وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 77 - الحج1 - الأضحية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخطبة الأولى:
 الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزاً وحصناً، وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمناً، وأكرمه بالنسبة إلى ذاته تشريفاً له وتحصيناً وأمناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، والشهر الحرام، والهدي، والقلائد، ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شيء عليم، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، خير نبي اجتباه، وللعالمين أرسله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، اللهم صل، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، سيد الخلق، وحبيب الحق، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا، وعنهم يا رب العالمين.
 يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويُخلِّف في بلدته هموم المعاش والرزق، هموم العمل والكسب، هموم الزوجة والولد، وهموم الحاضر والمستقبل، وبعد أن يُحرم من الميقات يبتعد عن الدنيا كلياً، ويتجرَّد إلى الله عز وجل ويقول:" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ".
 هذه التلبية كأنها استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلبه، أن يا عبدي خلِّ نفسك وتعال، تعال يا عبدي، لأريحك من هموم كالجبال، تجثم على صدرك، تعال يا عبدي لأطهرك من شهوات تُنغِّص حياتك.
 إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمته مسؤول ؟
 تعالَ يا عبدي، وذق طعم محبتي.. تعال يا عبدي، وذق حلاوة مناجاتي.
 " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ".
 تعال يا عبدي لأريك من آياتي الباهرات، تعالى لأريك ملكوت الأرض والسماوات، تعالى لأضيء جوانحك بنوري الذي أشرقت به الظلمات، تعال لأعمر قلبك بسكينة عزت على أهل الأرض والسماوات تعال لأملأ نفسك غنىً ورضىً شقيتْ بفقدهما نفوس كثيرة، تعال لأخرجك  من وحول الشهوات إلى جنات القربات، تعال لأنقذك من وحشة البعد إلى أُنس القرب، تعال لأخلصك من رُعب الشرك وذل النفاق إلى طمأنينة التوحيد وعز الطاعة.
 لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك ".
 تعال يا عبدي لأنقلك من دنياك المحدودة، وعملك الرتيب، وهمومك الطاحنة إلى آفاق معرفتي، وشرف ذكري، وجنة قربي، تعال يا عبدي وحُطَّ همومك، ومتاعبك، ومخاوفك عندي، فأنا أضمن لك زوالها، تعال يا عبدي واذكر حاجاتك، وأنت تدعوني فأنا أضمن لك قضاءها "إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عُمارها، فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني، وحقَّ على المزور أن يكرم الزائر "..
 فكيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات، وتجشمت المشقات، وتحملت النفقات، وزرتني في بيتي الحرام، ووقفت بعرفة تدعوني، وتسترضيني.
 " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك، والملك، لا شريك لك".
 تعال يا عبدي، وزرني في بيتي، لتنزاح عنك الهموم، ولتعاين الحقائق ولتستعد للقاء، فإن عبداً أصححتُ له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، فمضت عليه خمس أعوام، لم يفد إليَّ لمحروم.
 تعال يا عبدي، وطُف حول الكعبة طواف المحب حول محبوبه، واسعَ بين الصفا والمروة سعي المشتاق لمطلوبه، تعال يا عبدي، وقبِّل الحجر الأسود، يميني في الأرض، أصافح بها خلقي، واذرُف الدمع على ما فات من عمر ضيعته في غير ما خُلقت له، وعاهدني على ترك المعاصي والمخالفات والإقبال على الطاعات والقربات، " وكن لي كما أُريد لأكن لك كما تريد " كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تُسلِّم لي فيما أُريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك.
 " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك ".
 تعال يا عبدي إلى عرفات، يوم عرفة فهو يوم اللقاء الأكبر، تعالى لتتعرض لنفحة من نفحاتي تطهر قلبك من كل درن وشهوة، وتُصفي نفسك من كل شائبة وهم هذه النفحات، تملأ قلبك سعادة وطمأنينة، وتشيع في نفسك سعادة لو وُزِّعت على أهل بلد لكفتهم، عندئذ لا تندم إلا على ساعة أمضيتها في قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
 تعال لعرفات يوم عرفة، لتعرف أنك المخلوق الأول من بين كل المخلوقات، ولك وحدك سخرت الأرض والسماوات، وأنك حُمِّلت الأمانة التي أشفقت منها الجبال والأرض والسماوات، وأني جئت بك إلى الدنيا لتعرفني، وتعمل عملاً صالحاً يؤهلك لجنتي، تعال إلى عرفات يوم عرفة، لتعرف أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وأنك إن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيء.
 وبعد أن يذوق المؤمن في عرفات، من خلال دعائه، وإقباله، واتصاله، روعة اللقاء، وحلاوة المناجاة، ينغمس في لذة القرب، عندئذ تصغر الدنيا في عينيه، وتنتقل من قلبه إلى يديه، ويصبح أكبر همه الآخرة فيسعى إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وقد يُكشف للحاج في عرفات أن كل شيء ساقه الله له مما يكرهه، هو محض عدل، ومحض فضل، ومحض رحمة، ويتحقق من قوله تعالى:

 

﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

 وبعد أن يفيض الحاجُّ من عرفات، وقد حصلت له المعرفة واستنار قلبه، وصحت رؤيته يرى أن السعادة كلها في طاعة الله، وأن الشقاء كله في معصيته عندئذ يرى عداوة الشيطان، وكيف أنه يَعِدُ أولياءه بالفقر إذا أنفقوا، ويخوفهم مما سوى الله، إذا أنابوا وتابوا، ويعدهم، ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، قال تعالى:

 

 

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

 عندئذ يُعبِّر الحاج عن عداوته للشيطان تعبيراً رمزياً برمي الجمار، ليكون الرمي تعبيراً مادياً، وعهداً موثقاً في عداوة الشيطان، ورفضاً لوساوسه وخطراته.
 يقول الإمام الغزالي: " اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان، وتقصم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله تعالى ".
 وحينما يتجه الحاج لسوق الهدي، ونحر الأضاحي، وكأن الهدي هدية إلى الله تعبيراً عن شكره لله على نعمة الهدى، التي هي أثمن نعمة على الإطلاق، وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة، ورغبة لا تُرضي الله، وتضحية بكل غالٍ ورخيص، ونفس ونفيس في سبيل مرضاة رب العالمين، قال تعالى:

 

 

﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾

 ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه الحقائق، وتلك المشاعر، ثم يطوف طواف الوداع لينطلق منه إلى بلده إنساناً آخر استنار قلبه بحقائق الإيمان، وأشرقت نفسه بأنوار القرب، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه، وإذا صحَّ أن الحج رحلة إلى الله، فإنه يصحُّ أيضاً أنه الرحلة قبل الأخيرة، لتجعل الرحلة الأخيرة مُفضية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
 وبعد أن ينتهي الحجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة، التي هي من أحب بلاد الله إلى الله، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

(( من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي ))

 وقد عُلِّقت في مكان بارز من الحجرة الشريفة الآية الكريمة:

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾

 وقد أشار القرطبي إلى أن الآية تصدق على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وليس هذا لغير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد القاسمي في تفسيره أن في هذه الآية تنويهاً بشأن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالرجل حينما يظلم نفسه بمعصية ربه، من خلال خروجه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يستغفر الله، وأن يعتذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تتم التوبة إلى الله، ولا تُقبل إلا إذا ضمَّ إلى استغفار الله استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله، ورفض سنة النبي صلى الله عليه وسلم عين معصية الله وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله، يستنبط هذا من إفراد الضمير في قوله تعالى عند كلمة يرضوه:

 

 

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾

 هكذا بضمير المفرد.
 ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى:

 

 

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾

 ومن قوله تعالى:

 

 

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

 ولعل سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم حينما يزور مقام النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما إن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه، وما إن يبصر الروضة الشريفة حتى يجهش بالبكاء، وعندئذ تُصبح نفس الزائر صافية من كل كدر، نقية من كل شائبة، سليمة من كل عيب، منتشية بحبها له صلى الله عليه وسلم وقُربها منه، وهذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:

 

((من جاءني زائراً، لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ))

 وإذا شئت الدليل القرآني على ما يشعر به المسلم من سكينة وسعادة حينما يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو أو بآخر، فهو قوله تعالى:

 

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

 وقال الرازي في تفسيره: إن روح محمد صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية صافية مشرقة باهرة لشدة قربه من الله، ولأن قلبه الشريف مهبط لتجليات الله جل وعلا، فإذا ذكر أصحابه بالخير والود، أو ذكره المؤمنون بالحب والتقدير فاضت آثار من وقته الروحانية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب نفوسهم، وصفت سرائرهم، وهذه المعاني تفسر قوله تعالى:

 

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾

 رُوي أن بلالاً رضي الله عنه سافر إلى الشام، وطال به المقام، بعد وفاة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، ولقد رأى وهو في منامه وهو بالشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:

 

(( ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني ))

 فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده كثيراً.
 فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما وجعل يضمهما، ويقبلهما فقالا: نشتهي أن نسمع أذانك، الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصرّا عليه، فصعد وعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقفه.
 ولما بدأ بقوله: الله أكبر.. وتذكر أهل المدينة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجَّت المدينة، وخرج المسلمون من بيوتهم فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
 لقد صدق أبو سفيان رضي الله عنهم حينما قال: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.. وهذه الحقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم:

(( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ))

 ركن الحج الأكبر هو الوقوف بعرفة، كما قال علية الصلاة والسلام: الحـج عرفة، لذلك يعد يوم عرفة، ونحن في يوم عرفة، يوم اللقاء الأكبر بين العبد المنيب المشتاق وبين ربه التواب الرحيم، فيوم عرفة يوم المعرفة، ويوم عرفة يوم المغفرة، ويوم عرفة يوم تتنزل فيه الرحمات على العباد من خالق الأرض والسماوات، ومن هنا قيل من وقف في عرفات، ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له.
 وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء يقول:

(( انظروا عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين، جاؤوني من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة))

[قال المنذري رواه البزار وابن خزيمة وابن حبان واللفظ له]

 وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن علي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تثوب فقال:

(( يا بلال أَنصِت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: معشر الناس أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فأقرأني من ربـــي السلام وقال إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات، فقـام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله هذه لنا خاصة ؟ قال: هذه لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر رضي الله عنه، كثر خير الله وفاض))

 وروى الإمام مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ماذا أراد هؤلاء))

 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ فنه من يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما أري من يوم بدر، قيل وما رأى يوم بدر يا رسول الله، أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة ))

 أي يقودهم

 

[رواه الإمام مالك مرسلاً والحاكم موصولاً]

 أيها الإخوة الكرام، روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

(( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ))

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
والحمد لله رب العالمين

***

 الخطبة الثانية:
 الحمد لله رب العالمين، واشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .
 الأضحية شعيرة من شعائر المسلمين في عيد الأضحى المبارك فمشروعيتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ))

 ، وقد استنبط أبو حنيفة رحمه الله تعالى من هذا الحديث أنها واجبة، فمثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب، وقال غير الأحناف: إنها سنة مؤكدة، ولهم أدلتهم.
 فهي واجبة مرة في كل عام على المسلم الحر البالغ العاقل المقيم الموسر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( ما عمل ابن آدم يوم النحر عمــلاً أحب إلى الله تعال من إراقة الدم، إنها - أي الأضحية - لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافهـــا، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً ))

 وحكمتها أن المسلم الموسر يعبر بها عن شكره لله تعالى على نعمه المتعددة منها نعمة الهدى، ومنها نعمة البقاء على قيد الحياة من عام إلى عام، فخيركم من طال عمره، وحسن عمله، ومنها نعمة السلامة، والصحة، ومنها نعمة التوسعة في الرزق، وهو فضلاً عن ذلك تكفير لما وقع من الذنوب، وتوسعة على أسرة المضحي وأقربائه وأصدقائه وجيرانه وفقراء المسلمين.
 ومن شروط وجوبها اليسار، فالموسر هو مالك نصاب الزكاة زائداً عن حاجاته الأساسية أو هو الذي لا يحتاج إلى ثمن الأضحية أيام العيد فقط، أو هو الذي لا يحتاج إلى ثمن الأضحية خلال العام كله، على اختلاف بين المذاهب في تحديد معنى الموسر.
 وينبغي أن يكون الحيوان المضحى به سليماً من العيوب الفاحشة التي تؤدي إلى نقص في لحم الذبيحة، أو تضر بآكلها فلا يجوز أن يضحي بالدابة البين مرضها، ولا العوراء، ولا العرجاء، ولا، العجفاء، والجرباء، ويستحب في الأضحية أسمنها، وأحسنها. وكان صلى الله عليه وسلم يضحي بالكبش الأبيض الأقرن.
 ووقت نحر الأضحية بعد صلاة عيد الأضحى وحتى قبيل غروب شمس اليوم الثالث من أيام العيد، على أن أفضل الأوقات هو اليوم الأول ما بعد صلاة عيد الأضحى، وحتى قبل زوال الشمس.
 ويكره تنزيهاً الذبح ليلاً، ولا تصح الأضحية إلا من النعم، من الإبل والبقر والغنم من ضأن ومعز، بشرط أن يتم الضأن ستة أشهر، وأن تتم المعز سنة كاملة عند بعض الأئمة، ويُجزئُ المسلم أن يضحي بشاة عنه، وعن أهل بيته المقيمين معه، والذين ينفق عليهم، وهم جميعاً مشتركون في الأجر، ومن مندوبات الأضحية أن يتوجه المضحي نحو القبلة، وأن يباشر الذبح بنفسه إن قدر عليه، وأن يقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك وإليك، اللهم تقبل مني ومن أهل بيتي. ولـه أن يوكل غيره وعندها يستحب أن يحضر أضحيته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها.
 ويستحب أن يوزعها أثلاثاً، فيأكل هو وأهل بيته الثلث، ويهدي لأقربائه، وأصدقائه، وجيرانه الثلث، ويتصدق بالثلث الأخير على الفقراء والمسلمين لقوله تعالى:

﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾

 . وقال تعالى:

﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾

وهذه أدعية النبي في الحج:

 اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
 اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
 اللهم إنا نسألك من الخير كله ما علمنا منه وما لمن نعلم، ونعوذ بك من الشر كله ما علمنا منه وما لم نعلم.
 اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
 اللهم اغفر وارحم واعف عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم
 اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
 اللهم أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين،
 اللهم وفق ولاة أمور المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، لما تحب وترضى، اللهم وفق بينهم، ووحد كلمتهم، واجمعهم على الحق والخير والهدى، وانصرهم على أعدائك وأعدائهم يا كريم.
 اللهم وفق السيد الرئيس بشار الأسد، لما فيه خير البلاد والعباد، وهيئ له فريق عمل في مستوى طموحاته يا رب العالمين .
 والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور