وضع داكن
25-04-2024
Logo
العبادات الشعائرية : الوضوء 3 - نواقض الوضوء .
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠1الوضوء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

نواقض الوضوء :

 أيها الأخوة المؤمنون، وصلنا في موضوع الفقه إلى نواقض الوضوء، ونواقض الوضوء لا نحتاج إلى أن نقف عندها كثيراً، بل نكتفي بأن نقرأها، ونشرح بعضها.
 أولاً: خروج شيء من أحد السبيلين.
 ثانياً: ينقض الوضوء ولادة من غير رؤية دم.
 ثالثاً: نجاسة سائلة من غيرهما، أيْ من غير السبيلين، والنجاسة السائلة دم أو قيح.
 رابعاً: قيء طعام ملء الفم، فالقيء إذا ملأ الفم ينقض الوضوء.
 خامساً: دم غلب على الريق أو ساواه، فإذا خرج من الفم دمٌ غلبَ على الريق فهذا ينقض الوضوء.
 سادساً: النوم، وليس النوم ذاته ينقض الوضوء، ولكن النوم يضعف سيطرة الإنسان على أعضائه، فالنوم ينقض الوضوء لغيره لا لذاته.
 سابعاً: إغماء، وجنون، وسكر، وقهقهة بالغ يقظان في صلاة ذات ركوع وسجود، والعلماء قالوا: القهقهة وحدها لا تنقض الوضوء، ولكن الإنسان يتوضأ إذا تقهقه في الصلاة تأديباً له على استخفافه بهذه العبادة العظيمة.

عشرة أشياء لا تنقض الوضوء :

1 ـ ظهور دم لم يسل عن محله :

 ظهور دم لم يسل عن محله، فلو فَرَضْنا إنسانًا ثقبت يده بدبوس صغير، فخرجت نقطة دم لم تسل من محلها فهذا الدم لا ينقض الوضوء.

2 ـ سقوط لحم من غير سيلان دم :

 سقوط لحم من غير سيلان دم، فقد يكون هناك بثورٌ في الجلد، فإذا نزعت هذه البثور لم ينتقض الوضوء.

3 ـ مسُّ الرجل امرأته :

 من مس امرأة، على المذهب الحنفي امرأة أي زوجته، فإذا مس امرأة أجنبية فإن وضوءه ينتقض، فمسُّ الرجل امرأته لا ينقض الوضوء في المذهب الحنفي، والإمام الشافعي يقول: مس امرأة ينقض الوضوء، والتوفيق بينهما، أن الإنسان إذا مس يد امرأته وشعر بشيء فعليه أن يتوضأ، وإذا لم يشعر بشيء فلا عليه إذا لم يتوضأ.
 إذاً: التقليد في المذاهب وارد، والتلفيق مرفوض، التلفيق تصَيُّد الرخص في المذاهب، والتقليد أن تقلِّد المذهب في العلّة التي شرع هذا الحكم من أجلها، لذلك بعض العلماء قال: اختلاف الأئمة ليس اختلاف حجة وبرهان، إنما اختلاف بيئة وزمان، فلو أن الإمام أبا حنيفة رَضِي اللَّه عَنْه وُجِد في زمان الشافعي وفي بيئته لانطبقت أحكامُه على أحكام الإمام الشافعي، فاختلاف الأئمة ليس اختلاف حجة وبرهان إنما اختلاف بيئة وزمان.
 شيء آخر: اختلاف العلماء الفقهاء اختلاف رحمة، فاتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، و الاختلاف اختلاف غنى.
 جاءني رجل قبل الدرس يستفتيني في موضوع، والإمام مالك قال: أحقًّاً لو أن الإنسان أقسم بالطلاق ثلاث طلقات في مجلس واحد لا تنعقد إلا طلقة واحدة؟ نعم، لأن الثانية والثالثة تأكيد للأولى، فوقع طلقة واحدة، فاختلاف المذاهب رحمة واسعة، جاء عالم آخر قال: إن لم تكن الزوجة طرفاً في الموضوع، وكان زوجها يكره فراقها كما يكره مفارقةَ دينه، فإن هذه اليمين لا تنعقد، لا ينوي الطلاق، ولا يقصد الطلاق إطلاقاً، أراد أن يردعها، فإنّ هذا الطلاق هو المعلق، فهناك طلاق منجز، وطلاق معلق، وعلى كلٍّ اختلاف الأئمة رحمة واسعة.

4 ـ تمايل نائم :

 تمايل نائم، يسمع ما يقال، فما دام الذي يغمض عينه ويسمع ما يقال فوضوءه لم ينتقض، طبعاً هناك حكم: " ونومُ مصلٍّ، المصلي ينام؟ فلو فرضنا إنسانًا متعبًا تعبًا شديدًا،، وغفل ثواني وهو في القعود فلا ينتقض وضوءه ما دام مصلياً.
 وسوف نتابع هذه الموضوعات في درس قادم إن شاء الله تعالى.

* * *

علامات العلماء المخلصين :

1 ـ أن يقصد بعلمه اللهَ والدارَ الآخرة وألاَّ يقصد العالِمُ الحقُّ بعلمه الدنيا :

 سنقوم فيما يلي بمتابعة فصول مختارة من إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه، ولهذا الإمام كلمة في العلم يقول: "العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يُعْطِك شيئاً".
 تحدثنا في الدرس الماضي عن آفات العلم، وقد بيَّن الإمام الغزالي أن للعلماء المخلصين؛ وهم علماء الآخرة علامات، فمن هذه العلامات ألاّ يطلب العالم الدنيا بعلمه، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها، وكدورتها، وخطورتها، وانصرامها، أيْ زوالها، وأن يدرك عظم الآخرة ودوامها، وصفاء نعيمها، وجلالة ملكها، ويعلم أنهما متضادتان، والموضوع دقيق، وهذه آيات تقول:

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[ سورة الرحمن: 46 ]

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة البقرة: 201]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة النحل: 97]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 21]

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 18 ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[ سورة القصص: 61]

 من كل هذه الآيات والأحاديث يتضح أن المؤمن سعيد في الدنيا.

من طلب الدنيا لذاتها فقد أضرّ بآخرته :

 إذاً كيف يفسر قول عليه الصلاة والسلام:

(( مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى ))

[أحمد عَن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ]

 هذا الحديث قد يحمل على محمل آخر، هناك في اللغة العربية أسلوبُ استفهامٍ ليس فيه أداة استفهام، وسيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه فيما يروي التاريخ حينما رأى امرأة جائعة مع أطفالها، ذهب إلى بيت مال المسلمين، وقال لخادمه: احمِل على ظهري كيساً، فقال: أحمله عليك أم عنك؟ فقال له: احمله علي، أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ كلمة "أنت تحمل وزري يوم القيامة "، هذا كلام بحسب الظاهر تقريبي، لكن صياغة هذا الكلام والسياق العام يؤكد أنه استفهامي، وكذلك سيدنا موسى حينما التقى بفرعون:

﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴾

[ سورة الشعراء: 20 ]

 لا يمكن أن يستقيم السياق على أن تفهم الجملة فهماً تقريرياً، وهل يُعقل أن يكون النبي ضالاً؟

﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴾

[ سورة الشعراء: 20 ]

 يجب أن نفهم هذه الآية فهماً على صيغة الاستفهام، بعض العلماء قالوا: من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه؟ لا:

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[ سورة الرحمن: 46 ]

 لكن من طلب الدنيا لذاتها ربما كان هذا ضرراً لآخرته، فعلى هذا المحمل نحمل هذا القول الطويل، يقول الإمام الغزالي: لو يعلم أنهما كالضرتين، مهما أرضيتَ إحداهما أسخطتَ الأخرى، وأنهما ككفتي ميزان، مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وكأنهما كالمشرق والمغرب، مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ، فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلئ يفرغ الآخر، فإنه من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها، فهو فاسد العقل.

من آثر شهوته على محبة الله حرمه الله لذة مناجاته :

 في أثناء أدائنا العمرة، لي قريب قال لي: انظر إلى هذا البناء، بناء يناهز ثلاثين أو أربعين طابقًا، ما وقعت عيني على بناء أجمل منه، قال: هذا البناء توفي صاحبُه قبل افتتاحه بأسبوع، وقيل: هذا البناء كلف صاحبه عشرات الملايين، وتوفي عن عمر لا يزيد عن سبع وأربعين سنة، وكان طويل القامة، وضع في قبر صغير فلم يتسع القبر له، فضغطوه ضغطاً حتى جاء رأسه ملتويًا مع رقبته، والبيت الذي كان يسكنه يزيد ثمنه عن عشرات الملايين، وهكذا حكمة الله عز وجل، أن ينزل في قبر يضيق عنه طولاً، فالإنسان حينما يتيقن من زوال الدنيا يلتفت إلى الآخرة، فإذا طمع فيها فقد أهلكته وهلك.
 من أقوال السلف الصالح: "إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي "، وأحد العلماء الكبار توفي فشاهده بعض تلامذته في المنام، فقال له: يا سيدي ما فعل الله بك؟ يبدو أن هذا العالم له شأن كبير، ومؤلفات خطيرة، وكتب، وآراء، وإنتاج علمي، وسمعة، وصيت، وهو نجم متألق، فقال له: يا بني طاحت تلك العبارات، وذهبت تلك الإشارات، ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل.
 فليحذر المرءُ أنْ يصيبه غرور ويقع في غشاشة نفسه، إذا كان لك صلة بالله حقيقية مبنية على استقامة تامة، وعلى عمل صالح فهنيئاً لك، وما سوى ذلك فقد يملأ الإنسان الآفاق بسمعته، وعند الله لا يساوي جناح بعوضة، طاحت وذهبت تلك الإشارات، ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل، قِفْ في الصلاة، وانظُرْ إلى قلبك، هل لك صلة بالله عز وجل؟ أَلك التفاف نحوه؟ وهل تدمع هذه العين لآية تقرؤها؟ هل لك عمل خالص لوجه الله لا تبتغي به أحداً إلا رضا الله عز وجل؟ إن كنت تخشى على نفسك بعض الشرك الخفي فاكتم عملك؟ إذا استيقظت قبل صلاة الفجر، وصليت قيام الليل، ولم تحدث بهذه الصلاة أحداً، هذا مما يؤكد لك بأنك مخلص، فإن فعلت عملاً ولم تحدث به أحداً، فهذا مما يؤكد لك بأنك مخلص، فالإخلاص له طريق، عبادة في جوف الليل والناس نيام، وعمل صالح لا يبغي به أحدًا من الناس، وهذا يؤكد إخلاصك لله عز وجل، وكلما تعاظم شعورك بإخلاصك كلما ازداد إقبالك على الله عز وجل، وما أقبل عبدٌ بقلبه على الله عز وجل إلا جعل قلوبَ المؤمنين تنساق إليه بالمودة والرحمة، وكان اللهُ له بكل خير أسرع.

الابتعاد عن الشرك الخفي :

 الإنسان خلاصتُه علاقتُه مع الله عز وجل، وَحِّدْ، وإياك أن تشرك، فإنَّ الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على جور، وأن تبغض على عدل، فإذا نصحك شخصٌ نصيحة، وهو محق فيها فقلتَ له: أنت مخطئ، وغضبت، فقد أشركتَ نفسك مع الله، أو أنّ شخصًا له انحراف وأحببته على انحرافه، فهذا شرك، فإذا أحببت إنساناً مع انحراف فهذا أحد أنواع الشرك الخفي.

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، قَالَ: قُلْنَا بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ ))

[ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

((عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ قَالَ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ فَأَبْكَانِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ قَالَ نَعَمْ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ ))

[أحمد عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ]

 فهذه انتهى وقتها، هذه لن تعود إلى قيام الساعة، ولكن شهوة خفية، وأعمال لغير الله، فإذا الإنسان آتاه اللهُ عز وجل رقابة صارمة على نفسه، فقد يلاحظ أحيانًا أنّ له أعمالاً يبتغي فيها غير وجه الله، بل يريد وجه الناس، ويُلاحِظ أنّهم لم يشيروا إلى عمله الصالح فينزعج فمثَلُه كمثلِ طبيبٍ عمِل عمليةً جراحيةً، وبذلَ فيها وقتًا كبيرًا، وضحّى، وما تقاضى شيئًا، فإذا لم يُكتب عنه في الصحيفة تألَّم، يقول: يكتبون ولو كلمة عني، وعن مهارتي في العملية، فحينما يراقب الإنسان نفسه مراقبة صارمة يجد نفسَه أنّ له أعمالاً كثيرة ظاهرُها حسن، وتنطوي على شرك بالله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، لذلك:

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة يوسف: 106 ]

 قد تقيم وليمة لا تبتغي بها وجه الله، هناك أدعية كنت أقولها لكم دائماً: "اللهم إنا نعوذ بك أن نقول قولاً في رضاك نلتمس أحداً سواك"، "اللهم إنا نعوذ بك أن نتزين للناس بشيء يشيننا عندك"، "اللهم إنا نعوذ بك أن يكون أحد أنفع بما علمتنا منا"، "اللهم إنا نعوذ بك أن نكون عبرة لأحد من خلقك"، فلا نكون نحن قصة، يتعلمُ الناس فينا، "إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أنْ أحرمه لذيذ مناجاتي".
 وتروي كتب الأثر أن مؤمنًا ارتكب مخالفة فخجلت نفسه وأحجمت، وعاش في جفوة طويلة، وهو ينتظر أن يعاقبه الله عز وجل.

((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ))

[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

حال الجفاء مع الله عز وجل حال صعب :

 وبعدُ فكلُّ واحد منا حسب ما سمعتم أنه:

(( ما من عثرةً، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عودٍ، إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر))

[ أخرجه ابن عساكر عن البراء ]

 صار عنده قناعة أنّ كل شيء يصيبه بسبب تقصير، أو ذنب، أو مخالفة، فهذا وقع في مخالفة فانتظر الجواب، كطالب اقترف ذنبًا ومرَّ بالأستاذ في مكان ضيق فحاول أنْ يتوارى، كمَن يتوقع أنه سيأكل صفعةً على قفاه، وأحسَّ لها فتجمع، فهذا المؤمن ارتكب مخالفة وينتظر من الله العقوبة، فلم يحصل معه شيء، مرَّ يومٌ، وثانٍ، وثالث، ولم يحصل له شيء، وما أحد حاسبه أو أساء له، ولا أحد أهانه، وما فقد شيئًا، تعجب وهو ينتظر العقوبة من الله عز وجل، ويظهر أنه في ساعة صفاء قام وناجى ربَّه، قال: يا ربي لقد عصيتك ولم تعاقبني؟ فقال: عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذة مناجاتي؟ ألا تكفيك هذه؟ تريد أخطر؟ يكفيك هذا، فهذه الجفوة لأسبوعين أو ثلاثة، وصلاةٌ شكلية، وعباداتٌ شكلية، وقد شعر بضيق، وانقباض نفسٍ، وضاقت عليه الأرض على رحابتها، إنّها عقوبة صارمة.

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة التوبة: 118 ]

 هذا حال يكفي، حال الجفاء صعب، لذلك بعض قال الشعراء:

فما حبنا سهل و كل من ادَّعـى  سهولته قلنا له قـــد جــهلتنا
فأيسر ما في الحب بالصب قتله  و أصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
***

 وقال أحدهم: لو قال محبوبه:

لَو قالَ تِيهاً: قِف عَلَى جَمْرِ الغَض َا لوقفتُ مُمْتثلاً ولَـــمْ أَتَوقَّفِ
أو كان من يرضى بخدي موطئـاً  لوضعته أرضاً ولم أستنكــف
***

 جمر الغضا أشد أنواع الجمر، وقال آخر:

هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا  فليس لي عنهم معدل و إن عدلوا
والله إن فتتوا في حبهم كـبدي  باق على حبهم راضٍ بما فـعلوا
***

بطولة الإنسان أن يحب الله وهو في وضع صعب :

 لا تنظر إلى نفسك حالَ الرخاء، ففي الرخاء كلنا نحب الله عز وجل، والبطولة إذَا لاح شبحُ مصيبة، أو ضائقة، أو مشكلة، أو أصاب شيءٌ الجسد، أو أصاب الدخل، أو الأسرة، أو نقص في الثمرات، في الطعام، في مِثل هذه الظروف إذا قلت: الحمد لله رب العالمين، فأنت مؤمن وربِّ الكعبة، لأنّ الإمام علي كرم الله وجهه قال: "الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين "، فالبطولة أن تحب الله وأنت في وضع صعب، النبي الكريم علمنا:

((عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))

[مسلم عَنْ صُهَيْبٍ]

 أما محبُّ الدنيا فيتكبر في الرخاء، ويصرخ في الشدة، فذو دعاء عريض، في الرخاء يشعر أنّ الأرض لا تسعه، فالمتكبر أحمق، وجاهل، وفي الشدة تجده يئوسًا، قنوطًا.

﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا *قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾

[ سورة الإسراء: 83 ـ 84 ]

من كان قلبه عامرًا بذكر الله فلن يخاف أحداً :

 يا ذا العزة والجبروت، يا ذا الملك والملكوت، يا من حفظت موسى بالتابوت، صندوق في النهر، ونجيت يونسَ من بطن الحوت، وحفظت الحبيب محمداً بنسيج العنكبوت، والله كلمة لو أقرؤها مئة مرة لا أشبع منها: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" فإذا كنت معه مستقيمًا، وإذا كان قلبك عامرًا بذكر الله، فينبغي ألاّ تخاف مِن أيِّ جهة في الأرض، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾

[ سورة المائدة: 12 ]

 هذه المعية ليست مطلقة، بل مشروطة " إني معكم " كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي بما أريد ولا تقل ما يصلحك، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد، كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد، أتعبتُك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، فإذا كان الإنسان يتعامل مع هذه المعاني، يجد علاقته كلها مع الله عز وجل.

في الحياة أشياء متعاكسة و أشدُّ شيءٍ راحةً أنْ ترضي الله وحده :

 في الأرض مليون جهة، تريد أنْ ترضي زوجتك فتغضب أمُّك، أو بالعكس، ترضي الوالدة فتغضب الزوجة، ترضي هذا الابن فيسخط الثاني، وإذا زرت هذه البنت سخِطتْ الثانية، إنْ أرضيتَ في الوظيفة مَن هُم أعلى منك أسخطتَ الله عز وجل، إنْ بَعتَ بسعر معقول فلا تربح، وإنْ أردتَ أنْ تربح أغضبتَ الله عز وجل، ففي الحياة أشياء متعاكسة تماماً، وأشدُّ شيءٍ راحةً وأسهله أنْ ترضي الله وحده:

(( اعمل لوجه واحد يكفِك الوجوه كلها ))

[ أخرجه ابن عدي والديلمي عن أنس ]

 وفي قول آخر:

((من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها))

[ الجامع لأحكام القرآن ]

 وهناك قول ثالث:

((ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ))

[ الترمذي عن أنس]

 وأوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاخدميه، ومن خذلك فلا تخذليه، إنّ أدنى ما أصنع بالعالِم إذا آثر شهوته على محبتي أنْ أحرمه لذيذ مناجاتي، " يا داود لا تسأل عني عالمًا قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي- يقول مثلاً: ماذا جدَّ معك؟ اشتريتَ بيتاً أم تزوجتَ؟ كم دخلك؟ ماذا فعلت؟ أذهبت إلى المحل الفلاني؟ هل سافرت أم خرجتَ إلى نزهة؟ يدعوك إلى الدنيا- فيصدك عن طريق محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي، فإذا قابلتَ محبًّاً للدنيا فهذا من قُطَّاع الطريق على عبادي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً، يا داود من رد إليَّ هارباً أكسبته جهبذا"، شخص شارد ضائع، يعصي الله ثم جئتَ فأكرمته، وأقنعته، ودللته، وخدمته، وجئت به إلى الدرس، وتحمَّلته وأعنتَه، وذاكرت معه الدرس حتى صارَ مستقيمًا استقامة تامة، بهذا قد آويتَ لله هاربًا، فما قولك إذا كان عند شخصٍ ابنٌ غالٍ، وضاع هذا الابن، فوجده شخص يعرف أباه، فأكرمه، وأطعمه، وألبسه، وردّه إلى أبيه، سيقول له الأب: أنت فعلتَ معي معروفًا لا أنساه حتى الموت، وكثيرًا ما كنت أضرب مثالاً، لو فرضنا ضابطًا في الجيش، برتبة عالية، لواء مثلاً، وعنده مجنَّد، وهذا المجند رأى ابن هذا الضابط الكبير يغرق في النهر، فألقى بنفسه في النهر، وكان على وشك الموت فأنقذه، وأكرمه، وردَّه إلى أبيه، ألا يستطيع هذا المجند أن يتجاوز التسلسل ويدخل على هذا الضابط الكبير في كل لحظة يشاؤها؟ هذه هي الخلاصة كلها.

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف:110]

باب الله مفتوح على مصراعيه و ثمنه العمل الصالح :

 إذا أردتَ مثلاً أنْ تدخل إلى موظَّف، مدير تربية، مدير معمل، إلخ … فلا بد من انتظار، ومع الانتظار أسئلة، ما اسمك؟ وما الموضوع؟ تعالَ غدًا، فالمقابلة ليست سهلة، أمّا ربنا عز وجل فيقول:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ﴾

[ سورة الكهف: 110 ]

 اعمل بهذه الوصفة، فباب الله مفتوح على مصراعيه، والدخول بثمن، وثمنه العمل الصالح، وأبواب الأعمال الصالحة:

(( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم- العمل يحتاج مالاً- فسعوهم بأخلاقكم ))

[أخرجه أبو يعلى عن أبي هريرة ]

 الكلمة الطيبة عمل صالح، وأن تتبسم في وجه أخيك، وأن تلقاه بوجه طيب، و أنْ تردَّ الضال إلى أرضه عمل صالح، وأن ترشد الغريب عمل صالح، وأن تميط الأذى عن الطريق عمل صالح، وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي عمل صالح، وأن تعود مريضاً عمل صالح، وأن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وأن تعلم الناس آية من كتاب الله، فأبواب الأعمال الصالح مفتوحة على مصاريعها، وهي ثمن اللقاء مع الله عز وجل.

موت القلب طلبُ الدنيا بعمل الآخرة :

 قال: فلان ذو قلب ميّت، أي أنّ موت القلب طلبُ الدنيا بعمل الآخرة.
 وقال يحيى بن معاذ: "إنما يذهب بهاءُ العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا "، العلم والحكمة لهما بهاء، وهذا البهاء يذهب إذا طلب بهما الدنيا، وقال عمر رَضِي اللَّه عَنْه: "إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم، فإن كل محب يخوض فيما أحب "، وقال رجل إلى أخ له: "إنك قد أوتيت علماً، فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم "، ويحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا: "يا أصحاب العلم! قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين الشريعة المحمدية؟".
 قيل لبعض العارفين: "أترى أنّ من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله عز وجل"؟ إطلاقاً، قد يجلس في سهرة وفيها معصية، فيها سرور بزعمه، وفيها اختلاط، يخوض في بحر الغيبة والنميمة، والغمز واللمز، ثم قام مرتاحًا، ونام بكل راحة، واستيقظ صباحًا مسروراً، وقال: واللهِ البارحة سهرنا سهرة لا أنساها، فما دام مرتاح النفس بالمعصية فهو لا يعرف الله تعالى أبداً، هذا لو كان يعرف الله قليلاً لنام متألمًا على هذه المعصية، لكنّه ما دام لا يتألم فليس به إحساس كالمؤمنين.

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فقال هذا العارف بالله: "لا أشك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة فإنه لا يعرف الله تعالى"، وقال بعضهم ": لا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة فإن الجاه أضر من المال " ففي الحياة شهوات غير المال، الوجاهات شهوات أيضًا يحرص الناس عليها، وعندما تموت من قلبِ الإنسان كلُّ الشهوات المنحرفة، وكل أنواع الشرك، عندئذٍ يتقبَّله الله عز وجل.

الله سبحانه وتعالى لا يجمع على عبده أَمْنَيْنِ وخَوفَيْنِ :

 كان بِشرٌ يقول: "أنا أشتهي أن أحدِّث، لذلك لا أحدِّث أحداً، ولو ذهبت عني شهوةُ الحديث لحدَّثتُ "، هذا هو الإخلاص، وما دمتُ أشتهي أن أحدِّث فلن أحدث أبداً، فإذا ذهبت عني شهوةُ الحديث حدَّثتُ، وقال هو وغيره:" إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت، فإذا لم تشتهِ فحدِّثْ ".
 قال سهل رحمه الله: " العلم كله دنيا، والآخرة منه العمل به "، العلم دنيا، هذا معه مال، هذا أثاث بيته فخم، وهذا متعلِّم علمًا، يتيه به على الناس كالطاووس، فالعلم كله دنيا، والآخرة منه العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص.
 وقال بعضهم: "الناس كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء سكارى بعلمهم إلا العاملين، والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين، والمخلص على وَجَل حتى يدري ماذا يختم له به ".
 يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "ولا أدري ما يفعل بي"، أي هو صلى الله عليه و سلم في وجل، وكل إنسان لا يخاف، ولا يكون قلقاً، بل هو مطمئن بالدنيا، فهذا في غفلة و ضياع، فالله سبحانه وتعالى لا يجمع على عبده أَمْنَيْنِ وخَوفَيْنِ، فإنْ أمنه في الدنيا خافه يوم القيامة، وإن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن علامات الإنسان المخلص أنه قلق، يخاف ألاّ يكون مخلصاً، ويخاف ألا يكون موحِّداً، يخاف أن يكون عمله مشوباً بنية لا ترضي الله، وما دام في قلق، بخ بخ فذلك محض الإيمان:

((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا ))

[أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 لي قريب توفي منذ زمنٍ، فذهبنا لإجراء المعاملة، آلمني كثيرًا أنّ على أبوابِ مكتبِ دفنِ الموتى قراء كثيرون، وكلهم يرجو ويتوسل أنْ تكلِّفه بقراءة القرآن في المساء، ويقول لك: لباس موحد، وأصوات عذبة، يحاول أنْ يغريك، سبحان الله، كتاب الله ينزل إلى هذا المستوى عند هؤلاء؟ فَلْيَبْحَثْ الإنساُن عن أيِّ عملٍ آخر، فهذا كتاب الله، إنه شيء مقدس، وإنْ كان العلماء أجازوا أن يأخذ الإنسان أجراً على كتاب الله، لأنه كالمعلِّم قد تفرَّغ للتعليم، وهو يعلم الأطفال كتابَ الله، فمِن أين يأكل إنْ لم يتقاضَ أجرًا؟ لذلك أجاز العلماء له أخذ الأجرة على ذلك، لكن أن يرجوَ أحدُهم، ويلحّ، ويطالب، ويتحدث عن ميزاته، ويحسد أخاه الذي كانت هذه المسائية من حصته ونصيبه، ويتهمه بأشياء كثيرة، هذا شيء مؤلم، فكتاب الله ينبغي أن يكون في الأوج.
 وهذا خبر آخر: إن العبد ليُنشَر له من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، فهذه الأحاديث والأقوال يجب أن تُؤخذ مأخذ الجَدِّ، فعلى الإنسان أنْ يراقب نفسه، ويراقب قلبه، ويتوخى الإخلاص، أخلص دينك يكفِك القليلُ من العمل، درهم أُنفِق في إخلاص خيرٌ من مئة ألف درهم أُنفِق في رياء، هذه الصفة الأولى، أنْ يقصد بعلمه اللهَ والدارَ الآخرة، وألاَّ يقصد العالِمُ الحقُّ بعلمه الدنيا.

2 ـ ألاّ يخالف فعلُه قولَه :

 الصفة الثانية ومنها ألاّ يخالف فعلُه قولَه، بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أولَ عاملٍ به، قال تعالى:

﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 44 ]

﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة الصف: 3]

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾

[ سورة هود: 88]

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة البقرة: 282]

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة: 233]

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة المائدة: 108]

 وفي بعض الأقوال: يا بن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحيِ مني:

((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَؤُلاءِ، قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ ))

[أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من علَّم الناسَ علماً فعمِلوا به ولم يعمل هو به :

 هلاك أمتي عالِم فاجر، وعابد جاهل، وشر الشرار شرار العلماء، وخير الخيار خيار العلماء "، أي أنّ العلماء الورعين في القمة، والعلماء غير العاملين بعلمهم في الحضيض، ليس ثمَّةَ حلٌّ وسطٌ، إما في القمة، أو في الحضيض، وقد قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: "شكت النواويس - بعض أنواع الطيور - ما تجد من نتَن جِيَفِ الكفار، فأوحى الله إليها أنّ بطون علماء السوء أَنْتَنُ من هؤلاء، ويُروَى أن حجرًا ضجَّ إلى السماء، وقال: يا رب عبَدتُك خمسين عاماً تضعني في مرحاض؟ فقال له: تأدَّبْ، إِذْ لم أجعلك في مجلس قاضٍ ظالم"، فَلأَنْ يكون الحجرُ في مرحاض أشرفَ له ألف مرة من أن يكون في مجلس قاضٍ ظالمٍ.
 يقول أبو الدرداء رَضِي اللَّه عَنْه: "ويلٌ لِمَنْ لا يعلم مرة، وويلٌ لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات "، لمن لا يعلم مرة، لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات، وقال الشعبي: "يَطَّلع يومَ القيامة قومٌ مِن أهل الجنة على قوم من أهل النار، فيقولون لهم: ما أدخلكم النار ونحن إنما أدخلنا اللهُ الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم إيانا؟- نحن بالجنة والفضل لكم، أنتم علمتمونا، أنتم وجهتمونا، أنتم هذّبتمونا، وأمرتمونا بالصلاة فصلينا، وأمرتمونا بغض البصر فغضضنا بصرنا، نحن الآن في الجنة، لماذا أنتم في النار؟ - فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله، وننهى عن الشر ونفعله"، صار عملهم وظيفة، ولقد بلغني عن بعض المطوّعين أنّهم يضربون الناسَ لتخلُّفهم عن الصلاة وهم لا يصلون، وأبعدُ الناس عن الموعظة مَن يعمل في تجهيز الأموات، فقد يسرق شرشفًا أو أيَّ غرض فيأخذه خلسةً، ألا يعتبِر وهو يدفن في اليوم أكثرَ مِن ميت؟ فأين العبرة و العظة من نفسه؟!.
 وقال حاتم الأصم رحمه الله: " ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علَّم الناسَ علماً فعمِلوا به، ولم يعمل هو به، ففازوا بسببه وهلك هو ".
 وقال مالك بن دينار: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا "، الموعظة من إنسانٍ غيرِ عاملٍ بموعظته لا تؤثر في القلوب.
 وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله:" مررت بحجر بمكة مكتوب عليه: اقلبني تعتبر، قال: فقلبته، فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم؟ ".
 وقال ابن السماك رحمه الله: " كم من مذكِّر بالله ناسٍ لله، وكم مخوفٍ بالله جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد منه، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال لكتاب الله منسلخ عن آيات الله ".
 وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب "، وقال الأوزاعي: " إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع ".

أكثرُ المجالس بركةً المجلسُ الذي فيه خشوعٌ للقلب :

 الآن نتكلم بشيء في قواعد اللغة و إعرابها، "إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع"، يذهب الخشوع كله، أحيانًا تجد الإنسان ينهمك في معلومات ظاهرية، ويدقق بها، ويحفظها، ويعلمها، وليس مِن خشوع في قلب صاحبه، لذلك أكثرُ المجالس بركةً المجلسُ الذي فيه خشوعٌ للقلب، وهذه نصيحة لوجه الله، فإذا كنتَ في مجلس، سهرة مثلاً، وتتكلم عن الله عز وجل فلا تختم الجلسة بالدنيا، فكل هذه البركة تذهب، اجعلْ آخرَ المجلس ذكرًا، ولينفضّ المجلسُ على طعم طيب، وعلى سرور، واستبشار، وتفاؤل.

((مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً))

[أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 وبعد، فجرِّبْ أيَّ موضوع آخر مؤلِم مقنِّط، يدعو إلى اليأس، والقنوط، والألم، والضيق، والحسد، والتنافر، ثم اذكر آية أو حديثًا، أو قولاً فيه عِظة، تجد نفسك قد انتعشت.
 سيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه قيل له في مجلس من مجالسه: واللِه يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلاً بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضلَ منك، وسيدنا عمر تعلمون ما ورد عن رسولِ الله فيه: " لو كان نبياً بعدي لكان عمر "، لكنّ سيدنا عمر تفرَّس في الحاضرين كلهم، واستعرضهم واحدًا واحدًا، ينتظر منهم أيسكتون أم يتكلمون، وفي أثناء استعراضه لوجوههم تكلم أحدهم، وقال: لا واللهِ يا أمير المؤمنين، لقد رأينا من هو خير منك، فقال له ومن هو؟ قال: أبو بكر الصديق، فقال سيدنا عمر للحاضرين: لقد كذبتم جميعاً وصدق هذا، علّمهم قولَ الحق، ثم قال: والله إن لأبي بكر ريحاً أطيب من ريح المسك، وكنت أنا أضل من بعيري، حين كان لأبي بكر ريح أطيب من ريح المسك كنت أنا أضَّل من بعيري، لقد كذبتم كلُّكم وصدق هذا، لو أنهم سكتوا جميعاً لأغلظ لهم القول، فسيَرُ الصحابة- سبحان الله- تنعش القلوب، وتعطِّر المجالس، إنّه نموذج فَذٌّ من الكمال الإنساني، علماء حكماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء.
روى مكحول عن عبد الرحمن أنه قال: حدثني عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: كنا ندرس العلم في مسجد قباء، إذْ خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "تعلَّموا ما شئتم أنْ تعلموا، فلن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم "، تعلّم فالأجر لن يكون حتى تعمل بما علمت.
 وقال عمر رَضِي اللَّه عَنْه: " إذا زل العالم زل بزلته عالم من الخلق "، وقال أيضاً: "ثلاث بهن ينهدم الزمان، إحداهن زلة العالم ".
 وقال ابن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه: " أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذتم قراءته عملاً".

 

من سبّ الدين ولم يتُب ففي الشرع إجراءات تلاحقه :

 وَرَدَنِي سؤالٌ يومَ الجمعة تسأل فيه أختٌ مؤمنة، إذا سَبَّ الإنسانُ الدينَ فما حكمه في الإسلام؟ طبعاً إذا سبَّ الدين ولم يتُب فهذا ارتداد، وحول هذا الموضوع بحث لطيف، في درس آخر سأقرأ لكم بعض ما فيه، كأنْ يرميَ الإنسانُ المصحفَ على الأرض فكأنما سبَّ الدين، وارتدّ عن دينه، ولدينا حوالي ثلاثين إلى أربعين حالاً ولفظًا إذا قالها الإنسان أو فعلها فقد كفر، وسببُ سؤال الأختِ أنها سمعت مني سابقاً أنه إذا سبَّ الإنسانُ الدينَ تطلَّق منه زوجته، وعليه أن يجدِّد إسلامه، وهذا صحيح، إلا إذا كان هذا السب في ساعة غضب، وتاب فوراً، فهذا الحكم عندئذٍ لا يطبق عليه، أما إذا سبَّ الدين، وبقيَ مصرًّاً، فإنّه قطعاً تطلّق منه زوجته، وكأن الإنسان بهذه الشتيمة قد رسب في الامتحان كله، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يجدِّدَ إسلامه، قال بعض العلماء: القاضي يمهل هذا الذي يسب الدين ثلاثة أيام، فإن تاب ورجع إلى الله عز وجل فبها ونعمت، وإلا فهناك سلسلة إجراءات، منها أنه يفقد أملاكه، وتنزع منه، لأنّه أصبح كافرًا مرتدًّاً، إنّ الإنسان قد يغضب، ولكن عليه ألاّ يتجاوزَ الحدود مهما اشتدَّ غضبُه، فهذه مقدسات، والله عز وجل له عقوبات أليمة، كان رجلٌ يصلي، فقال له شخص آخر: لِمَ تصلي فهذه اعتقاداتٌ قديمة نحن الآن في زمن التقدُّم والعلم وإذا كان الله موجوداً فليثبتْ وجودَه؟ وأنا سأمهلك ثلاثة أيام، فهذا الشخص لم يعرف سبيل الإجابة، لكنّ الشخص الذي تحدّى لم يمضِ يوم أو يومان حتّى فَقَدَ بصرَه كلَّه، فالله عز وجل أعطى المهلة للثاني، وكان من الممكن أنْ يموت، لكن اللهَ أعطاه مهلة أوسع، فبكلمة كبيرة قد يفقد الإنسانُ إسلامه كلّه، وإيمانه كله، لذلك جوابًا عن السؤال أقول: إنه من سبّ الدين ولم يتُب، ففي الشرع إجراءات تلاحقه، لكن إذا استرجعَ رأساً وتاب إلى الله عز وجل واغتسل وتشهد مرة ثانية، وكفَّرَ عن هذه الكلمة بصدقة كبيرة، وتاب توبة نصوحًا، فالحكمُ بطلاق زوجته لا ينسحب عليه، والله أعلم.

تحميل النص

إخفاء الصور