وضع داكن
25-04-2024
Logo
الندوة : 10 - تفسير قوله تعالى- إنا أعطيناك الكوثر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ جمال:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العزة جلّ في علاه، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على حبيب الله محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
 أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بحضراتكم إلى هذا اللقاء الذي يجمعنا من خلال برنامج: " فيه هدىً للناس".
 أيها الأعزاء، الله عز وجل يقول في كتابه العزيز:

 

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾

[ سورة الكوثر ]

 عندما نتحدث عن آيات الله عز وجل، نتوجه مباشرةً إلى صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
 دكتور طيب الله أوقاتكم بالخير، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته أستاذ جمال، جزاك الله خيراً على هذه الندوات.
الأستاذ جمال:
 دكتور هذه الآية الكريمة فيها الخير، والشيء الكثير، من أين نبدأ؟

 

عطاء الله تعالى نوعان؛ عطاءٌ إلهيٌ يليق بكرامة الإنسان عند الله وعطاء مادي

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
 أستاذ جمال، هذه السورة ـ سورة الكوثر ـ تعني الشيء الكثير، فالله عز وجل يقول للنبي الكريم:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 هناك عطاءٌ إلهيٌ يليق بكرامة الإنسان عند الله، وهناك عطاء مادي يعطيه الله لكل خلقه، كل خلقه يأكلون، ويشربون، ويتمتعون، لكن الذين يحبهم أعطاهم الكوثر، أعطاهم الإيمان، أعطاهم الصلة بالله عز وجل، أعطاهم العمل الصالح، فكلمة

﴿ الْكَوْثَر ﴾

 تعني الشيء الكثير، والمطلق في القرآن على إطلاقه، أي ماذا نفهم من الكوثر؟ أعطاك علماً:

 

﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

[ سورة النساء ]

 أنا أضرب مثلاً بسيطاً، لو أن طفلاً عقب أيام العيد، قال لعمه: أنا معي مبلغ عظيم، أنا أقدر هذا المبلغ بخمسمئة ليرة، لأنه ابن موظف، وأقرباؤه من أصحاب الدخل المحدود، مجموع الذي أخذه في العيد لا يزيد عن خمسمئة ليرة، فإذا قال هذا الطفل: عندي مبلغٌ عظيم، نقدر هذا المبلغ بحسب القائل، القائل طفل، لو قال موظف كبير بالبنتاغون: أعددنا لحرب هذه الدولة مبلغاً عظيماً، قد نقدره بمئتي مليار دولار، فإذا قال ملك الملوك، ومالك الملوك، إذا قال خالق الأكوان، رب السماوات، إذا قال:

﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

 هذا العطاء عطاء العلم.

 

معرفة الله أعظم عطاءٍ يناله الإنسان من الله تعالى :

 لذلك هذه الآية تؤكد أن أعظم عطاءٍ تناله من الله أن تعرف الله، إن عرفته عرفت كل شيء، وإن فاتتك معرفته فاتك كل شيء، إن عرفت الله وجدت نفسك، إن عرفت الله وجدت سعادتك، إن عرفت الله ضمنت سلامتك، إن عرفت الله وصلت إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
 فلذلك كلمة

﴿ الْكَوْثَر ﴾

 المطلق في القرآن على إطلاقه، الجنة عطاء، العلم عطاء، الفهم عطاء، الصلة بالله عطاء، الحكمة عطاء، الأمن عطاء، التفوق عطاء، الرضا عطاء، أي لو ذهبت أستعرض عطاءات الله، عطاءات الله لا تعد ولا تحصى، لكن هذه العطاءات كلها جمعت في كلمة واحدة، إنها رحمة الله، لهذا الله عز وجل حينما يتحدث عن الرحمة يصفها بأنها من عطاءات المؤمنين.

 

﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ﴾

[ سورة الفرقان ]

 ليغيثهم به، رحمة الله واسعة، تبدأ من الأشياء المادية، وتنتهي بالقرب من الله، وهو أعلى مرتبة ينالها الإنسان، وقد ورد في بعض الأحاديث:

(( سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ))

[مسلم من حديث عبد الله بن عمرو]

 هو الوسيط الأول والأخير بين العباد وربهم:

((سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ))

الكوثر نهر في الجنة و هو عطاء الله لمن آمن به :

 إذاً

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 المطلق في القرآن على إطلاقه، قد أفهمها صحة، قد أفهمها كفاية، قد أفهمها زوجة صالحة، تسرك إن نظرت إليها، تحفظك إذا غبت عنها، تطيعك إن أمرتها، قد أفهمها توفيقاً في العمل، قد أفهمها عملاً صالحاً، قد أفهمها قرباً من الله، فالمطلق على إطلاقه،

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 طبعاً بعض المفسرين قالوا: هو نهرٌ في الجنة، هذا لا يمنع، لأن القرآن حمالُ أوجه، أي القرآن كلام الله، لا يمكن لإنسان أن يحيط به، لكن كل إنسان ـ إن صحّ التعبير ـ يعيش مع القرآن حالات إيمانية.
 لذلك أحد كبار العلماء حينما فسر القرآن، سماه خواطر إيمانية، أنا تأتيني خواطر حول هذه الآية، أنا لا أستطيع أن أسميها تفسيراً، التفسير أكبر من هذا بكثير، والعلماء أكثرهم يقولون: نحن لنا اجتهادات في فهم هذه الآيات، إذاً هذه الآية لها معان مطلقة، الخير الكثير، بكل أنواعه المادي، والمعنوي، والإيماني، فالعلم خير كثير، والفهم خير كثير، والحكمة خير كثير، والرحمة خير كثير، والقرب من الله خير كثير، وتقصي الأشياء الصالحة في السلوك خير كثير، إذاً

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

أي عطاءٍ موجهٍ إلى النبي الكريم لكل مؤمنٍ من هذا العطاء نصيب :

 طبعاً الآن هناك ملاحظة، هناك من يتوهم أن هناك عطاءات تخص النبي عليه الصلاة والسلام، أنا مع هذا القول، لكن مع التحفظ، أي عطاءٍ فيما يبدو موجهٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكل مؤمنٍ من هذا العطاء نصيب، لكن هذا النصيب بقدر إيمانه، وإخلاصه، فإذا قال الله عز وجل لنبيه الكريم، لسيد الخلق وحبيب الحق، لسيد ولد آدم:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 ولأي مؤمنٍ إن شاء الله له، يمشي على نهج النبي، ويستقي من النبي منهجه، له من هذه الآية نصيب:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 أي للمؤمن، الله عز وجل قال:

 

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

[ سورة السجدة]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة القلم ]

 فالمؤمن له عطاء من الله كبير، هذا العطاء ملخص بكلمة

﴿ الْكَوْثَر ﴾

 له منها نصيب بقدر إيمانه وإخلاصه، أما الآية فيما يبدو موجهة إلى سيد الخلق وحبيب الحق، والنبي الكريم كما قلت:

(( سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ))

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

الأستاذ جمال:
 دكتور ألا تعتقد أنت سماحتك،

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 والنعمة العظيمة التي أُعطيها الإنسان في حياته، والتي هي الملاذ، ألا وهي نعمة الإيمان.

 

نعمة الإيمان أعظم نعمة على الإطلاق :

الدكتور راتب :
 هذه أعظم نعمة، لأن الإنسان المؤمن عرف الله، إن عرفته عرفت كل شيء، وإن فاتتك معرفة الله فاتك كل شيء، الله عز وجل هو كل شيء، إلهنا، وربنا، وخالقنا هو الله، فإذا وصلت إليه وصلت إلى كل شيء، وإن فاتتك هذه الصلة فاتك كل شيء.

(( ابن آدم اطلبنِي تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء ))

[ تفسير ابن كثير]

 ولا أنسى هذه الكلمات، يا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ من هنا يقول الله عز وجل في بعض الآثار القدسية:

(( إني والإنس والجن في نبأٍ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي، وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليَّ بالمعاصي، وهم أفقر شيءٍ إليَّ، من أقبل عليَّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها))

[ رواه البيهقي والحاكم عن معاذ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء ]

(( عبدي خلقت لك ما في السماوات والأرض، ولم أعيَّ بخلقهن، أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كل حين؟ لي عليك فريضة، ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ))

[ ورد في الأثر ]

الأستاذ جمال:
 إذاً، نفهم دكتور محمد راتب النابلسي من حديثكم أن التجارة مع الله رابحة.

 

التجارة الرابحة هي التجارة مع الله عز وجل :

الدكتور راتب :
 أربح شيء، بل إن الله يريد أن نربح عليه، قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الصف ]

 أربح شيءٍ أن تتاجر مع الله، تعطي الشيء القليل، وتأخذ الكثير الكثير، فلذلك البطولة أن تعرف الله، وأن تعرف كيف تتاجر معه، أن تعرف أن الله خلقك لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وأن هذه الدنيا لا قيمة لها، إلا إذا كانت مناسبةً لمعرفة الله، فالدنيا من دون معرفة الله لا شيء إطلاقاً، ضياعٌ بضياع، وضائقةٌ بضائقة، ولكنك إذا عرفت الله فأنت أسعد الناس في الدنيا، لذلك أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها.
الأستاذ جمال:
 إذاً، أيها الأعزاء نتابع مع حضراتكم الآية الكريمة:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾

 أيها الأعزاء، لقاؤنا إذاً أسبوعي، صباح يوم كل جمعة، فيه هدىً للناس، من الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، وحتى الثانية عشرة والربع، دكتور،

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 هذا النداء لرسول الله، والمؤمن له منه نصيب، النصيب وكما تفضلت نعمة الإيمان، كيف يمكن لهذا الإنسان أن يصل حقيقةً؟ ماذا يفعل ليصل إلى الإيمان الحقيقي المرجو والمطلوب؟.

 

الإيمان يزيد وينقص فما كل إيمانٍ ينجي :

الدكتور راتب :
 أستاذ جمال، جزاك الله خيراً، الإيمان كلمة واسعة جداً، بقول الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

[ سورة البقرة ]

 معنى ذلك أن إيمانكم لا يكفي، فالإيمان يزيد وينقص، والإيمان يتجدد، فالإيمان كلمة واسعة جداً، بل إن أي إنسانٍ أقرّ أن لهذا الكون إلهاً هو مؤمن، لكن هذا الإيمان لا يجدي، لذلك يمكن أن أُقرب هذا المعنى إلى الأخوة المستمعين على الشكل التالي، دائرة كبيرة جداً، كل من أقرّ بوجود خالقٍ لهذا الكون، وربٍ له، ومسير ضمن هذه الدائرة، لذلك إبليس اللعين نفسه مؤمن، بدليل قال ربي:

 

﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾

[ سورة ص الآية: 82 ]

 آمن به رباً، وآمن به عزيزاً، إبليس اللعين نفسه آمن به خالقاً، قال له:

 

﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾

[ سورة الأعراف الآية: 12 ]

 إبليس اللعين آمن باليوم الآخر، قال:

 

﴿ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة الأعراف ]

 ومع ذلك هو إبليس.
 إذاً: ما كل إيمانٍ ينجي، فهذه الدائرة الكبيرة جداً، أي إنسانٍ أقرّ أن لهذا الكون خالقاً ضمن هذه الدائرة، لكن هذه الدائرة الكبيرة في وسطها دائرة ثانية، كل من التزم بما يؤمن، كل من أطاع الله، كل من وقف عند الحلال والحرام، كل من جعل حركته في الدنيا وفق منهج الله، كل من أطاع الله، كل من قلب إيمانه إلى عمل، كل ملتزم، كل مطبق، كل إنسان أطاع الله، دخل في الدائرة الثانية، هذه الدائرة الثانية ينجو فيها الإنسان، لكن هذه الدائرة الكبيرة والثانية لها مركز واحد، أنا أظن أن في هذا المركز الأنبياء، والمرسلون المعصومون، هناك أشخاص معصومون، وهناك مؤمنون مطبقون لإيمانهم، و مؤمنون غير مطبقين، ومن أنكر وجود الله أصلاً فهو خارج هذه الدائرة الكبرى، أصبح عندنا دائرة كبيرة جداً، خارجها من أنكر وجود الله، و داخلها من أقرّ بوجود الله، أما هناك دائرة أصغر، من طبق منهج الله، ومركز هذه الدائرة الأنبياء والمرسلون الذين عصمهم الله من أن يخطئوا.
الأستاذ جمال:
 معنى ذلك أن الإيمان إذا حصل عليه الإنسان حصل على سعادة الدنيا والآخرة:

 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه ]

 ألا نصل من خلال هذه الآية أن الإنسان إذا فقد نعمة الإيمان حقيقةً عاش تعيساً في حياته؟

 

الحياة و العيش :

الدكتور راتب :
 طبعاً لأن الله عز وجل قال:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ﴾

 هو عائش أي قلبه يخفق، رئتاه تتحركان، يمشي، يأكل، يشرب، هذا المستوى من العيش، مستوى عيش المخلوقات المتدنية، نقول له: عائش، يأكل، ويشرب، لكن:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال الآية: 24 ]

 الحياة شيء، والعيش شيءٌ آخر، تناول الطعام والشراب، هو عيش، أما معرفة الله حياة،

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾

 فالله عز وجل يدعونا لحياة نفوسنا، يدعونا لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، يدعونا لتزكية قلوبنا، يدعونا إلى خير الدنيا والآخرة، إذاً الله عز وجل يدعونا للخير، الخير الذي نُدعى إليه هو حياة، حياة حقيقية، أما أن نأكل ونشرب فهذه معيشة، والفرق واضح جداً، بين إنسانٍ عائش، وبين إنسانٍ حي، دعوة الله لنا دعوة إلى الحياة، حياة القلب، حياة النفس، حياة الإيمان، حياة المبادئ والقيم، حياة المثل، وأما دعوة غير الله عز وجل فيدعوك إلى طعامٍ وشراب، يدعوك إلى متع مادية رخيصة، لا يدعوك إلى سمو النفس.
الأستاذ جمال:
 إذاً دكتور نعود إلى ظلال الآية الكريمة التي نحن في صدد تفسيرها من سماحتكم

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ ﴾

الكوثر لا يصل المؤمن إليه إلا باتصاله بالله و اتصاله بالله يكون عن طريق الصلاة :

الدكتور راتب :
 هنا جاء الجواب، كيف أصل إلى هذا الكوثر؟ عن طريق الصلاة، عن طريق اتصال هذا الكائن الضعيف المحدود بخالق السماوات والأرض، هذا هو الدين أساساً، ويمكن أن يضغط الدين كله بالاتصال بالله، السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال الله عنه:

﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾

[ سورة مريم ]

 وكأن السيد المسيح بهاتين الكلمتين لخص الدين كله، الدين أن يكون لك اتصالٌ بالله، وإحسانٌ إلى الخلق، متصل بالله، محسن للخلق، هذا هو الدين، والدين بمفهومه الواسع والشمولي هو الحياة، الدين هو الرقي، الدين هو السلامة، الدين هو السعادة،

﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾

 لذلك:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ ﴾

 أي هذا الكوثر أيها المؤمن لا تصل إليه إلا باتصالك بالله، لذلك لا خير في دينٍ لا صلاة فيه، الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات.
الأستاذ جمال:
 ما بالك دكتور محمد راتب النابلسي، بأناس يصلون، لكن حقيقةً عندما تنظر إلى صلاتهم تجدها تحصيل حاصل، جوفاء، أو على عجالة، هكذا، أي ألا يجب أن نتعقل في هذه الصلاة؟.

 

الصلاة هي معراج المؤمن إلى رب السماوات و الأرض :

الدكتور راتب :
 والله أنا أجيبك بحديثٍ قدسي، يقول الله عز وجل:

(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وأوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي، إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فالبيه، يسألني فأعطيه، يقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، أستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها ))

[ أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب ]

 أستاذ جمال، لو أن المسلمين يصلون كما ينبغي، وكما يريد الله لهم أن يصلوا، لكنا في حال غير هذا الحال، ذلك لأن النبي الكريم يقول في الحديث الصحيح:

(( ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))

[أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس]

 لكن لو وجد هذا العدد الذي يصلي صلاةً كما أراد الله، الكلمة الدقيقة:

(( ليس كل مصلٍّ يصلي ))

 المسلمون يزيدون عن مليار وخمسمئة مليون، يعضهم قال: مليون من هؤلاء يصلون، لكن هؤلاء المليون الذين يصلون هل رافقت صلاتهم استقامة على أمر الله؟ إذا رافقت صلاتهم الاستقامة حققوا كل أهداف الصلاة، أما إذا كانت صلاتهم عبادة شكلية، لا تقدم ولا تؤخر، فعندئذٍ لا يأخذون من الصلاة فوائدها التي أرادها الله.
الأستاذ جمال:
 إذاً الصلاة هي معراج المؤمنين.

 

الاتصال بالله يحتاج إلى عملٍ صالح و استقامة :

الدكتور راتب :
 نعم، لذلك

﴿ فَصَلِّ ﴾

 إن أردت هذا الكوثر

﴿ فَصَلِّ ﴾

 هذا الكوثر العطاء المطلق، أستاذ جمال، مرة ثانية هذا الكوثر يعني كل شيء، بدءاً من كفاية، من صحة، من بيت رائع، من زوجة صالحة، من أولاد أبرار، من صحة جيدة، من سمعة كبيرة، ثم معرفة الله عز وجل، و التقرب منه، هذه كلها من أنواع الكوثر،

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ ﴾

 الكوثر يأتيك من خلال اتصالك بالله،

﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾

 بعضهم قال: انحر شهواتك، بعضهم قال: انحر الأضحية، أي اعمل عملاً صالحاً، وكأن الله أشار إلى أن الاتصال بالله يحتاج إلى عملٍ صالح، قال:

 

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

[ سورة الكهف الآية: 110 ]

 أنا أضرب مثلاً بسيطاً: مجند غر التحق بالجيش من يومين، هذه أدنى مرتبة في أي جيش بالعالم، مجند غر، طبعاً فوق المجند هناك عريف، وعريف أول، و مساعد، ومساعد أول، و ملازم، وملازم أول، و نقيب، و رائد، و مقدم، و عقيد، وعميد، ولواء أركان، ...إلخ، هل يستطيع هذا المجند الغر، الذي التحق من يومين، أن يقابل قائد اللواء أركان حرب؟ لا يستطيع، إلا في حالة واحدة، أن يرى ابنه في المسبح، يكاد يغرق فينقذه، يدخل إلى مكتبه، ويرحب به، ويقدم له الضيافة، ويجلسه إلى جنبه، لأنه قدم عملاً.
 هذا الكلام ملخصه:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

 لذلك هذا الكوثر طريقه الصلاة، وسبب الصلاة العمل الصالح،

﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾

 إما أن تنحر الشهوات، أي أن تستقيم على أمر الله، وإما أن تنحر الأنعام تقرباً إلى الله، كأن

﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾

 إما أن تعني الاستقامة، أو العمل الصالح، أو أن تعني الاستقامة والعمل الصالح معاً.
الأستاذ جمال:
 أي الإنسان ليس بحاجة إلى واسطة بينه وبين الله.

 

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 186 ]

الإنسان ليس بحاجة إلى واسطة بينه وبين الله عز وجل :

الدكتور راتب :
 لذلك القرآن الكريم طافح بآيات كثيرة، قد تصل إلى أكثر من عشر آيات:

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 219 ]

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 219]

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ﴾

[ سورة البقرة الآية: 222 ]

 أكثر من عشر آيات تبدأ بيسألونك، ويأتي الجواب، وبينهما قل، أنت المسؤول، أنت الوسيط، إلا في آيةٍ واحدة، تفضلت بها قبل قليل،

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌِ ﴾

 ليس بين العبد وبين ربه وسيط.

(( رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره ))

[ أخرجه الحاكم عن أبي هريرة ]

الأستاذ جمال:
 ألا يقودنا هذا إلى أننا كمصلين، ونؤمن بالله عز وجل، أن نحرص على عدم أذى الآخرين في أعراضهم، وفيما يمس شرفهم.

 

المصلي الحقيقي يجب أن يكون لسانه مستقيماً بكل معاني هذه الكلمة :

الدكتور راتب :
 والله أستاذ جمال، وضعت يدك على قضيةٍ خطيرة، أنا لا أصدق، ولا أؤمن، أن إنساناً أساء إلى خلق الله يستطيع أن يتصل بالله، مستحيل! يستطيع أن يقف، وأن يقرأ الفاتحة، ويركع، ويسجد، لكن لا يستطيع أن يتصل بالله، عندنا صلوات، وعندنا صلاة فيها وقوف بين يدي الله، وقراءة، وركوع، وسجود، وعندنا اتصال بالله، صلاة، واتصال، الصلاة أعمال المصلي الظاهرة، أما الاتصال حقيقة الصلة بالله، الاتصال بالله ممنوع على كل من بنى حياته على أنقاض الآخرين، بنى قوته على إضعافهم، بنى غناه على فقرهم، بنى أمنه على خوفهم، بنى حياته على موتهم.
الأستاذ جمال:
 المصلي الحقيقي يجب أن يكون لسانه مكبوحاً، مستقيماً.
الدكتور راتب :
 مستقيم بكل معاني هذه الكلمة، لأن:

(( إن الله طيِّب، لا يقبلُ إلا طيباً ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

 أستاذ جمال للتوضيح: إنسان قوي، يكون له أتباع، أتباعه لا يدقق في استقامتهم، ماداموا معه، يؤيدونه، يوالونه، فهو يقبلهم، هذا شأن الأقوياء، لكن شأن خالق الأرض والسماء ليس كذلك، لا يمكن أن يقبلك، ولا أن يُقبل عليك، ولا أن يدعمك، ولا أن يرحمك، إلا إذا كنت مستقيماً مع خلقه، لذلك الفرق كبير بين عالم الإيمان وعالم المادة، فالأقوياء أحياناً يقبلون من ينصرهم، من يواليهم، من يلتزم بمنهجهم، دون أن يكون مستقيماً مع ربه، لكن الله عز وجل لا يقبل عبداً، إلا إذا كان مستقيماً مع خلقه.
الأستاذ جمال:
 إذاً لا يستطيع الإنسان ـ ونحن أيها الأعزاء ـ أن يفسر الآية الكريمة، ويتابعها حقيقةً بكل تفاصيلها صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، لا نستطيع أن يصل إلى

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 إلا بالشيء الكثير من العمل.
 دكتور، ماذا نضيف لنصل إلى الكوثر الذي وعد به رسول الله، ونحن نتأسى برسول الله؟

 

أكبر عطاء يناله المؤمن أن الله سبحانه وتعالى هيأه لجنةٍ عرضها السماوات والأرض :

الدكتور راتب :
 في الحقيقة أستاذ جمال، هناك دنيا، وهناك آخرة، أكبر عطاء يناله المؤمن أن الله سبحانه وتعالى هيأه لجنةٍ عرضها السماوات والأرض.

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾

[ سورة الكهف ]

 الأخسرين اسم تفضيل، أي أشد الناس خسارةً:

 

﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف ]

 فالذي يعرف سرّ وجوده، وغاية وجوده، لماذا أنا في الدنيا؟ لماذا جاء الله بي إلى الدنيا؟ ماذا في الدنيا؟ ماذا بعد الموت؟ ماذا بعد يوم القيامة؟ بعد يوم القيامة هناك يوم ممدود، نحن عندنا يومٍ مفقود، الماضي، والماضي لا جدوى إطلاقاً من الحديث عنه، و يومٍ مشهود، وهو أخطر أيامنا، ويومٍ موعود، الموت، ويومٍ مورود، يوم القيامة، ويومٍ ممدود، بين يومٍ مفقود، ويومٍ مشهود، ويومٍ موعود، ويومٍ مورود، ويومٍ ممدود، وفي النهاية الإنسان إما في جنةٍ يدوم نعيمها أو في نارٍ لا ينفذ عذابها، كلام دقيق.
 لذلك

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 وأي إنسان تبعك، ومشى على منهجك، وعلى سنتك، وأطاعك فيما شرعت أنت أيها النبي الكريم، أي مخلوقٍ يتابع النبي الكريم، وقد أمرنا الله أن نطيعه، وأن نطيع رسوله، لأن السنة واجبة أيضاً، أي مخلوقٍ أطاع الله وأطاع رسوله عندئذٍ يتصل به، فإذا اتصل به جاءه الكوثر.
الأستاذ جمال:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾

البشر عند الله نموذجان لا ثالث لهما :

1 ـ رجل عرف الله فانضبط بمنهجه وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة :

الدكتور راتب :
 هذا الذي أراد الدنيا، وضع كل جهده فيها، نسي الآخرة، والحقيقة أستاذ جمال هذا يقودنا إلى تقسيم دقيق جداً، أن البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، واتجاهاتهم، كل هذه التقسيمات، أن البشر عند الله نموذجان لا ثالث لهما هذان النموذجان تؤكدهما الآية الكريمة:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل ]

 الأصل أنه

﴿ َصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 أي صدق بالجنة، صدق بالجنة فاتقى أن يعصي الله، فصدق بالجنة فعمل الصالحات،

﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 هذا النموذج الأول، لأنه

﴿ َصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 اتقى أن يعصي الله، ولأنه اتقى أن يعصي الله بنى حياته على العطاء،

﴿ َصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 واتقى أن يعصي الله،

﴿ أَعْطَى ﴾

 بكل معاني هذه الكلمة، أعطى بالمعنى الشمولي، أعطى من علمه، من وقته، من أدبه، من أخلاقه، أعطى من ماله، أعطى من خبرته، أعطى كل شيء، هذا الإنسان الرد الإلهي:

 

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل ]

 الإله العظيم ييسر لهذا الإنسان سبب وجوده، وهو السعادة في الدنيا والآخرة.

 

2 ـ و رجل غفل عن الله فتفلت من منهجه وأساء إلى خلقه فهلك في الدنيا والآخرة

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل ]

 كذب أنه مخلوقٌ للجنة، وآمن بالدنيا، لذلك استغنى عن طاعة الله، وعندما استغنى عن طاعة الله، وجد أن الذكاء لا في العطاء بل في الأخذ، فالصفات متناقضة،

﴿ َصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 فاتقى أن يعصي الله، بنى حياته على العطاء،

﴿ َكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

 فاستغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ، هذان النموذجان تندرج فيهما ملايين الملايين، هذا هو الكلام الدقيق، فالذي استغنى عن طاعة الله،

﴿ إِنَّ شَانِئَكَ ﴾

 مبغضك،

﴿ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾

 مقطوع عن هذا الخير.
 فالآية دقيقة:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾

 الخير الكثير، بكل أنواعه، بكل مستوياته، بكل شمائله،

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾

 طريق هذا الكوثر الاتصال بالله، طريق الاتصال الاستقامة على أمره، بمعنى انحر الشهوات، والعمل الصالح بمعنى انحر الأنعام تقرباً إلى الله،

﴿ إِنَّ شَانِئَكَ ﴾

 مبغضك يا محمد

﴿ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾

 هو المحروم، هو المقطوع.
الأستاذ جمال:
 إذاً في ختام هذا اللقاء نستطيع دكتور محمد راتب النابلسي أن نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن الإنسان المؤمن في حياته يجب أن يسعى بكل ما أوتي من إيمان، وعطاءٍ، وخير، وارتباط بالله عز وجل إلى الكوثر.

 

طريق الكوثر الاتصال بالله وطريق الاتصال بالله الاستقامة على أمره والعمل الصالح :

الدكتور راتب :
 هو العطاء الكبير، والمطلق في القرآن على إطلاقه، فكل إنسان يتمنى صحة جيدة من الكوثر، يتمنى رزقاً وفيراً من الكوثر، يتمنى حياة أسرية راقية من الكوثر، يتمنى سمعة طيبة من الكوثر، يتمنى دعوة إلى الله من الكوثر، يتمنى قرباً من الله من الكوثر، الخير الكثير بكل مستوياته، وأطيافه، وأنواعه، بدءاً من صحةٍ، وانتهاءً بقربٍ من الله عز وجل، طريق هذا الكوثر

﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾

 الاتصال بالله، وطريق الاتصال بالله الاستقامة على أمره والعمل الصالح، والطرف الآخر هو المحروم.

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ جمال:
 إذاَ الله عز وجل يقول في كتابه العزيز:

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾

 أيها الأعزاء، في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الذي أفاض وأجاد في شرح هذه الآية الكريمة، دكتور أسعدتنا هذه اللقاءات الإيمانية التي تضفي عليها الخير الكثير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور