضيت فلا أعود إلى يوم القيامة ، ما مضى فات ، والمؤمل غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها " هذه الساعة التي أنت فيها أخطر ساعات حياتك ، بهذه الساعة تتوب ، في هذه الساعة تتصدق ، في هذه الساعة تعمل الصالحات .

3 ـ الوقت أنفس ما يملكه الإنسان :

 شيء آخر : إن الوقت يا أيها الأخوة المؤمنون أنفس ما يملكه الإنسان ، إذا ملكت الآلاف المؤلفة ، وجاء ملك الموت فما قيمة هذه الأموال ؟ أثمن ما تملكه هو الوقت ، هذا الذي يدفع المال في الطريق ، يلقيه على قارعة الطريق ، ماذا يفعلون به ؟ يلقون الحجر عليه ، ويسلبونه حق التصرف في أمواله ، ويأخذونه إلى مستشفى الأمراض العقلية ، إذا كان الوقت أغلى من المال ، هذا الذي يبدد وقته في المقاهي ، هذا الذي يمضي السهرات الطويلة في الكلام الفارغ ، ألا يستحق هذا الإنسان أن يحجر عليه ؟ ألا يستحق أن يساق إلى مصحات الأمراض العقلية ؟ لأن الوقت أثمن ما يملكه الإنسان ، إنه وعاء لكل عمل ، رأس المال الحقيقي للإنسان ، الوقت هو الحياة ، بل أثمن شيء في الحياة .

 

موقفان يعرف الإنسان فيهما قيمة الوقت :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك موقفان يعرف الإنسان فيهما قيمة الوقت ، الموقف الذي يقول الله عنه :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾

[ سورة المنافقون : 9 ـ 10]

 بماذا أجاب الله عز وجل هذا الطالب ؟

﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾

[ سورة المنافقون : 11]

الموقف الثاني يا أيها الأخوة ، موقف يقفه الإنسان في الآخرة .

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾

[ سورة فاطر : 36 ـ 37 ]

 عمرناكم العمر الكافي ، مضت الأيام ، والشهور ، والأسابيع ، والسنون ، مضى صيف وشتاء ، وربيع وخريف ، مضى العقد الأول ، والعقد الثاني ، والعقد الثالث ، والعقد الرابع، والعقد الخامس ، ودخلت في الستين ، وفي السبعين .

﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾

[ سورة فاطر : 37]

 العلماء قالوا : النذير هو القرآن الكريم ، والنذير هو النبي الكريم ، والنذير هو سن الأربعين ، من دخل في الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة ، والنذير هو سن الستين في قول آخر ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :

((أعذر الله إلى امرئ أمهله حتى بلغ ستين عاماً))

[ رواه البخاري]

 والنذير هو المصائب ، والنذير هو موت الأقارب .

﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾

[ سورة فاطر : 37]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ سؤال محرج ، سؤال مزعج ، سؤال مفيد ، أن تسأل نفسك يا ترى هل بقي بقدر ما مضى ? إذا كان هذا الذي مضى قد مضى سريعاً وكأنه ساعة ، فما قولك في هذا الذي بقي ؟
 أيها الأخوة الأكارم ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الجراثيم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حدثتكم في الخطبة السابقة عن أن الله سبحانه وتعالى خلق كائنات دقيقة لا ترى بالعين ، ولا تحس باليد ، تلمس باليد ، ولا يسمع لها صوت ، وليس لها رائحة ، كائنات دقيقة دقيقة ، لكنها خطيرة في حياتنا إنها الجراثيم ، وهل معظم الأمراض إلا من الجراثيم ؟ هذه الجراثيم ، أو هذه الكائنات الدقيقة الدقيقة جاءت تحت قوله تعالى :

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾

[ سورة الحاقة : 39]

 أيعقل أن تكون رسالة الله إلى الإنسان من غير فائدة ولا هدف ؟! . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور