وضع داكن
26-04-2024
Logo
العبادات الشعائرية : الغسل - فرائضه، سننه ،ندبه .
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠1الوضوء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

فروض الاغتسال :

 أيها الأخوة الكرام؛ انتهينا من الوضوء وها نحن ننتقل إلى الغسل، ففي الاغتسال يُفرض أحدَ عشرَ شيئاً، أولاً: غسل الفرج والأنف والبدن مرةً واحدة، وداخل المضفور من الشعر، لا المضفور من شعر المرأة لحديث أُمِّ سَلَمَةَ:

(( قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، قَالَ: لا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِينَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ ))

[مسلم عن أم سلمة]

 أما الرجل فيجب أن يصل الماء إلى أصل شعره بخلاف المرأة، وعلى الرجل في الغسل أن يسري الماء إلى بشرة اللحية، وبشرة الشارب والحاجب، هذا مما يفترض من الغسل.

 

سنن الاغتسال :

 ويسن في الاغتسال اثنا عشر شيئاً، الابتداء بالتسمية، والنية، وغسل اليدين إلى الرسغين، وغسل نجاسةٍ إن وجدت، وغسل الفرج، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ويمسح الرأس، ولكنه يؤخر غسل الرجلين إن كان يقف في محل يجتمع فيه الماء، ثم يفيض الماء على بدنه ثلاثاً، ولو انغمس في الماء الجاري أو مكث فقد أكمل السنة، ويبتدئ برأسه في صب الماء، ويغسل بعدها منكبه الأيمن ثم الأيسر، ويدلك جسده.

آداب الاغتسال :

 وآداب الاغتسال هي آداب الوضوء، إلا أن المغتسل لا يستقبل القبلة، لأنه يكون غالباً مكشوف العورة، وكره فيه ما كره بالوضوء، و يفرض الاغتسال من الجنابة، ويسن بأربعة مواضع، لصلاة الجمعة، ولصلاة العيدين، وللإحرام، وللحاج في عرفة بعد الزوال.

مندوبات الاغتسال :

 ويندب الاغتسال في ستة عشر شيئاً، لمن أسلم، ولمن بلغ بالسن، من بلغ سن البلوغ فعليه أن يغتسل، ولمن أفاق من جنون، وعند حجامة، وغسل ميتٍ، وليلة براءة، أي ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، ولدخول مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، وللوقوف بمزدلفة غداة يوم النحر، وعند دخول مكة لطواف الزيارة، ولصلاة استسقاءٍ، هذه الأشياء يندب فيها الغسل وفي أربعة مواضع يسن ويفترض في الجنابة.

* * *

صفات العالم :

1 ـ أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات :

 وننتقل إلى فصل من كتاب إحياء علوم الدين، ولازلنا في باب العلم:
 الصفة الثالثة للعالم أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات، مجتنباً العلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدل والقيل والقال.

(( كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ))

[البخاري عَنْ الشَّعْبِيِّ]

 روي أن رجلاً جاء النبي عليه الصلاة والسلام: فقال يا رسول الله علمني من غرائب العلم - الأشياء اللطيفة التي إذا حدثتُ بها الناس تأثروا ونلت إعجابهم بهذا المعنى - فقال عليه الصلاة والسلام: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال هذا الرجل: وما رأس العلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل عرفت الرب تعالى؟ قال: نعم، قال: فماذا صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله، فقال عليه الصلاة والسلام: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: فماذا أعددت له - إذًا فقبْل هذه الأشياء التي تريدها لتنتزع إعجاب الناس أنْ يعرف المسلم الرب، وأنْ يعرف ماذا صنع في حقه- أعود لأكرِّر: فقال عليه الصلاة والسلام: هل عرفت الرب تعالى؟ قال: نعم، قال: فماذا صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله، فقال عليه الصلاة والسلام وقد علم أن كلمة ما شاء الله تعني أنه لم يحصل هذه المعرفة: اذهب فأَحكم ما هناك، ثم تعال لتتعلم من غرائب العلم.
 هناك أشياء أساسية في حياتنا، وأشياء ثانوية، هناك مهم وهناك أهم، وردت قصة في الإحياء لكنها جاءت مختصرة وسأرويها لكم بشكلها المختصر.

ثماني فوائد في العلم :

1 ـ الأعمال الصالحة أفضل محبوبٍ للمرءِ تدخل معه إلى قبره وتؤنسه فيه :

 حاتم الأصم كان من أصحاب شقيق البلخي، وهو عارف بالله، رحمة الله عليه فسأله يوماً: يا حاتم لقد صاحبتني ثلاثين سنة فما حصلت فيها؟ وهذه لها معنى، يقول أحدهم: أنا مستمر على حضور الدروس سبع سنوات، أو خمس سنوات، أو أربع سنوات، أو سنة، أو ستة أشهر، فماذا حصلت في هذه الفترة؟ هذا سؤال مهم، فقال: حصلت ثماني فوائد من العلم، وهي تكفيني لأني أرجو بها خلاصي، فقال شقيق: وما هي؟ فقال: أما الأولى فإني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبًا يحبه، فهذا غارق في التجارة، وهذا في الملذات المحرمة، وهذا بالنساء، وهذا بجمع الدرهم والدينار، وهذا غارق ببعض المتع، وهذا غارق بجمع اللوحات النادرة، وهذا يحب السياحة- بالمناسبة لي قريب أحبَّ في آخر حياته أن يحوز جميعَ أنواع السجاد النادر، فجمع ما لا يحتاج إليه ولا إلى عُشره، ولي قريب آخر أحب في آخر حياته القطع من الصيني أيضاً، فجمع منها ما يزيد عن مئات الألوف- فهذا شقيق البلخي يقول: إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوباً يحبه ويعتقده، وبعض أولئك المحبوبين يصاحبه إلى الموت- أي إذا أحب الرجل أن يقتني سيارة فخمة، وأصابه مرض عضال وأصبح على مرض الموت فهذه السيارة انتهى بقاؤها، فإما أن تباع أو أنْ يأخذها أحد الورثة- فرأيت لكل منهم محبوباً يحبه ويعتقده، وبعض أولئك المحبوبين يصاحبه إلى الموت، والبعض الآخر إلى شفير القبر، ثم يتركه المودِّعون وحيداً، ولا يسكن معه في قبره منهم أحدٌ.
 الأهل من النساء يودعونه في البيت ويخرجون إلى الشُرف أحياناً، أمّا الأولاد الذكور فإلى شفير القبر.
 فتفكرت وقلت: أفضل محبوبٍ للمرءِ ما يدخل معه إلى قبره ويؤنسه فيه، فما وجدته في غير الأعمال الصالحة، فاتخذتها محبوباً لي، لتكون سراجاً في قبري تؤنسني فيه ولا تتركني فريداً، قال تعالى:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾

[ سورة الفجر: 24 ]

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون: 99-100]

 قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لماذا يرجع؟ ليعمر بناء، أو يأخذ شهادة دراسية.

2 ـ القرآن حق ثابت و على الإنسان أن يقود نفسه حتى ترضى بطاعة الله :

 فقال له: هات الثانية؟ فقال: إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم، ويبادرون إلى مراد أنفسهم فتأملت في قوله تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[سورة النازعات: 40-41 ]

 وبعد؛ فالأشخاص العاديون في زماننا هذا إذا دعي أحدُهم إلى سهرة مختلطة يقول لك: نذهب ونتسلى، وليس عندنا شيء يشغلنا، وإذا دعي إلى رحلة فيها اختلاط، وفيها أشياء يحرمها الله، يقول لك: هذه مناسبة لأرى البلاد الأخرى، وفرصة لا تعوض للاستجمام، أو يقول: هذه الرحلة فيها شواطئ جميلة، هل من المعقول أن أتركها؟ من الذي يقوده؟ هوى نفسه.
 إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم، ويبادرون إلى مراد أنفسهم، فتأملت في قوله تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[سورة النازعات: 40-41 ]

 فتيقنت أن القرآن حق ثابت، فبادرت إلى قياد نفسي، وتشمرت في مجاهدتها، وما متعتها بهواها، هل يستطيع المؤمن الصادق أن يرتاح بالنوم إلى أقصى الحدود؟ لا، لن يستطيع، فاسمع قوله تعالى:

﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

[سورة السجدة: 16 ]

 لا يستطيع عنده صلاة الفجر، ولا سيما في أيام الشتاء، وهل يستطيع أن يرتاد مجلسًا ويتكلم في الغيبة عن الناس؟ لا يستطيع، وإذا كان جالساً على شرفة أو في الطريق فهل يستطيع إذا مرت امرأة أن يمتع نظره فيها؟ لا يستطيع.
فتيقنت أن القرآن حق ثابت، فبادرت إلى قياد نفسي، وتشمرت في مجاهدتها، وما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه وتعالى وانقادت، فهذه هي الفائدة.

3 ـ الإكثار من الأعمال الصالحة :

 فقال له: هات الثالثة؟ قال: يا سيدي إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا، ثملاً ينفقه، قابضاً بيديه عليه، فتأملت قوله تعالى:

﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة النحل: 96 ]

 فلذتُ بالإيثار، واستودعتُ عند الله إعانة البائس وإسعاف الفقير، لعلي أحشر في ظل صدقتي يوم يقوم الناس لرب العالمين، ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، نحتاج إلى عمل صالح.

4 ـ الابتعاد عن الملهيات والأباطيل :

 قال له: هات الفائدة الرابعة؟ قال: فإني رأيت بعض الخلق أنّ ظن عزه في كثرة الأقوام والعشائر، فاعتز بهم، وزعم آخرون أنه في حيازة الأموال وكثرة الأولاد، وحسب بعضهم العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم، واعتقدت فئة أنه في إتلاف المال وصرفه وتبذيره.
 وأنتَ ترى أناساً إما أن يتحدث عن إتلافه المالَ، أو يتحدث عن عشيرته، أو عن أولاده، أو عن ثروته، أو عن شخصيته، أو عن ماله، فهذا الذي يقول: "أنا" فإنه لا يعرف الله عز وجل، قالها الشيطان فأهلكه الله عز وجل، فتأملت قوله تعالى:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾

[ سورة آل عمران: 185 ]

 فأقبلت على ربي، ونفضت يدي من هذه الملهيات والأباطيل، فكلها فارغة.

 

5 ـ القسمة من الله تعالى فلا تحسد أحداً و ارض بقسمة الله :

 ثم قال له: هاتِ الفائدة الخامسة؟ قال: رأيت الناس يذمّ بعضهم بعضاً، ويغتاب بعضهم بعضاً، فوجدت ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم، اسأل طبيباً عن طبيب آخر فيذمُّه، لماذا؟ واسأل محامياً عن زميله، فيقول لك: هذا المحامي لا يفهم شيئاً، اسأل تاجراً فيقول لك: هذه البضاعة مضمونة، وغيره يقول: في السوق بضاعة مقلدة، وتكون التي عنده تقليد، كل إنسان يذم غيرَه بدافع الحسد في المال والجاه والعلم، فتأملت قوله تعالى:

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

[ سورة الزخرف : 32]

 فعلمت أن القسمة من الله تعالى، فما حسدت أحداً، ورضيت بقسمة الله عز وجل.

6 ـ لا يجوز معاداة غير الشيطان :

 أما الفائدة السادسة: فإني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضاً فتأملت قول الله تعالى:

﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ سورة فاطر: 6]

 فعلمت أنه لا يجوز معاداة غير الشيطان.

7 ـ الرزق على الله تعالى وقد ضمنه لعبده :

 والفائدة السابعة: إني رأيت كل واحد يسعى بجهده، ويشتغل في طلب القوت والمعاش، حيث يقع في شبهة أو حرام، فتأملت قوله تعالى:

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة هود: 56 ]

 فعلمت أن رزقي على الله تعالى وقد ضمنه، فاشتغلت بعبادته، وقطعت طمعي عمن سواه، وترفعت عن الشبهات والدنايا.

8 ـ التوكل على الله :

 وأما الفائدة الثامنة والأخيرة: رأيت كل واحد من الخلق يعتمد على مخلوق، بعضهم على الدينار والدرهم، وبعضهم على المال، وبعضهم على الحرفة والصناعة، وبعضهم على مخلوق مثله، من الأمراء وأصحاب الحول والطول، فـتأملت قوله تعالى:

﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾

[ سورة الطلاق: 3 ]

 فتوكلت على الله فهو حسبي ونعم الوكيل، فما زاد شيخُه على أن قال له: وفقك الله يا ولدي.
 إذاً عندما يرافق الإنسانُ العلماءَ، ويحضر مجالس العلم، فعليه من حين لآخر أنْ يسأل نفسه ماذا حصّلت؟ هل تقدمت؟ هل ازداد عملك الصالح؟ ماذا قدمت للآخرة؟ لو جاء الموت فجأةً هل أعددت له عدته؟ أم ماذا تفعل؟.
هذا من توفيقات الله لهم.

التزين بالمباح ليس حراماً ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به :

 هناك ملاحظة للإمام الغزالي يقول: التزيُّن بالمباح ليس حراماً، فإذا سكَن إنسان بيتاً فخماً وفرشه بفرش ضخم، وأكل ما لذّ وطاب فما حُكمه وما شأنه؟.
 التزين بالمباح ليس حراماً، ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به، فإذا بالغ الإنسان في المباح استأنس إلى الطعام، والشراب، والدنيا، والمباهج، فإذا استأنس بها شقّ عليه تركها، واستدامة الزينة لا تكون إلا بمباشرة أسباب ينشغل بمراعاتها، فينفق الإنسان من أصحاب اليسار في السَّنة الكثيرَ، وتراه يقول لك: أنا مصروفي في السنة ثلاثمئة ألف، لو فرضنا لأسباب ما ضاقت بعض المكاسب، فماذا تفعل بنفسك؟ عوّدتَ الأهل على هذا المصروف العالي، تجد نفسك مضطراً فتقع في الشبهات، مضطرًا لتكسب المال الحرام، فلما يغوص الإنسانُ في الدنيا ويخوض فيها وفي المباح منها فقط يجد نفسه لأسباب قاهرة قد ضاقت المكاسب، وليس عنده حل، فيبدأ يتساهل بنوع الكسب، وعندما يعِّود نفسه على الترف فهذا يغامر بدينه، ويخشى عليه التردِّي.
 والحزم في اجتناب ذلك، لأن من خاض في الدنيا لم يسلم منها، ولو كانت السلامة مبذولةً مع الخوض فيها لما ترك النبي عليه الصلاة والسلام الدنيا، لكنه تركها حفاظاً على دينه.

2 ـ من صفات المتعلم أيضاً ألاّ يكون مسارعاً إلى الفتوى بل يكون متوقفاً ومحترزاً :

 وعندنا صفة أخرى من صفات العلماء؛ ألاّ يكون مسارعاً إلى الفتوى، بل يكون متوقفاً ومحترزاً، فإذا قال عمّا يعلمه تحقيقاً في كتاب الله، أو في حديث رسول الله، أو إجماعاً، أو قياساً فلا حرج، وإن سئل عما يشك فيه قال: لا أدري، احفظوا هذه القاعدة نصف العلم لا أدري، وإن سأل عن اجتهاد احتاط ودفع عن نفسه وأحال إلى غيره فهذا هو الحزم، وفي الخبر: العلم ثلاثة؛ كتاب الله، وسنة قائمة، والشيء الثالث لا أدري.
 وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم، ومن سكت حيث لا يدري احتسابًا لله تعالى فليس بأقل أجراً ممن نطق صوابًا، لأن الاعتراف بالجهل أشد على الناس، هكذا كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله تعالى.
 كان ابن عمر إذا سئل عن فتيا قال: "اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلَّد أمور الناس، وضَعْهَا في عنقه "، اسأله فهو المسؤول، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "إن الذي يفتي الناس بكل ما يستفتونه مجنون " وقال: "جملة العالم لا أدري، فإن أخطأها فقد هلك "، وقال إبراهيم بن الأدهم:" ليس شيء أشد على الشيطان من عالم يتكلم بعلم ويسكت بعلم، يقول: انظروا إلى هذا أشد عليّ من كلامي ".
 وُصف بعضهم بأنّ أكلهم فاقة، ونومهم غلبة، وكلامهم ضرورة، لا يأكلون إلا إذا جاعوا، ولا ينامون إلا إذا ضربهم النوم، بينما تجد أنّ بعضهم عند الظهر ينام ساعتين، ويستيقظ عقب العصر بكثير، ما هذا؟ من قضى عمره نائمًا يرى نفسه يوم القيامة مفلساً.
 ومر عليٌّ وعبد الله رضي الله عنهما برجل يتكلم على ملأٍ من الناس، فقال: "هذا الذي يتكلم يريد أن يشد الناس إليه، وفي نفسه شهوة خفية "، وقال بعضهم: "إنما العالم الذي إذا سئل عن مسألة فكأنما يصعق "..
 وكان ابن عمر يقول: "أتريدون أن تجعلوني جسراً تعبرون عليه إلى جهنم؟؟"، هذا الذي يفتي من دون علم جعل من نفسه جسراً يعبره الناس إلى جهنم، وقال: "العالِم هو الذي يخاف عند السؤال يوم القيامة أنْ يقال له: مِن أين أفتيت؟ "، لكنّ عالم السوء يقال له: أنت أفتيت في الموضوع الفلاني أن النسب القليلة من الربا تجوز فمِن أين جئت بهذا الكلام؟.

من سكت حيث لا يدري احتسابًا لله تعالى ليس بأقل أجراً ممن نطق صوابًا :

 وكان إبراهيم إذا سئل عن مسألة يبكي ويقول: "ألا تجدون أحدًا غيري حتى جئتم إلي؟":

(( مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ هُوَ أَمْ لا وَمَا أَدْرِي أَعُزَيْرٌ نَبِيٌّ هُوَ أَمْ لا ))

[أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 النبي الكريم علمنا بهذا الكلام إذا واجهتكَ أشياء فَقِفْ عندها، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن خير بقاع الأرض وشرها، قال: لا أدري، حتى جاء جبريل عليه السلام فسأله فقال: خير بقاع الأرض المساجد وشرها الأسواق.
 وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة، يروون بعض القصص ما أنزل الله بها من سلطان منها أنّ رجلاً متصوفًا له شأن كبير، فبينما هو في الحمام أعطوه مسألة، فغمسها بالجرن وأعطاهم الجواب، فهذه قصص غير مقبولة، وكان مِن الفقهاء مَن يقول: لا أدري أكثر مما يقول أدري.

((قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الأنْصَارِ وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ وَلا يُسْأَلُ عَنْ فُتْيَا إِلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا ))

[الدارمي عن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ]

 وفي حديث آخر، كانت المسألة تُعرَض على أحدهم فيردها إلى الآخر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتدافعون عن أربعة أشياء؛ الإمامة، - وهي الآن موضِعُ تزاحُمٍ - والوصية، والوديعة، والفدية.
 وقال بعضهم: "أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علماً، وأشدهم دفعاً لها أورعهم "، وكان شغل الصحابة الكرام والتابعين بخمسة أشياء؛ بقراءة القرآن، وعمارة المساجد، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 طبعاً لما سمعوا كلام النبي الكريم: "كل كلام ابن آدم عليه وزرُه إلا ثلاث؛ أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر لله تعالى".
 وقال ابن حصين: "إن أحدهم يفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بلدةٍ جميعاً ".

((عَنْ أَبِي خَلادٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ))

[ابن ماجه عَنْ أَبِي خَلادٍ]

 وقال أبو سليمان:" المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام، وإذا كثر العلم قل الكلام، وإذا كثر الكلام قل العلم"، وهذا آخر قول: إنّ ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سئل يقول: "اسألوا حارث بن زيد"، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "اسألوا سعيد بن المسيب"، وذكر أن صحابياً روى في حضرة الحسن عشرين حديثاً، فسئِل عن تفسيرها فقال: ما عندي إلا ما رويت، فأخذ الحسن في تفسيرها حديثاً حديثاً، فتعجبوا من حسن تفسيره فأخذ الصحابي حفنة من حصى ورماهم به، وقال: "تسألوني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم ".
 انظروا إلى التواضع، إذا عزّ أخوك فهن، هكذا كان السلف الصالح، وهكذا كان التابعون.

((ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط))

[الجامع الصغير عن أنس]

 من لم يكن له ورع يَصُدُّهُ عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله.

 

* * *

قصة من قصص الصحابة الكرام :

 وبعد فهذه قصة من قصص الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين:
 ما أدري عن هذه القصة إنْ كنت قرأتها من قبل أم لم أقرأها، والذي ترك أثراً في نفسي أني لمّا قرأتها وكنتُ أظن أني ما قرأتها من قبل، لكنني قرأتها، وكأني أقرأها أول مرة، هناك استنباطات كثيرة قد نقف عندها.
 قال مؤلف هذا الكتاب: قلَّما اتصلت الأسباب بين شخصين وتوثقت العرى بين اثنين كما اتصلت وتوثقت بين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وبين أبي سفيان بن الحارث، فقد كان أبو سفيان ترباً من أترابه، فقد وجدا في زمن متقارب، ونشأ في أسرة واحدة، وكان ابن عم النبي اللزم، اللصيق، فأبوه الحارث وعبد الله والد النبي الكريم أخوان، ينحدران من صلب عبد المطلب، ثم إنه كان أخاً للنبي من الرضاع، فقد غذتهم السيدة حليمة السعدية من ثدييها معاً، وكان بعد ذلك كله صديقاً حميماً للرسول صلوات الله عليه قبل النبوة وأشد الناس شبهاً به.
 فهل رأيت أو سمعت قرابة أقرب أو أواصر أمتن من هذا الذي كان بين محمد بن عبد الله وأبي سفيان بن الحارث؟ لذا كان من المفروض أن يكون أبو سفيان هذا أصدقَ الناس إلى تلبية دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأسرعهم مباشرةً إلى اتباعه، لكن الأمر جاء على خلاف كل ما يتوقع، إذْ ما إنْ بدأ النبي عليه الصلاة والسلام ينذر عشيرته حتى شبت نار الضغينة في قلبِ أبي سفيان على النبي عليه الصلاة والسلام، فاستحالت الصداقة إلى عداوة، والرحم إلى قطيعة، والأخوة إلى صدّ و ردّ، كل هذه الأسباب قامت في نفس أبي سفيان، ولكن: إنّك لا تهدي من أحببت، لقد كان أبو سفيان لما صدع النبي بأمر ربه فارساً من أنبل فرسان قريش، وشاعراً مقدَّمًا بين الشعراء، فوضع كنانته ولسانه لمحاربة النبي عليه الصلاة والسلام، ومعاداة دعوته، وجنّد قوته كلها ضد الإسلام والمسلمين، فما خاضت قريش حرباً ضد النبي إلا كان مسعِّرها، وما وقع بالمسلمين أذىً إلا كان له فيه يد، ولقد أيقظ أبو سفيان شيطانَ شعره، و أطلق لسانه في هجاء النبي صلوات الله عليه، فقال فيه كلاماً مقذعاً فاحشاً، وطالت عداوة أبي سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاماً، لم يترك خلالها ضربًا من ضروب الكيد للنبي إلا فعلها، ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إلا عمله، وقبيل فتح مكة بقليل كُتِبَ لأبي سفيان أن يسلم، وكان لإسلامه قصة مثيرة وَعَتْهَا كتبُ السير، وتناقلتها كتبُ التاريخ، ولنَدَعْ للرجل نفسه الحديث عن قصة إسلامه، فوصفُه لها أدق.

قصة إسلام أبي سفيان :

 قال: لما استقام أمر الإسلام، وقرّ قراره، وشاعت أخبار توجُّهِ النبيّ إلى مكة ليفتحها، ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، وقلت إلى أين أذهب؟ ومن أصحب، ومع من أكون؟
 عكرمة بن أبي جهل قبيل فتح مكة فرَّ، وعندما وصل إلى شاطئ البحر رأى صاحب سفينة، قال: أركب معك إلى الشاطئ الآخر، قال له: هل أنت مسلم؟ قال: وما مسلم؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله فقال له: إذًا لِمَ هربت؟.
وقلت: إلى أين أذهب؟ ومن أصحب؟ ومع من أكون؟ ثم جئت زوجتي وأولادي وقلت: تهيؤوا للخروج من مكة، فقد أوشك وصول محمد وإني لمقصود، ليس هو مشركًا عاديًا، ولكن له باع طويل في الأذى، وقال في نفسه: وإني لمقتول لا محالة إن أدركني المسلمون، ثم قال: أما آنَ لك أن تدرك أن العرب والعجم قد دانت لمحمد بالطاعة، واعتنقت دينه، وأنت ما تزال مصِرًّاً على عداوته، وكنت أولى الناس بتصديقه ونصره، ومازال أهلي يرغبونني بدين محمد حتى شرح الله صدري للإسلام.
 قمت من توي وقلت لغلامي هيئ لي نوقاً وفرساً، طبعاً ولكن النبي الكريم في الطريق، وأخذت معي ابني جعفرًا، وجعلنا نسير نحو منطقة بين مكة والمدينة، وقد بلغني أن محمداً نزل فيها، ولما اقتربت منها تنكرت حتى لا يعرفني أحد فأقتل قبل أن أصل إلى النبي، وأعلن إسلامي بين يديه، وبقيت أمشي على قدمي، وطلائع المسلمين تمضي ميمنة شطر مكة جماعة تلو جماعة، فكنت أتنحى عن طريقهم خوفاً من أن يعرفني أحد من أصحاب النبي، وفيما أنا كذلك إذْ طلع النبي في موكبه فتصديت له ووقفت تلقاءه، وما إن ملأ عينيه مني، وعرفني حتى أعرض عني إلى الناحية الأخرى، فتنحيت إلى ناحية وجهه، فأعرض عني وحوَّل وجهه، فتحولت إلى ناحية وجهه حتى فعل ذلك مراراً، كنت لا أشك و أنا مقبل على النبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفرح بإسلامي، وأن أصحابه سيفرحون لفرحه، لكن المسلمين حينما رأوا إعراض رسول الله عني أعرضوا عني جميعاً، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض، فنظرت إلى عمر بن الخطاب نظراً أستلين به قلبه، فوجدته أشد إعراضاً من صاحبيه، بل إنه أغرى بي أحد الأنصار، وقال لي الأنصاري: يا عدو الله، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتؤذي أصحابه، وقد بلغت في عداوة النبي مشارق الأرض و مغاربها، ومازال الأنصاري يستطيل عليّ ويرفع صوته، والمسلمون يقتحمونني بعيونهم، ويُسَرّون مما ألاقي، عند ذلك أبصرت عمي العباس، فلذت به، وقلت: يا عم؛ قد ظننت أن يفرح رسول الله بإسلامي، فإذا آمن رجل بعد فترة طويلة فهو ملوم، وأحلى شيء في مسألة الإيمان أنْ يأتي في الوقت المناسب، وأنت شاب، وأنت قوي، وأنت صحيح، وأنت غني، وليس بعد أن شاب شعرك، وانحنى ظهرك، وانزوت عنك الدنيا، وصرتَ قعيدَ البيت عندئذٍ أخذتَ تصلي.
 فقلت: يا عم قد كنتُ أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي، لقرابتي منه، وشرفي من قومي، وقد جرى بي ما تعلم، فكلِّمه في أمري، فقال: لا والله لا أكلمه أبداً بعدما رأيت من إعراضه عنك، فإن سمحت فرصة فإني أرجو رسول الله، أمّا الآن فلا يجرؤ أحد أن يكلمه، فقلت: يا عم إلى من تكلني إذاً؟ فقال: ليس عندي غير ما سمعت، فتملكني الهم، وركبني الحزن، ولم ألبث أن رأيت ابن عمي علي بن أبي طالب، فحدثته بأمري، فما لبث أن قال لي كما قال عمي العباس، عند ذلك رجعت إلى عمي العباس وقلت: يا عم، إذا كنت لا تستطيع أن تُعَطِّف عليَّ قلب النبي الكريم فكُفَّ عني ذلك الرجل الذي يشتمني، ويغوي الناس بشتمي، فقال: صِفْهُ لي، فوصفتُه له، فقال: ذلك نعيمان بن الحارث النجاري، فأرسل إليه وقال له: يا نعيمان إن أبا سفيان ابن عم رسول الله، وابن أخي، فإن يكن رسول الله ساخطًا عليه اليوم، فسيرضى عنه يوماً، فَكُفَّ عنه، وما زال به حتى رضي أن يكف عني و قال: لا أعرض له بعد الآن، أغلق الجبهة عليه، ولما نزل النبي عليه الصلاة و السلام بالجحفة جلست على باب منزله، ومعي ابني جعفر قائماً، فلما رآني وهو خارج من منزله أشاح عني بوجهه، فلم أيأس من استرضائه، وجعلت كلما نزل في منزل أجلس على بابه، وأبقي ابني جعفراً واقفاً بإزائي، فكان إذا أبصرني أعرض عني، وبقيت على ذلك زماناً، فلما اشتد علي الأمر وضاقت نفسي، قلت لزوجتي: والله ليرضين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهبن هائمين على وجهَيْنا في الأرض حتى نموت جوعاً وعطشاً.
 فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ له، ولما خرج من بيته نظر إليَّ نظراً ألين من النظرة الأولى، ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فدخلتُ في ركابه، وخرج إلى المسجد فخرجت أسعى بين يديه لا أفارقه على حال، وتمَّ إسلام أبي سفيان بن الحارث أخي النبي في الرضاع وابن عمه.

إرضاء أبي سفيان للنبي الكريم :

 هذه واقعة أخرى؛ فقدْ وقف أبو سفيان بن حربٍ على باب عمر ساعات، فلم يسمح له بالدخول، وصهيب وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان، فلما دخل عاتبه، وقال: أبو سفيان زعيم قريش يقف في بابك ساعات طويلة وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان؟؟ فقال له: هؤلاء اتبعوا النبي في ساعة العسرة وأنت أين كنت؟.
 ولما كان يوم الخندق، وجمعت العرب لحرب النبي عليه الصلاة والسلام، وأعدت للقائه ما لم تعد من قبل، وقررت أن تجعلها القاضية على الإسلام والمسلمين، وخرج النبي صلوات الله عليه للقاء الجموع مع أصحابه، ففي أيِّ صف كنت؟ ويوم حنين ماذا كان لك من دور؟ قد قال تعالى:

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

[ سورة التوبة:25 ]

 إنّ الصحابة الذين خاضوا بدراً وأحداً والخندق، باعوا أنفسهم، ويوم حنين ظنوا أنفسهم أقوياء فخذلهم الله عز وجل، أمّا أبو سفيان بن الحارث فقال: فخرجت مع النبي، ولما رأيت جموع المسلمين الكبيرة قلت: والله لأكفِّرنَّ اليوم عن كل ما سلف مني من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليرين مني من أمري ما يرضي الله ويرضيه، الآن جاء الوقت المناسب.
 ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين على المسلمين، فدب فيهم الوهن والفشل، وصار الناس يتفرقون عن النبي، وكادت تحل بنا الهزيمة المنكرة، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام فداه أبي وأمي يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء كأنه الطود الراسخ ويجرد سيفه، ويدافع عن نفسه وعمّن حوله كأنه الليث عادياً:

((عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ ابْنِ عَازِبٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَفِرَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ))

[متفق عليه عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ]

 عند ذلك وثبت عن فرسي، وكسرت غمد سيفي، واللهُ يعلم أني أريد الموت، وأخذ عمي العباس بلجام بغلة النبي، ووقف بجانبه، وأخذت أنا مكانه من الجانب الآخر، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما شمالي فكانت منصفةً...، وإلى الآن لم يتبسم له النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى حسن بلائي قال لعمي: من هذا؟ قال: هذا أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث، فارضَ عنه يا رسول الله، فقال: قد فعلت، وغفر الله له كل عداوة عادانا إياها.
 فاستطال فؤادي فرحاً لإرضاء رسول الله صلى الله عني..ثم التفت إلي وقال: أخي تقدم... ألهبت كلمات النبي حماستي فحملت على المشركين حملةً أزالتهم عن مواضعهم، وحمل معي المسلمون حتى فرَّقناهم إلى كل مكان، وظل أبو سفيان بن الحارث منذ حنين ينعم بجميل رضى النبي عنه، ويسعد بكريم صحبته، ولكنه لم يرفع نظره إليه أبداً، ولم ينظر إلى وجهه حياءً منه وخجلاً من ماضيه معه.

الابتعاد عن معاداة الله و رسوله و اغتنام كل لحظة في الطاعة :

 بعدما أسلم لم ينظر إليه خجلاً، عشرون سنة وهو يعادي النبي، فأحياناً يقصر الإنسانُ ويؤذي الناس، ويحمّل نفسه ما لا يطيق، إذا جاءت الصحوة أعانه الله، والقضية ليست سهلة؛ أن تعادي الله ورسوله، فلا تصلي، وتستهين بالدين، وتؤذي الناس وتغشهم، ماذا يفعل هذا بنفسه؟ يحمِّلها ما لا تطيق.
 وجعل أبو سفيان يعض بنان الندم على الأيام السود التي أمضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله، محروماً من كتابه، فأكبَّ على القرآن ليله ونهاره يتلو آياته، ويتفقه في أحكامه، ويتملى من عظاته، وأعرض عن الدنيا وزهرتها، وأقبل على الله بكل جارحةٍ من جوارحه حتى إن النبي صلوات الله عليه رآه ذات مرةٍ يدخل المسجد فقال لعائشة أتدرين من هذا يا عائشة؟ قالت: لا، قال: ابن عمي - أبو سفيان- إنه أول من يدخل المسجد، وآخر من يخرج منه.
 ولما لحق النبي صلوات الله عليه بالرفيق الأعلى حزن عليه أبو سفيان بن الحارث حزنَ الأمِّ على وحيدها، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه، ورثاه بقصيدة من غرِّ المراثي تفيض حزنًا ولوعة، وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أحسّ أبو سفيان بدنو أجله، فحفر لنفسه قبراً بيديه، ولم يمض على ذلك ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة، كأنه مع الموت على ميعاد، فالتفت إلى زوجته وأولاده وأهله وقال: لا تبكوا علي فو الله ما تعلقت بخطيئةٍ منذ أسلمت.
 إذا تاب الرجلُ إلى الله توبةً نصوحًا، وعاهد الله ألاّ يؤذي أحدًا أبداً، ولا يعصي أبداً، فإذا جاء ملك الموت يقول: مرحباً به وبالموت.
 والله ما تعلقت بخطيئةٍ منذ أسلمت، ثم فاضت روحه الطاهرة، فصلى عليه الفاروق رضوان الله عليه، وحزن لفقده هو والصحابة الكرام، وعدوا موته مصابًا جللاً حلَّ بالإسلام والمسلمين.
 فاغتنم أخي المسلم خمساً قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، ولا يعرف الإنسان بعد ذلك متى يصيبه آلام، وأوجاع، أيستطيع أن يتصدق أم لا، اكسب الوقت، قم الليل إن كنتَ تستطيع أن تقوم للصلاة، اقرأ القرآن وأنت في شباب، واستغل هذا الشباب، واستبق الخيرات، وإذا درَّتْ نياقُك فاحتلبْها، وإذا هبَّبتْ رياحُك فاغتنمها، فإنَّ الريح عادتها السكون.

تحميل النص

إخفاء الصور