وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة القصص - تفسير الآية 56 ، الهدى اختيار شخصي.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، ففي سورة القصص آية بالغة الدِّقة، وهي قوله تعالى:

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ﴾

[سورة القصص]

 يُخاطب الله جلَّ جلاله النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيِّدُ الخلق وحبيب الحق، وما مِن إنسانٍ على وَجْه الأرض أقْدَرُ على هِداية الناس مِن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؛ عِلْمًا وحِكْمةً وتأثيرًا ونورانِيَّة ووحْيًا وعِصْمةً وصوابًا، ما من مخلوق على وجْه الأرض أقْدَرُ على هِداية الناس من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول له الله جلَّ جلاله:

 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾

 

[سورة القصص]

 ماذا يُفْهَمُ من هذا الكلام ؟ الهُدى اخْتِيار شَخْصي، فالإنسان إن لم يقْبل الهُدى، فلو جلسَ مع رسول الله ولو جلسَ مع الأنبياء جميعًا، ولو رأى كُلَّ المُعْجِزات، ولو رأى رَجُلاً خرجَ من القبْر وأخْبرهُ، ولو رأى هذا الكتاب نزل من السَّماء إن لم يَخْتر الهُدى، وإن لم يطلب الهُدى، لا تُجْدي معه كُلُّ الأدِلَّة والبراهين وأنواع البيان، ولا المُعْجِزات ولا الكرامات، لا أيّ شيء آخر، أما لو أراد الهُدَى وطلبَهُ فأيُّ شيءٍ في الأرض ينْتفِعُ به، فالطَّيْر يُعَلِّمُهُ، والنَّملة تُعَلِّمُهُ والنَّصيحة يأخذ بها، والآية يتفاعَلُ معها، والحديث يَخْضَعُ له، فهُناك قَرار يتَّخِذُهُ الإنسان في أعْماقِهِ إن لم يتَّخِذْهُ في أعْماقِهِ لا ينْفَعُهُ شيئًا وإن اتَّخَذَهُ ينْفَعُهُ كُلُّ شيء، فهل في الأرض كُلِّها إنسانٌ أجْدَرُ وأقْوى بِقُوَّة تأثيرهِ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، عَمُّهُ أو لهب هل آمَنَ به ؟ وأبو جَهل هل آمَنَ به ؟ قال تعالى:

 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ﴾

 

[سورة القصص]

 فأيُّ إنسانٍ أراد الهِداية يَهْديه الله تعالى، فقوله يهْدي مَن يشَاء تَعود على مَن أراد الهِدايَة، فلِذلك كثير من الآيات في ظاهِرِها يَدْعو إلى الحَيْرة، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(99)﴾

 

[سورة الأنعام]

 معنى ذلك اتَّخَذْتَ قرارًا أن تُؤْمن قبل أن ترى الآيات، فإن رأيْتَها آمَنْت، وقد قال الصَّحابة: أوتينَا الإيمان قبل القرآن، فأكْثَر مِن مائة آية تُشير إلى أنَّ الآيات والكلمات، والبيِّنات والدَّلالات والمُعْجِزات لا تنْفعُ إلا المؤمنين، قال تعالى:

 

﴿الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾

 

[سورة البقرة]

 فالهُدَى اخْتِياري، تَختارُهُ أنت، وعندَئِذٍ كُلُّ شيءٍ ينْفَعُكَ، فإذا دَخَلْتَ إلى الجامِعَة باخْتِيارِك، هناك أساتِذَة ومَكْتبة ضَخْمة ومَخْطوطات وسَكَن جامِعي، وبِعثات، وتَدْريبات، بِشَرْط أن تَدْخل الجامعة ! فإن لم تَدْخُلها فَكُلُّ ما فيها لا تنتفِعُ به، وهناك شيء ثاني يُوَضِّح الفِكْرة لو فرَضْنا إنسانًا دَخَل مَحلّ يبيعُ السُّجاد، والستائر فهو يبْحث عن الستائر ولا ينتبِهُ إلى السَّجاد إطْلاقًا، ولا يُلْقي له بالاً لأنَّ هَدَفهُ السَّتائِر فالمَحلّ فيه ستائر وسجَّاد، فأنت تهْتمُّ إلى الذي تريدُهُ، وكذا لو كنتَ تَسْكُنُ بيْتًا مُريحًا فيه كلّ شيء، فإذا قال له أحدهم في الطريق: هل تريدُ بيْتًا ؟ يُمْكن أن لا يردَّ عليه ! أما الذي تَجِدُهُ يبْحث عن بيت فإنَّه يفرح لهذا فرَحًا شديدًا، فالذي تجده يبْحث عن شيءٍ ترى له آذانًا صاغِيَة، يسْتنبط ويتأمَّل ويُحَلِّل، ويدْرس، وكُلّ نشاطه الفِكْري في ما هو عليه، وقد قيل الحاجةُ أُمُّ الاخْتِراع، فهذه الآية الله عز وجل يُخاطِب سيِّد الأنبياء، وسيِّد الرُّسل، وسيِّد الفُصَحاء والبُلَغاء وسيِّد ولد آدم، ومَن أوتِيَ الفصاحة والجمال وقوَّة البُرْهان، والوَحْي الصادِق وكُلّ شيء، ومع ذلك قال تعالى له:

 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

 

[سورة القصص]

 أما إذا شاء الواحِد الهِداية ؛ فهذا رَجُل جالسٌ رأس نمْلة صَعِدَتْ، فلمَّا وصَلَتْ إلى مكانٍ ما وَقَعَتْ، أعادَتْ الكرَّة أربعين مرَّة، وهذا الرَّجُل كان أُمِّيًا لا يقرأ ولا يكْتُب، أراد أن يتعلَّم فرأى الطريق طَويلاً وشاقًّا ولعلَّهُ رآهُ مُسْتحيلاً فعَزَفَ عن الدِّراسَة، أما هذه النَّمْلة التي صَعِدَت أربعين مرَّة علَّمَتْهُ درْسًا بليغًا، عادَ إلى الدِّراسَة وتعلَّم القِراءة والكتابة وتعلَّم القرآن، وما ماتَ إلا شَيْخ الأزْهر، وهناك شَخْص آخر، ولعلَّه زكرِّيا الأنصاري له ابن طلَبَ العِلْم بالأزْهَر، فلمَّا عاد إلى القرْيَة أعْجَبَهُ هذا الاخْتِصاص، وكان الأب أُمِّيًا، فرَكِبَ الدابَّة واتَّجَهَ إلى الأزْعَر كما كان يُسَمِّيه ‍‌! فقيل له: يا أيُّها الشَّيخ هذا اسْمُهُ الأزْهَر وكما يقول العلماء: بدأ هذا الرَّجل تعلُّم القِراءة والكتابة بالخامِسَة والخَمْسين ! وعاش إلى السادِسَة والتِّسْعين، وما ماتَ إلا وهو شَيْخ الأزْهَر، فالإنسان إذا اتَّخَذَ قرارًا داخِلِيًّا بِطَلَبِ الهِدايَة، وقد قال تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)﴾

 

[سورة العنكبوت]

 يُمْكِن أن تنتفِع مِن أصْغَر داعِيَة، عِلْمُهُ قليل إذا أرَدْت الهِداية، ولن تنتفِعَ مِن سيِّد المرسلين إن تُرِدِ الهِدايَة ! تُفَكِّر بالشَّمس والقمَر والنُّجوم والسَّحاب والأطيار، وخلْق الإنسان مِن سَمْعٍ وبصَر، تراها كُلَّها أدِلَّةً قاطِعَةً ونَيِّرَةً على وُجود الله، وكمالهِ وعَظَمَتِهِ، فالذين رأَوا البَحْر أصْبَحَ طريقًا يبَسًا، ورأَوا العصاةَ أصْبَحَت ثُعبانًا كبيرًا، ورأَوْا جبلاً انْشَقَّ فَخَرَجَتْ منه ناقَة ورأَوْا النار لم تُحْرِق إبراهيم عليه السَّلام قال تعالى:

 

﴿قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)﴾

 

[سورة الأعراف]

 فالأشياء الطَّبيعِيَّة والمألوفَة تنتَفِعُ بها وتصِلُ بها إلى الله، وخَرْقُ القوانين والمُعْجِزات لا تنتَفِعُ بها، هناك سِرّ دقيق، فالعِبْرة أن تطْلب الهِدايَة، وأن تُريد أن تؤْمِن، وأن تبْحث عن الحقيقة، فأنت قد تَجْلس مع إنسان، وتتكلَّم ساعة وساعَتَيْن، أحد العلماء كان جالِسًا بِحَديقة في أحد البلدان، وجلسَ بِجَانِبِهِ شَخْص مِن سُؤال إلى سُؤال، حتَّى قال له: أنا من بلاد الشَّرق الأوْسَط، وأنا رجل مُسْلم، فهذا الرَّجل العالم بِكُلّ ما أوتِيَ مِن فصاحَة وبلاغة وفَهم وقَدْر، شَرَحَ له الإسلام بِخَمْسين دقيقة، وترَكَ عشْر دقائِق للمناقشَة بعد كُلِّ هذه المُحاضَرَة البليغَة أخْرَجَ هذا الرَّجل المُسْتَمِع دولارًا وقال: هذا هو ربِّي الذي أعْبُدُه مِن دون الله ! قال تعالى:

 

﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(23)﴾

 

[سورة الأنفال]

 تَجِد شَخصًا يتعلَّم مِن أقلّ إنسانٍ، وآخر لو عاش مع أكْبر الأنبياء لا يتعلَّم منه، لأنّ الذي أراد الهُدى ينْفعُهُ كُلّ شيء والذي لم يُرِد الهُدَى لا ينتفِعُ بِشَيء، فربُّنا عز وجل يقول:

 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

 

[سورة القصص]

 أما إذا أرَدْتَ أن تُعيدَ الضَّمير على الله عز وجل، فَهُناك تفْسير آخر وهذا التَّفسير يقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى رسَمَ للهُدَى طريقًا، فَمَن لم يسْلُكْهُ لم يُهْتَد، كما أنَّ الطِّب رُسِمَ له طريقُهُ كي تصبح طبيبًا سبْعة سَنَوات، سنة علوم عامَّة، وسنة تَشريح، وسنة فيزْيولوجيا، وسنة علم الأمراض وسنة عِلْم أدْوِيَة وبعدها تَدْريبات وتأخذ إجازة بالطبّ وبعدها تقوم باخْتِصاص ثلاث سَنَوات، وبعدها تقوم باخْتِصاص سنة خارِج القُطْر حينها تُصْبِحُ طبيبًا، فهذا الطريق إذا سَلَكَهُ الإنسان أصْبَحَ طبيبًا، وتشاء له الدَّولة أن يكون طبيبًا، وهكذا فالله عز وجل لا يشاء الهِداية إلا مَن سَلَكَ طريقَها، والله تعالى لهُ سُنَن، أما إذا ورَدَ في القرآن أنَّ الله أضَلَّ فلانًا، قال علماء التَّوحيد: هذا هون الإضْلال الجَزائي المَبْني على إضْلال اخْتِياريّ فلو أنَّ طالبًا لم يُقَدِّم الفحْص ولم يشْتر الكتب، وأُرْسِلَ له إنذار واثنان وثلاثة فما اسْتَجاب، حينها صدَر قرار برفْض قيْدِهِ، فَحِينها لا يقل: الجامِعَة رفَضَتْني !! فالجامعَة أصْدَرَت هذا القرار تَجْسيدًا لِرَغْبَتِك في العزوف عن الدِّراسَة، فالآية هذه دقيقة:

 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

 

[سورة القصص]

 وهناك آية أُخْرى تُكْمِلُها وهي قوله تعالى:

 

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾

 

[سورة البقرة]

 إنَّك لا تسْتطيع أن تهْدي مَن أحْبَبْت ولسْتَ مسْؤولاً عن الناس، فالنبي عليه الصلاة والسلام يُبَلِّغ، والعلماء ما عليهم إلا البيان، والإنسان مُخَيَّر قال تعالى:

 

﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29)﴾

 

[سورة الكهف]

 وقال تعالى:

 

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾

 

[سورة الإنسان]

 وقال تعالى:

﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)﴾

[سورة فصلت]

 فأنت ما عليك إلا أن تتَّخذ قرارًا في نفْسِكَ للهُدى وكُل شيء تراه بين يَدَيْك، تتعلَّم مِن كلّ شيء، فهذا أبو حنيفة أشار إلى غلام: أنْ إيَّاك أن تسْقط في هذه الحفْرة، فهذا الغلام نبيه وقال له: بل أنت يا إمام إيَّاك أن تسْقط ! أنا إن سَقَطْتُ سَقَطْتُ وَحْدي، وإنَّك إن سَقَطْتَ سقَطَ معك العالم !!! فالطِّفل قد يُؤْتيك درْسًا بليغًا، وأحْيانًا الحادِثَة تُعَلِّمُكَ درْسًا، وكذا الآيات الكوْنيَّة.

 

تحميل النص

إخفاء الصور