وضع داكن
18-04-2024
Logo
الصلاة - الدرس : 15 - صلاة النفل
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠3الصلاة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

صلاة النفل :

 أيها الأخوة المؤمنون، وصلنا في موضوع الصلاة إلى جواز صلاة النفل جالساً، يجوز النفل، وكلمة النفل يعني مطلق السنن المؤكدة وغير المؤكدة، يجوز النفل قاعداً مع القدرة على القيام، والفرض لا يجوز، لكن هذا الذي يصلي قاعداً وهو يقدر على أن يصلي واقفاً فنصف الأجر إلا إذا كان معذوراً، فإذا كان معذوراً فله الأجر كله، فيجوز التنفل قاعداً مع القدرة على القيام، وقد أجمع العلماء أن هناك استثناء واحد وهي سنة الفجر لأنها أشد السنن توكيداً، ومع أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بعض السنن قاعداً إلا أن العلماء يؤكدون على أن صلاة الفجر يجب أن تكون واقفاً، والتراويح فيها خلاف، وطبعاً المعذور لا يوجد فيها خلاف، والمريض، من يشكو ألماً، في أقدامه عروق، وآلام في عظامه، فهذا إنسان آخر لكن الحديث عن إنسان لا يشكو شيئاً وأراد أن يصلي بعض السنن قاعداً نقول له: لا، والتراويح قضية خلافية بعضهم أجازها وبعضهم لم يجزها، ولكن الأصح جوازها قاعداً من غير عذر.

نية المؤمن خير من عمله :

 النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعض الوتر قاعداً، وكان يجلس في عامة صلاته في الليل تخفيفاً، أي إذا الوقوف سوف يعيقه عن الإقبال على الله عز وجل بدل أن ينام يصلي قاعداً، والإنسان أحياناً يكون سنه متقدماً من فوق الخمسين لا يستطيع أن يقف كثيراً نخيره إما ألا تصلي واقفاً وإما أن تصلي و أنت قاعد، فعليه أن يصلي قاعداً ولكن الأجر أقل.
 و للمصلي وهو قاعد كما قلت قبل قليل نصف أجر القائم لقوله صلى الله عليه وسلم:

((عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاةِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ ))

[الترمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ]

 إلا أنهم قالوا هذا في حق القادر أما العاجز من عذر فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أجره يفوق الذي يصلي قائماً لأن هذا اسمه جهد المُقِل، أي رغم مرضه، ورغم ضعفه، ورغم آلامه قام وصلى قاعداً، أما العاجز من عذر فصلاته بالإيماء كإنسان مجبصن، وأجري له عملية جراحية، فيصلي بعيونه، فصلاته بالإيماء أفضل من صلاة القائم الراكع الساجد لأنه جهد المقل، والإجماع منعقدٌ على أن صلاة القاعد بعذر مساويةٌ لصلاة القائم في الأجر، الأجر نفسه. بل قال بعضهم: بل هو أرقى منه لأنه أيضاً جهد المقل، ونية المؤمن خير من عمله.

ما كل ما يتمناه المرء يدركه :

 مرة قرأت كلمة تركت في نفسي أثراً بليغاً، طبعاً هذا الحديث له تتمة، فالإنسان يتمنى أن يكون له كجبل قاسيون ذهباً، ذهب ليحل مشاكل الناس كلها، هذا تنحل قضيته بثلاثين ألفاً، وهذا يحتاج إلى بيت بأربعين ألفاً، و هذا يريد أن يتزوج، المؤمن يتمنى أن يكون عنده حجم جبل قاسيون ذهباً حتى يحل مشكلات الناس، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، النبي عليه الصلاة والسلام تمنى ذلك و قال:

((مَا يَسُرُّنِي أنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَباً تَمْضي عَلَيَّ ثَلاَثَةُ أيّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ ، إلا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ))

[ البخاري عن أبي ذر]

 نية المؤمن خير من عمله، وأحياناً يقدم المؤمن صدقة مئة ليرة فيتمنى من أعماقه أن يدفعها ألفاً ولكن هذه إمكانيته، عنده زوجة وأولاد، وأحياناً يقدم إلى المسجد خمس ليرات ويتمنى أن يدفعها مئة ليرة هذه إمكانيته، يقع هذا المبلغ بيد الله قبل أن يقع في يد الفقير و الله عز وجل يتقبله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "رب درهم سبق ألف درهم".
 ودرهم أنفق في إخلاص خير من مئة ألف درهم أنفق في رياء.

فاعل الخير خير من الخير وفاعل الشر شر من الشر :

 قرأت مرة كلمة مشابهة لهذا الحديث: فاعل الخير خير من الخير، وفاعل الشر شر من الشر، والإنسان مهما فعل من شر، وكان الشر مستطيراً، فبالنهاية محدود، لكن عذاب فاعل الشر غير محدود، وهذا الذي ألقى على هيروشيما وقتل ثلاثمئة ألف في ثوان وفقد عقله، طبعاً المنفذ له نصيب، والذي أعطى أمراً نصيبه أوفى، و على كلٍّ فهذا العمل محدود بثلاثمئة ألف لكن عذاب هذا الذي قتل هؤلاء بلا سبب قد يكون غير محدود، و الشر مهما كان كبيراً بالنهاية هو صغير، وفي نهاية الحياة قد ينتهي كل شيء، لكن عذاب فاعل الشر عذاب أبدي، وإلى ما شاء الله، وفاعل الخير والخير أيضاً محدود أطعمت مسكيناً، وعدت مريضاً، ودعوت إلى الله، و هديت إنساناً، لكن سعادتك بهذا العمل غير محدودة.
 مرة توفي أستاذ لنا في الجامعة تصورت أن هذا الإنسان له مؤلفات ليس لها علاقة بالدين بل بالأدب، هذا الموضوع خارج اهتمام أي إنسان، قلت: لو أن الإنسان وقف بين يدي الله عز وجل وقال له: يا عبدي ماذا فعلت في الدنيا؟ يا رب المؤلف الفلاني، والمؤلف الفلاني ... و كل هذا لا علاقة له بالآخرة لا يتصل بالقرآن، ولا يتصل بالهدى، إنه جهد ضائع، ومتى يندم عليه ندماً شديداً؟ عند الموت وهذه الليالي الطويلة، وهذه الصفحات الكثيرة، والجهد المضني، والذي ألفه في موضوع الغزل كان من الممكن أن يفهم به كتاب الله، كان من الممكن أن يؤلف تفسيراً لكتاب الله يسعد به النفوس، وعلى الإنسان أن ينتبه لعمله أنه يوجد جهد ضائع، والحياة محدودة، وأخطر شيء الوقت، وأحد العارفين بالله مرّ في الطريق فرأى أناساً في المقهى يلعبون النرد قال: آه لو أن الوقت يشترى من هؤلاء لاشتريته منهم، الوقت ثمين جداً، بالوقت تعرف كتاب الله، وتفعل الخير، و تقبل على الله بالوقت، فأثمن ما في حياة المؤمن الوقت، لذلك:

((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ))

[ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 قال له: هل أنت غضبان مني؟ قال له: والله لا أغضب من أحد لأنه لا يوجد عندي وقت لأغضب من أحد، وهذا الموضوع دون اهتمامي وخارج اهتمامي.

المعذور كيفما يرتاح يجلس :

 العلماء اختلفوا في كيفية القعود قال بعضهم - وكلامه وجيه - : إذا كان الأصل في الصلاة القيام تجاوزناه فلأن نتجاوز شكلاً خاصاً في القعود أولى، المعذور كيفما يرتاح يجلس.
 والآن يوجد عندنا حالة يجوز أن تبدأ الصلاة قائماً وتتمها قاعداً، ويجوز أن تبدأها قاعداً وتتمها قاعداً، ويجوز أن تبدأها قاعداً وتتمها واقفاً، فمادام سنة عدا صلاة الفجر والتراويح فموضوع خلافي، والأرجح أنه يجوز، هذا الكلام ليس موجهاً لشاب عمره سبعة عشر عاماً وهو قاعد هكذا الأستاذ قال، والذي شعر في ضعف عام لا يستطيع أن يقف وقفة طويلة، هذا الكلام خاص بمن ليس فيه مرض، ولكن أي إنسان سبحان الله عمره ثمانون سنة والله كالشباب، قال لي: سبحان الله يا أستاذ أنا قبل أربعين سنة أنشط من الآن، قلت له: شيء طبيعي عامل الزمن وحده له قيمة، انظر إلى الشاب كيف يمشي، وفي الأربعين والخمسين يمشي بهدوء، فإذا الإنسان شعر بتعب عادي فله أن يصلي قاعداً، ألم أقل لكم من قبل إن أفضل أنواع تلاوة كتاب الله أن تتلوه مصلياً قائماً في مسجد أعلى درجة في الأجر.

الصلاة على دابة :

 يوجد عندنا موضوع الصلاة على دابة، ولا أعتقد أن أحداً عنده دابة يصلي عليها، يحل محلها موضوع السيارة أي إذا كان أحدكم راكباً سيارة وأحب أن يصلي ركعتين نفلاً فممكن أن يصلي باتجاه حلب مثلاً، والقبلة نحو الجنوب، وقبلة المسافر جهة دابته، وقبلة الخائف جهة أمنه أي صلاة النفل ممكن أن تصلى بالسيارة وهذا الكلام ليس للسائق بل للراكب، لأنه يوجـد مرة سائق صلى فما هذه الصلاة؟ قال: يجوز، من أين جئت بهذا؟ هذا تزيدٌ في الدين.

* * *

آداب الدعاء :

1 ـ أن يترصد الداعي الأوقات الشريفة :

 والآن إلى متابعة فصل من إحياء علوم الدين، آداب الدعاء، تحدثنا عن الأدب الأول وهو أن يترصد الداعي الأوقات الشريفة، وذكرنا أنه على مستوى السنة يوم عرفة، وعلى مستوى الأشهر رمضان، وعلى مستوى الأسبوع الجمعة، وعلى مستوى ساعات الليل والنهار وقت السحر:

(( إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلي السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له؟ حتى يطلع الفجر))

[ أخرجه أحمد عن أبي هريرة]

 وكلما قال لي أخ أنه مضطر إلى بيت أقول له: عليك بقيام الليل، قل: يا رب آوني برحمتك، إنه سميع مجيب، وكل شيء بيده، وأريد زوجة صالحة، قم وصلِّ قيام الليل يا رب زوجة صالحة تطيعني إذا أمرتها، وتسرني إذا نظرت إليها، وتحفظ نفسها إذا غبت عنها.

2 ـ أن يغتنم الإنسان الأحوال الشريفة :

 والأدب الثاني أن يغتنم الإنسان الأحوال الشريفة:

(( إن أبواب السماء تُفَتَّح عند زحف الصفوف في سبيل الله تعالى- هذه حالة شريفة- وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، فاغتنموا الدعاء فيها))

[ إحياء علوم الدين عن أبي هريرة]

 وهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الصلاة جعلت في خير الساعات فعليكم بالدعاء خلف الصلوات، الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه:" اللهم أعنا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم" هذه دبر الصلوات المكتوبات.

((لا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ ))

[الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 وقال عليه الصلاة والسلام:

((الصَّائِمُ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُ))

[أحمد عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 هذه أشرف الأحوال؛ حالة الصيام، وحالة الصلاة، وحالة السجود:

((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ))

[النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 إذا قال لك أحدهم: كم الساعة لو سمحت؟ على قدر ما كان الإنسان عديم إحساس يبقى يسيراً، طفل أحياناً يسألك كم الساعة؟ وعمره ثلاث سنوات تجد نفسك مضطراً أن تجيبه، وأنت تسأل الله عز وجل خالق الكون وهو معك السميع البصير ألا يوجد استجابة منه؟ ليس معقولاً.

((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ ))

[الترمذي عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ]

 فاتقوا الله عباد الله فيما تدعون، أي اطلب طلباً معقولاً، إذا قال ابن لأبيه: أريد شفرة لأذبحك بها لا يرد عليه، وإذا قال له: أريد قراءة مصحف، أريد أن أدرس، فالطلب معقول وينفذ فوراً، أما إذا الطلب غير المعقول فلا ينفذ، ولذلك: فاتقوا الله عباد الله فيما تدعون، هناك شيء مهم جداً في الدعاء، استحيوا من الله:

((اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ))

[ أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ]

لا ينفع حذر من قدر ولكن ينفع الدعاء مما نزل ومما لم ينزل :

 بالرأس يوجد عين هل تنظر إلى عورات الناس؟ هناك أذن هل تستمع هذه إلى الغناء؟ بالرأس يوجد لسان هل ينطق بالباطل؟ بالرأس دماغ بماذا يفكر؟ بالدنيا أو بالآخرة:

(( من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ))

[ الترمذي عن أنس]

 يوجد عندنا موضوع لا ينفع حذر من قدر ولكن ينفع الدعاء مما نزل ومما لم ينزل فادعوا الله عباد الرحمن، تصور أن الدعاء وحده يمنع القضاء والقدر، ويمنع ما هو مقدر، والتشبيه المناسب لهذا الموضوع أن طبيباً جراحاً جاءه مريض يشكو توقف كليته عن العمل، فصور فوجدها واقفة فلابد من استئصالها، فلو أنه أعاد الصورة مرة ثانية قبل العملية بساعة ورآها تعمل فالطبيب قرر استئصالها، وأخذ توقيعه، وانتهى الأمر على أساس أنها واقفة فإذا عملت يلغى هذا القرار، وربنا عز وجل قرر إرسال هذه المصيبة لزيد من الناس لأنه منحرف فإذا سار إلى الله ودعا ربه وشفيت نفسه توقف القدر.

((لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلا الدُّعَاءُ وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلا الْبِرُّ ))

[ الترمذي عَنْ سَلْمَانَ]

 الدعاء وحده يرد القضاء، ما معنى لا ينفع حذر من قضاء؟ أي لو أن الأمة اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ))

[ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 الأمر بيد الله عز وجل أما على الرغم من أن الناس كلهم لو اجتمعوا على نفعك لا يستطيعون، ولكن الدعاء وحده يوقف القضاء، إذا أحدكم لاح له شبح مصيبة عليه بالدعاء، فالدعاء فيه صلة، والصلة في شفاء، والشفاء وقف تنفيذ العملية الجراحية، هذا كل الأمر.

3 ـ أن يدعو وهو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه :

 الأدب الثالث: أن يدعو وهو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه:

((عن جابر بن عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى الموقف بعرفة واستقبل القبلة ولم يزل يدعو حتى غربت الشمس))

[مسلم عَنِ جابر]

 الدعاء عبودية لله، والاستغناء عن الدعاء ادعاء الألوهية، من هو الذي لا يدعو؟ القوي، هل أنت قوي؟ من منا يضمن أنه يعيش إلى غد؟ رأيت محلاً لاحظت أنهم يعملون ديكوراً له أكثر من ثمانية أشهر ومن أعلى مستوى، ما وقعت عيني على تزيينات رخامية معقدة جداً كهذا العمل، فتح المحل و من فوق الخمسين باكيت ورد، ومضى على فتحه شهران رأيت منذ أسبوعين نعوة على المحل التجاري، توفي صاحب المحل، سبحان الله والله الدنيا لا تستحق هذا، إنه شيء مؤقت وماضٍ، الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له.
 زرت شخصاً عنده مزرعة فخمة جداً واسعة، وفيها من كل الأشجار المثمرة، وقيل لي: إن صاحبها توفي وهو فيها فدفن في طرفها، أنا أتأمل هذه المزرعة أين هو؟ تحت التراب، هل يستمتع بها؟ لا انتهى، فالإنسان قيمته بعمله، إن لك يا كييس قريناً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وأنت حي، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو ملك.
 أحد العارفين بالله قبل أن يكون عارفاً بالله كان شقياً، شاهد في المنام ثعباناً كبيراً يلحقه وهو يكاد يصعق من الخوف منه، إلى أن رأى ابنته الصغيرة على رأس تلة ففعلت هكذا فكف هذا الثعبان عن اللحاق به، قال لها: يا بنيتي ما هذا؟ قالت: يا أبتِ هذا عملك، قال: من أنتِ؟ قالت: أنا عملك الصالح.

الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له :

 القضية ليست سهلة، أنا أنصح الأخوان نصيحة أن موضوع الموت لا يغادر أذهانكم أبداً، اعمل، وتاجر، وبع، واشتر، وادرس، وافتح بيتاً، و لكن موضوع الموت لا يغادر ذهنكم، ترك الدنيا، يدخل ويخرج هناك دخول لا خروج منه مرة واحدة، جنازة نازلة من المهاجرين إلى باب الصغير، هل سيعود إلى البيت مساءً؟ لا، لا يوجد عودة، أحب ألا يصلي فلابد من الدخول إلى المسجد لا ليصلي ولكن ليصلى عليه، فالموت يهز النفس ويضبط الأمور والله عز وجل جعل الموت رحمة.
 شاب مهندس ذهب مع أهله إلى البحر وفي باله ألف مشروع، نزل إلى البحر ليسبح فمات في البحر، إذ صار معه جلطة أثناء السباحة، وعمره سبع وعشرون سنة، يقول الشاب: أنا شاب لا يمسني شيء، وهذا الكلام ليس لي بل للشيوخ الكبار في السن، فالموت لا يعرف كبيراً ولا صغيراً.
 إنسان ذهب إلى فرنسا ليدرس وعاد معه دكتوراه، وعاد بالتابوت أخذها ومات في المطار، وأحدهم عاد وأثناء نقل أمتعته إلى البيت دهسته سيارة، لم يقل له أحد: دكتور ولا مرة، وقد يموت قبل الزواج، ويوجد مهندس يطل من بناء يشرف عليه، العامل من فوق رمى بلوكة فجاءت فوق رأسه فقتلته، بعد أسبوعين عرسه، وأهله قد جهزوا ثلاثمئة كيلو من الحلويات كي توزع في عرسه، فوزعوها على المعزين من شدة الألم، والموت يصل إلى الشباب أيضاً.
 فأرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وإذا أحببت شيئاً دائماً أبدياً تكون عاقلاً، وإذا أحببت شيئاً فانياً تكون أحمقاً، زوجته فانية لابد من أن يتركها أو أن تتركه، إن تركها وهي طيبة يا ترى هل تتزوج أم لا تتزوج؟ هل هي وفية إلى هذه الدرجة؟ وإن ماتت قبله يجوز بعد أسبوع أن يذهب ويخطب، يقول لك: لا يجوز أن يبقى الإنسان أعزباً يديرها دينية و النبي نهى عن هذا الشيء.

(( كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَلا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ))

[النسائي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 فبالركوع لا يوجد قرآن، بل بالركوع سبحان ربي العظيم، وبالسجود سبحان ربي الأعلى، قال: ثم ينبغي له أن يمسح بيديه وجهه في آخر الدعاء، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا مد يديه بالدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه:

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ))

[ الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه]

 وإذا دعا عليه الصلاة والسلام ضم كفيه، وجعل بطونهما مما يلي وجهه فهذه هيئات اليد، ولا يرفع بصره إلى السماء، قال صلى الله عليه وسلم:

((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ ))

[النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

4 ـ خفض الصوت بين المخافتة والجهر:

 الأدب الرابع خفض الصوت بين المخافتة والجهر لما روي عن أبي موسى الأشعري:

((عَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَلَمَّا قَفَلْنَا أَشْرَفْنَا عَـلَى الْمَدِينَةِ فَكَبَّرَ النَّاسُ تَكْبِيرَةً وَرَفَعُوا بِهَـا أَصْوَاتَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَصَمَّ وَلا غَائِبٍ هُوَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رُءُوسِ رِحَالِكُمْ ثُمَّ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلا أُعَلِّمُكَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ))

[متفق عليه عَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ]

 خير الذكر الخفي، قال تعالى:

﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾

[ سورة مريم : 3 ]

 وأفضل الزهد إخفاء الزهد، لا نحتاج إلى مسبحة بالطريق سبح بقلبك، يوجد أناس مسبحة بيده، ومسواك، وقبقاب، أي أنه مسلم وصاحب دين والشيء في القلب.
 قالت عائشة: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها أي بدعائك، وبعضهم حمل هذه الآية على الدعاء، ولقد أثنى الله عز وجل على زكريا حيث قال: إذ نادى ربه نداء خفيا، قال تعالى:

﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ ﴾

[ سورة الأنعام: 63 ]

 فمن السنة والأدب أن تدعو وأنت خافض الصوت.

5 ـ ألا يتكلف السجع بالدعاء :

 الأدب الخامس ألا يتكلف السجع بالدعاء، يوجد أشخاص حفظوا أدعية جميلة جداً مسجوعة، ولها جرس موسيقي، الواحد ينسى مضمون الدعاء وينسى التوجه إلى الله عز وجل، ينهى عن التكلف في الدعاء، وينبغي له أن يكون متضرعاً والتكلف لا يناسبه، وإذا أحدكم آلامه شيء يقول لك: إنني في أشد حالات الألم والضياع والضيق و إنني واثق من الله، كثرة الصياغة المتقنة والسجع برفع الطلب صار شيئاً مضحكاً ينافي أدب الدعاء، والسجع والعناية البالغة بنظم الدعاء ينافي أدب الدعاء، وقال تعالى:

﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 63 ]

 قيل: معناه التكلف بالأسجاع، والأولى ترك أدعية مأثورة لا يستطيع أحد أن يقلدها، والأولى ألا تتجاوز الأدعية المأثورة ولا تدعُ من عندك، ماذا تريد أي دعاء؟ كل أدعيته جامعة مانعة، "اللهم ارزقنا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة".
 "اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم أنا بك وإليك، أنا قائم بك ومقصدي رضاك".
 "اللهم ما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب".
 هل يوجد إنسان من الحاضرين لا يوجد شيء في حياته ما حصل عليه؟ أعتقد لا يوجد إنسان إلا و حصل على أشياء كثيرة ولكن هناك شيء لم يحصل عليه كنت متمنياً هذا و لم يحدث، وهناك دعاء خاص بهذه الحالة، "اللهم ما زويت عني ما أحب فاجعل هذا الذي زويته عني وأنا أحبه اجعله فراغاً لي فيما تحب، وما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب"
 تحب المال آتاك الله المال، اللهم اجعل هذا المال عوناً لي على طاعتك، تحب التجارة زويت عنك فبقيت موظفاً، اللهم اجعل هذا الفراغ لمرضاتك، وهكذا فالله اختار لك من الساعة الثانية بعد الظهر إلى ثاني يوم الساعة الثامنة وأنت لست تاجراً بل موظفاً، وهذا الوقت الطويل اللهم اجعلني أقضيه في طاعتك، و الإنسان يقرأ أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا الإنسان حفظ أدعية النبي الكريم وأدعية القرآن تكفي، أدعية مانعة جامعة، بليغة دقيقة.
 "اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية".
 قال عليه الصلاة والسلام:

((إياكم والسجع في الدعاء بحسب أحدكم أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار ))

[ ابن ماجه عن عائشة]

(( عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا ))

[أحمد عَنْ عَائِشَةَ]

 فالإنسان يكتفي بأدعية النبي عليه الصلاة والسلام، قال: مر بعض السلف بقاص يدعو بالسجع - دعاء مرتب - فقال له: أعلى الله تبالغ؟ - تتفاصح على الله - فأنت بحال تضرع، وبحال خشية، وترجي، المترجي لا يليق به أن يتفاصح على الآخرين.
 قيل: أحد العارفين بالله كان دعاؤه مستجاباً، والناس إذا أمنوا على دعائه كان يستجاب لهم ماذا كان يقول؟ كان يقول: اللهم اجعلنا جيدين، اللهم لا تفضحنا يوم القيامة، اللهم وفقنا للخير، والناس يؤمنون على هذا الدعاء ويستجاب لهم، وقال بعضهم: أدعو بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق، وسوف نتابع هذا الموضوع في درس قادم إن شاء الله تعالى.

* * *

زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد بنت أسـد :

 و الفقرة الثالثة من الدرس شيء عن السيرة النبوية موضوع اليوم زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد بنت أسـد.
 كانت السيدة خديجة رضي الله عنها تدعى في الجاهلية قبل الإسلام بالطـاهرة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربعة آسيا امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد، و خديجة بنت خويلد:

((كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ))

[البخاري عَن أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ]

 فإحدى أربع نساء كملت لشدة عفافها وصيانتها، وكانت برةً وتقيةً، وذات عقل واسع، وذكاء لامع، وجمال وكمال وحسب ومال، وقد عرضت السيدة خديجة رضي الله عنها نفسها على النبي صلى اله عليه وسلم، وله من العمر خمسة وعشرون عاماً عند أكثر العلماء، ولها من العمر أربعون عاماً، إذا إنسان زوجته أكبر منه بسنة يبقى طول عمره محروقاً قلبه، أخي أخذتها كبيرة ونصحوني وما انتصحت، انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة أكبر منه، أي بقدر والدته، والإنسان لا يعقدها كثيراً، قال سيدنا عمر لرجل متضايق، قال له يا أخي: إما أن نموت فتستريح منا وإما أن نموت فنستريح منها.
 فأرسلت إليه نفيسة بنت منية كما روى ابن سعد من طريق الواقدي أنها تقول للنبي عليه الصلاة والسلام كانت خديجة امرأة حازنةً، جلدةً، شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير وهي يومئذٍ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم نسباً، وأكثرهم مالاً، وكل قومها كان حريصاً على الزواج منها لو قدر على ذلك، وقد طلبوها وبذلوا لها الأموال.
 والحقيقة أن النبي الكريم أول شركة في الإسلام شركة مضاربة تمت بينه وبين السيدة خديجة هي بمالها وهو بجهده، وبالفقه هذه الشركة أول شركة، شاب ناشئ، متقد، متحمس، مختص بفرع من فروع المهمة، خبير ولا يملك مالاً، وشخص متقدم بالسن معه مال أشرف طريقة لاستثمار هذا المال أن تقيم شركةً بينك وبين إنسـان مؤمن مستقيم، مندفع، خبير، مخلص، تنفعه وتنفع نفسك، أما طرق استثمار المال الأخرى فمشبوهة.
 والسيدة خديجة عرضت نفسها على النبي وقالت: يا ابن عمي إني قد رغبت فيك لقرابتك، ووساطتك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، و النبي صلى الله عليه وسلم قبل، وإذا أحدكم جاءه عرض لا يرده، هذا هو، أي إذا رجل فتح له باب رزق فليلزمه، بلغه أنه يوجد امرأة تود الزواج وتقبل به يرسل والدته لتراها فلا يستنكف، ولا يستعلِ، وأجمل ما في الموضوع كيف تمت خطبتها.

 

خطبة النبي الكريم لخديجة رضي الله عنها :

 خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعمه أبو طالب وعمه حمزة، حتى دخلوا على أبي خديجة خويلد بن أسد، وحضر المجلس رؤساء مضر، وخطب فيهم أبو طالب وقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على ، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً - هذه قبل البعثة - وفضلاً وعقلاً فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائد أو حائل وعارية مسترجعة.
 قيمة الشاب أخلاقه، وعلمه، وأدبه، وأعماله، والآن الناس يقولون: ماذا تملك؟ أين بيتك؟ ماذا تعمل؟ فقط النواحي المادية، أما الإنسان المؤمن الطيب فلا يوزن بالذهب.
 ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائد أو حائل، وعارية مسترجعة، ومحمد بين قد عرفتم قرابته، وقد خطب إليكم راغباً كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما حكم عاجله وأجله اثنتا عشرة أوقية ذهباً ونصفاً، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل - يوجد دلائل الأخلاق العالية - هذه خطبة النكاح التي خطبها عمه أبو طالب حينما أجمع الزواج من السيدة خديجة رضي الله عنها، فزوّجها أبوها وقيل: زوجها عمها، وقيل: أخوها، فولدت له صلى الله عليه وسلم جميع أولاده الكرام إلا إبراهيم فإنه من ماريا القبطية، وأولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام قد اختلف في عددهم، والأصح أنهم سبعة، ثلاثة ذكور القاسم وعبد الله والطاهر، عبد الله كان يلقب بالطيب، ثلاثة ذكور وأربع بنات، السيدة زينب وهي أكبرهن، والسيدة رقية، والسيدة أم كلثوم، والسيدة فاطمة الزهراء البتول، على أبيهن وعليهن الصلاة والسلام.

العلاقة بين النبي صلى الله عليه و سلم و ابنته فاطمة الزهراء :

 و كان يقول صلى الله عليه و سلم:

((فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني))

[ المعجم الكبير عن المسور بن مخرمة]

 لما دنت منية النبي عليه الصلاة والسلام دخلت عليه تبكي فهمس في أذنها فإذا هي تضحك، قال: أنت أول أهلي لحوقاً بي، فضحكت، لشدة تعلقها بالله عز وجل وبأبيها، وقد قالت السيدة عائشة:

((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَدَلا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ فِي قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا مِنْ فَاطِمَةَ...))

[ البخاري عَنْ عَائِشَةَ]

 أشبه بناته فيه، وقالت عائشة رضي الله عنها:

((وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهَا))

[ البخاري عَنْ عَائِشَةَ]

 هل تعرفون أن البنت لا تهان أبداً، لأن كل كرامتها وعفتها من كرامتها، فالإنسان عندما يضرب ابنته يكون قد ارتكب خطأ كبيراً جداً، لأن هذه البنت إذا كان أبوها يكرمها ويحترمها تكون رافعة رأسها، حريصة على سمعتها، فإذا أهينت في بيتها يصبح الانحراف خطيراً، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت عليه قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه -طبعاً مجلسه الخاص - وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخل عليها قامت له فقبلته وأجلسته في مجلسها، فلما مرض النبي عليه الصلاة والسلام أتت فاطمة فأكبت عليه فقبلته ثم:

(( عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَدَلا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ فِي قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا فَلَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا فَبَكَتْ ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ إِنْ كُنْتُ لأظُنُّ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَعْقَلِ نِسَائِنَا فَإِذَا هِيَ مِنَ النِّسَاءِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعْتِ رَأْسَكِ فَبَكَيْتِ ثُمَّ أَكْبَبْتِ عَلَيْهِ فَرَفَعْتِ رَأْسَكِ فَضَحِكْتِ مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ قَالَتْ: إِنِّي إِذًا لَبَذِرَةٌ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ فَذَاكَ حِينَ ضَحِكْتُ ))

[ البخاري عَنْ عَائِشَةَ]

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة الزهراء :

 كان النبي عليه الصلاة السلام إذا سافر كان آخر عهده إتيان فاطمة - آخر من يودعها فاطمة - وأول من يدخل عليها إذا جاء من سفره فاطمة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر، أو من غزو، بدأ في المسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم أتى فاطمة، ثم أتى أزواجه، البنت أحياناً تكون سبباً لدخول الجنة، إنهن المؤنسات الغاليات، أحياناً البنت تجلب صهراً أغلى من الابن بكثير، الابن يجوز ألا يكون كما تريد أما الصهر فقد يكون مؤمناً فتشعر أنه أغلى من ابنك، وهؤلاء جالبات الأصهار المؤنسات الغاليات ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم ويغلبهن لئيم، كان إذا حمل فاطمة وهي صغيرة يضمها ويقبلها ويقول: ريحانة أشمها ورزقها على الله.
 ترى الآن الإنسان عابساً إن جاءته بنت يطلق امرأته، هذا أحمق، لي صديق جاءته السابعة كل مرة يقدم لزوجته هدية ثمينة جداً، وهذه المرة قدم لها هديتين، وأرسل لكل أخت من أخواتها الصغار باقة ورد يقدمنها للأم، وهكذا يفعل المؤمن، السابعة لا يوجد عنده ولا صبي هذه هدية من الله عز وجل.
 بشرها النبي عليه الصلاة والسلام أنها سيدة نساء أهل الجنة - السيدة فاطمة -.
 آخر شيء عن السيدة فاطمة رضي الله عنها: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وفي روايةٍ:

((عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لأفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلا أُرَاهُ إِلا حَضَرَ أَجَلِي وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي فَبَكَيْتُ فَقَالَ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ ))

[ مسلم عَنْ عَائِشَةَ]

((فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ))

[ الحاكم عن أبي سعيد ]

 وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:

(( هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم علي، وبشرني أن حسناً وحسيناً سيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة ))

[ الطبراني عن حذيفة]

 هكذا النبي الكريم عامل ابنته، وكل واحد منا يجب أن يكرم ابنته، ويجبر بخاطرها، ويعلمها، ويهذبها، ويجعلها زوجة صالحة، ربما دخل عن طريقها الجنة: " من جاءه بنتان فأحسن تربيتهما فأنا كفيله في الجنة قالوا: واحدة؟ قال: واحدة".

 

تحميل النص

إخفاء الصور