وضع داكن
20-04-2024
Logo
الندوة : 11 - تفسير قوله تعالى في سورة التكاثر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ جمال:
 الحمد لله رب العالمين، وأفضل السلام وأتم التسليم على سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأعظم، والحبيب الأجل الأكرم، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
 أيها الأخوة والأخوات، بالخير طابت أوقاتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم، وندعوكم لمتابعة هذه الحلقة المتجددة من لقائنا الأسبوعي، يوم الجمعة صباحاً، من الحادية عشرة والنصف وحتى الثانية عشرة والربع: "فيه هدىً للناس"، الله عز وجل يقول في سورة التكاثر:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

[ سورة التكاثر ]

 أيها الأعزاء، دائماً عندما نتحدث عن تفسير الآيات الكريمة، نتوجه إلى أصحاب الاختصاص، يسعدنا أن نلتقي فضيلة الشيخ دكتور محمد راتب النابلسي، دكتور السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
الدكتور راتب:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أستاذ جمال، جزاك الله خيراً.
الأستاذ جمال:
 بارك الله فيك، دكتور،

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

 أي شغلكم عن طاعة ربكم

﴿ التَّكَاثُرُ ﴾

 كما في كلمات التفسير تقول: التكاثر التباهي بكثرة نعم الدنيا، من أين نبدأ في تفسير هذه الآية التي لها مدلولات عظيمة في كتاب الله جلّ جلاله؟

 

الإنسان خلق للجنة و العمل الصالح ثمن دخولها :

الدكتور راتب:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أحرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
 أستاذ جمال، جزاك الله خيراً، هذه السورة تبتدئ بالآية الكريمة،

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

 ألهاكم من اللهو، واللهو أن يلتهي الإنسان بالشيء الخسيس، وأن يدع النفيس، كأن يلتهي الغواص بجمع الأصداف، ويُعرض عن جمع اللآلئ، وفرقٌ كبير بين ثمن الأصداف وثمن اللآلئ.
 فالإنسان إذا جاء إلى هذه الدنيا، جاء إليها من أجل أن يعرف الله، من أجل أن يستقيم على أمره، من أجل أن يتقرب إليه، ليكون عمله الصالح ثمن دخول جنةٍ عرضها السماوات والأرض، فيها:

((ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ))

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة]

البشر عند الله نموذجان لا ثالث لهما :

 الإنسان خلق للجنة، والبطولة أن هؤلاء البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، واتجاهاتهم، وتياراتهم، هم عند الله نموذجان لا ثالث لهما، نموذج أول عرف الله، وعرف منهجه، فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم، وسعد في الدنيا والآخرة، ونموذجٌ آخر غفل عن الله، وغفل عن منهجه وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه فشقي، وهلك في الدنيا والآخرة، ولن تجد نموذجاً ثالثاً، فهذا الذي شُغل بالفاني عن الباقي، بالدنيا عن الآخرة، بالمتعة عن الأعمال الصالحة، بالانغماس في الملذات عن طلب العلم، هذا الذي غفل عن الآخرة، بل غفل عن سرّ وجوده، وغفل عن غاية وجوده، وغفل عن منهج ربه، ولم يسأل هذا السؤال الخطير، لماذا أنا في الدنيا؟ والشيء الدقيق أستاذ جمال، أن الإنسان إذا عرف سرّ وجوده، صحت حركته، فلو سافر إنسان إلى بلد أجنبي، وقال: إلى أين أذهب؟ نسأله نحن لماذا أتيت إلى هنا؟ إن جئت طالب علمٍ فاذهب إلى المعاهد والجامعات، وإن جئت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات، وإن جئت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات، فحركة الإنسان في الدنيا لا تصح إلا إذا عرف سرّ وجوده، ذلك أن الإنسان كائن متحرك، ما الذي يحركه؟ حاجته إلى الطعام، والشراب، وحاجته إلى الطرف الآخر، وحاجته إلى تأكيد الذات، فحينما يعرف سرّ وجوده تصح حركته، لعلي لا أبالغ إذا قلت: إن أخطر سؤالٍ يطرحه الإنسان على نفسه أن يقول: لماذا أنا في الدنيا؟ لا تصح حركته، ولا ينجح، ولا يتفوق، إلا إذا عرف سرّ وجوده، للتقريب: لو أن طالباً ذهب إلى باريس لينال دكتوراه، هذه المدينة المترامية الأطراف، العملاقة، فيها معامل، منشآت، فيها جسور، فيها حدائق، فيها نوادٍ ليلية، فيها جامعات، هذه المدينة العملاقة لهذا الطالب هدفٌ واحدٌ فيها أن ينال الدكتوراه، فإذا عرف هذا الطالب سرّ وجوده في هذه المدينة حقق هدفه.

من شغل بالدنيا عن الآخرة وعن الهدف الأكبر الذي خلق من أجله خسر الدنيا و الآخرة :

 المؤمن يعلم علم اليقين أن الله خلقه في الدنيا ليعرفه، والدليل:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات ]

 والعبادة طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفةٌ يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فهذا الذي ألهاه التكاثر، أي شُغل بالفاني عن الباقي، بالمتعة عن العمل الصالح، بالدنيا عن الآخرة، بشيءٍ ينتهي عند الموت، وغفل عن شيءٍ ينفعه بعد الموت، فالآية دقيقة جداً، ولها معان عميقة جداً، ويحتاجها كل إنسان،

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

﴿ أَلْهَاكُمُ ﴾

 أي جعلكم تغفلون عن سرّ وجودكم، وعن غاية وجودكم، وعن الهدف الأكبر الذي خلقتم من أجله، بهذه الطريقة غفلتم عما يسعدكم، ما يسلمكم، ما يرفعكم إلى أعلى عليين، شغلتم بالدنيا فتركتم الآخرة، والدنيا محدودة، والآخرة أبدية، وفرقٌ كبير بين الأبدي وبين الوقت المحدود.
 أستاذ جمال، أكبر رقم تتصوره إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر، واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، كل ميلي صفر، هذا الرقم المذهل الذي يصعب للعقل تصوره إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر،

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

 أي ألهتكم هذه الدنيا الفانية، بمتعها الرخيصة، بحطامها، بمالها، بنسائها، بمباهجها، بقصورها، بمركباتها، ألهتكم عن حياةٍ أبدية، فيها:

((ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ))

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة]

 هذا الذي أراد الله جلّ جلاله أن يقوله لنا.
الأستاذ جمال:
 دكتور محمد راتب النابلسي، لطالما نحن نتحدث عن سورة التكاثر

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

 تفضلت بمقدمة فيها، كل معاني هذه الآية كمقدمة، لكن هل منعنا الدين أن نستمتع ونمتع في هذه الحياة؟.

 

قيمة الإنسان بما يحمل من رسالة :

الدكتور راتب:
 معاذ الله! الجواب:

(( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعاً، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة))

[الديلمى وابن عساكر عن أنس]

 أنا ما قصدت أبداً أن هذه الآية تعني أن ندع الدنيا، العمل عبادة، أن يكون لك حرفة عبادة، أن تخدم بها أمتك عبادة، أن تكون مكتفياً عبادة، أن تكون يدك هي العليا عبادة، أن يكون لك بيت وأهل وأولاد عبادة، أن يكون لك عمل تعتز به عبادة، أنا ما أردت هذه المعاني إطلاقاً، حينما ننسى الآخرة، ولا نعبأ بها، وننسى سرّ وجودنا، وغاية وجودنا، حينما نتحرك من أجل شهوتنا فقط، لا من أجل هدفٍ كبير، الإنسان قيمته بما يحمل من رسالة، هناك إنسان يأكل، ويشرب، ويعيش، وانتهى عند الناس وعند الله، لكن هناك إنسان يحمل همّ أمته، يحمل همّ المسلمين، يحمل همّ الحق، يحمل همّ الناس جميعاً، فهذا الذي يحمل همّ الناس جميعاً عند الله كبير، لأنه خرج من ذاته الضيقة إلى الخلق، والأنبياء لماذا هم أسعد البشر؟ لأنهم بكوا على أعدائهم.

(( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ))

[ أخرجه الحاكم، عن أبي الدرداء ]

الأستاذ جمال:
 هذه هي الرحمة.

 

الإنسان كلما كبر عند الله يحمل همّ أمته :

الدكتور راتب:
 نعم، لذلك كلما ارتقى الإنسان عند الله امتلأ قلبه بالرحمة، وكلما امتلأ القلب بالرحمة عمت هذه الرحمة من حوله، فالإنسان كما قال الله عز وجل يصف إبراهيم عليه السلام قال:

﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾

[ سورة النحل الآية: 120 ]

 والإنسان كلما كبر عند الله يحمل همّ أمته، يحمل همّ الفقراء، يحمل همّ المتعبين، همّ المرضى، فإذا عاش الإنسان بمبادئه وقيمه حمل همّ من حوله، وإذا عاش لذاته، وكان أنانياً، هذا الذي يبغضه الله عز وجل، ولا ينظر إليه.
الأستاذ جمال:
 هناك من الناس دكتور محمد راتب النابلسي من يدّعي الزهد، وحقيقة الزهد كما تعلمنا من سيادتك، ليس الزهد ألا تملك الدنيا، ولكن الزهد ألا تملكك الدنيا، هل معاني هذه الآية الكريمة

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

 تبعدنا أم تقربنا من الزهد؟.

 

الزهد أن ينقل الإنسان الدنيا من قلبه إلى يديه :

الدكتور راتب:
 والله الزهد بالمعنى الذي أراده الله، الله عز وجل أراد لك أن تعرفه، وأن تسعى لـ:

﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾

[ سورة آل عمران الآية: 133 ]

 لكن النقطة الدقيقة في هذا الموضوع، أن ثمن الجنة هو العمل الصالح، والعمل الصالح يحتاج إلى علم، أو إلى مال، أو إلى قوة، فالعمل من أجل أن تكون قوياً، إما بمالك، أو بعلمك، أو بمنصبك، هذا من أجل العمل الصالح، لأن حجمك أستاذ جمال عند الله في النهاية بحجم عملك الصالح، والعمل الصالح يحتاج إلى بذل، أي هذا المتعلم، العالم، أكبر عمل صالح له إلقاء العلم، وهذا الغني أكبر عمل صالح له إنفاق المال، وهذا القوي أكبر عمل صالح له إحقاق الحق، أو إبطال الباطل.
 فلذلك الإنسان لا قيمة له من دون عملٍ صالحٍ يرقى به، والعمل الصالح يحتاج إلى قوة، لذلك ليس معنى الزهد في الإسلام أن تدع الدنيا، بل أن تنقلها من قلبك إلى يديك، معنى الزهد أن تنقل الدنيا من قلبك إلى يديك، لذلك قال تعالى:

﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾

[ سورة النور الآية: 36 ]

 ثم يقول:

﴿ رِجَالٌ ﴾

[ سورة النور الآية: 37 ]

 أي أبطال.

 

الإنسان لا قيمة له من دون عملٍ صالحٍ يرقى به :

 بالمناسبة أستاذ جمال، كلمة رجل في القرآن الكريم والسنة لا تعني أنه ذكر، تعني أنه بطل، الذكر شيء، والبطل شيء، قال:

﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾

[ سورة النور الآية: 37 ]

 إذاً هم يتاجرون، ويبيعون ويشترون، إنسان لا يعمل لا قيمة له، قيمتك ما تحسن، بل إن سيدنا علي يقول: "قيمة المرء ما يحسن"، فأنت تحتل مكانةً في مجتمعك بقدر إتقانك لصنعتك.
الأستاذ جمال:
 دكتور محمد راتب النابلسي، هل لنا أن نُذكر الأخ المستمع بمواقف من حياة الصحابة، والتابعين، وآل البيت فيها زهد، فيها الناس الذين عرفوا حقيقة هذه الآية الكريمة:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

 هل لنا أن نضع الأخ المستمع بأمثلة ونماذج تدل على هذا الزهد؟.

 

الانتماء إلى المجموع من علامة تقدم المجتمعات :

الدكتور راتب:
 سيدنا عمر يقول: "إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني".
 لأن الله سبحانه وتعالى أرادك أن تتقرب إليه بماذا؟ بعملٍ صالح، كيف يكون العمل صالحاً؟ إذا كنت في مجتمع إذا كنت عالماً تُعلم، قوياً تنصر، غنياً تعطي، فالعمل الصالح هو سرّ وجودك، لا عمل صالح من دون تفوق، فالمتفوق له عمل صالح، إن بعلمه، أو بماله، أو بقوته، فلذلك إنسان ينسحب من الحياة ليس مؤمناً، الإيمان ليس موقفاً سلبياً، أو إعجاباً سلبياً، ليس لنا علاقة، ليس لنا دخل، ليس هذا إيماناً، الإيمان أن تكون إيجابياً، أن تسهم بشكلٍ أو بآخر في خدمة أمتك، أن تسهم في تخفيف الآلام عن أمتك، أن تسهم في رفعة شأنها، أن تسهم في قوتها، أن تسهم في عزتها وكرامتها، لذلك الإنسان الذي لا ينتمي إلى المجموع، هذا إنسان ناقص، من علامة تقدم المجتمعات الانتماء إلى المجموع.
 أنا أضرب مثلاً دائماً: لو أن إنساناً اضطجع تحت شجرة تفاح، وقد قطفت، إلا أن الذي قطفها نسي تفاحةً كبيرةً جداً، ورائعة اللون، هذا الذي استلقى تحتها، اشتهى هذه التفاحة، ومعه منشار شجر، فقص الشجرة من أجل تفاحة، هذا الإنسان لا ينتمي إلى المجموع، أما الذي ينتمي إلى المجموع لا يمكن أن يقطع شجرة من أجل تفاحة، هذا مثل صارخ طبعاً.
 أنا أقصد أن الإنسان حينما يُغلّب مصلحة أمته على مصلحته الشخصية ينتمي لهذه الأمة، أما إذا غلّب مصلحته الشخصية على مصلحة أمته يكون هذا لا ينتمي إليها إطلاقاً.
الأستاذ جمال:
 الإنسان دكتور النابلسي في حياتي، وفي مجتمعي، أنت تقول: الإنسان يجب أن يهتم بالمجموع، وبالجماعة، لأن يد الله عز وجل فوق الجماعة، أو مع الجماعة، كيف نتحدث عن ترشيد الطاقة؟ الإنسان الذي يبذر، الذي يسرف، الذي يبتعد عن حقيقة أو عن مبدأ أنه ليس لنا دخل، يا أخي الكهرباء متوفرة، والماء متوفر، هناك كلام جميل، يندرج ضمن هذه الآية الكريمة؟

القيم الحضارية أصلٌ في ديننا الإسلامي :

الدكتور راتب:
 أنا أقول لك أستاذ جمال: مع الأسف الشديد، هناك قيمٌ سبب قوة الغرب، الشيء المؤسف جداً أن هذه القيم أصلٌ في ديننا، فترشيد الاستهلاك هذا أمر إلهي:

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾

[ سورة الأعراف الآية : 31 ]

 ترشيد الاستهلاك، الانتماء للمجموع، العمل المؤسساتي، فريق العمل، إدارة الوقت، إدارة المال، إدارة الذات، أي ترشيد الاستهلاك، هناك قيم رائعة تجدها في أعلى درجة عند الغربيين، وهي سبب قوتهم، وهي أصلٌ في ديننا، ولو عدنا إلى هذا الدين العظيم لوجدنا هذه القيم التي تسمى الآن القيم الحضارية هي سبب تقدم الجماعات، ونحن في أمس الحاجة إليها، ولا نحتاج أن نستوردها من الغرب، إنها جزءٌ من ديننا، منها ترشيد الاستهلاك،

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾

 ما قال تعالى: لا تسرفوا في الطعام، والشراب، قال لك:

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾

 ولا تسرفوا في أي شيء، في أي شيء مطلقاً.
الأستاذ جمال:
 حتى الفلاح الذي يسقي أرضه حالياً، عندما يستخدم أسلوب سقاية المزروعات بالتنقيط يوفر الماء، هذا أيضاً من الدين الحنيف.

 

ترشيد الاستهلاك حضارة :

الدكتور راتب:
 أريد أن أقول لك كلمة: الآن هناك دول قوية، لا تعطي قروضاً لدول نامية إلا إذا استخدمت الري بالتنقيط، أما الري بالغمر، وبالتسييح، نستهلك عشرة أضعاف كمية الماء، لذلك هناك دول الآن قوية لا تمنح القروض لدول ضعيفة، إلا إذا استخدمت الري بالتنقيط، الري بالتنقيط يمنعنا من النباتات الضارة، الري بالتنقيط نحتاج إلى عُشر الماء الذي نستهلكه بالري بطريقة أخرى فهذا من ترشيد الاستهلاك.
الأستاذ جمال:
 إذاً قال الله عز وجل ونحن في صدد هذه الآية الكريمة:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

 هذه الآية تبعث فينا الحياة، تقول:

﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

 تذكرنا الآية بأن انطلقوا إلى الحياة الحرة الكريمة.
الدكتور راتب:
 كلمة صغيرة قبل أن نتابع، لو أطفأ كل مواطن في سورية مصباحاً واحداً لاستغنينا عن مولدة للطاقة، قيمتها خمسمئة مليون دولار، واستهلاكها في العام من الغاز خمسمئة مليون أيضاً، مليار دولار، إذا أطفأ المواطن مصباحاً واحداً لا يحتاجه، فترشيد الاستهلاك حضارة.
 أريد أن أقول لك كلاماً قد لا يصدق: العالم الغربي الغني، القوي، يستخدم نصف الماء الذي نستخدمه نحن، وعنده كل شيء، هناك ترشيد، لو أن صنبوراً معطلاً هذا قد لا تصدق يستهلك مئات الأمتار المكعبة في الشهر، و نحن لا نشعر، لذلك ترشيد استهلاك الطاقة، ترشيد استهلاك الماء، والكهرباء، والوقود، هذه حضارة، وهذه دين، وهذه اقتصاد، وهذه حيوية بالأمة، المشكلة نحتاج إلى وعي.

 

ملاحظات دقيقة حول قلة الوعي في الدول النامية :

 أنا وقد فتحت هذا الموضوع لي ملاحظات دقيقة: عندنا أمراض وبيلة، من هذه الأمراض مرض يصيب الدم، هذا المرض مشكلته أنه لا يكون إلا إذا تزوج إنساناً مصاباً بهذا المرض مع امرأة مصابة، يأتي ولد مصاب، لو أجرينا فحصاً قبل الزواج، لألغينا هذه المشكلة، بإيطاليا هناك أربع حالات من التليسيما، مرض يصيب الدم، هذا يكلف كل ولد أربعمئة أو خمسمئة ألف تبديل دم أسبوعياً، عندنا ألفا مصاب في سوريا، من ضعف الوعي فقط، لو أجرينا فحصاً قبل الزواج، لاختفى هذا المرض، هذا المرض لا يأتي إلا من زوج وزوجة مصابين، لو الزوج فقط لا يوجد مشكلة إطلاقاً، الزوجة فقط لا يوجد مشكلة، لو أجرينا فحصاً استغنينا عن ألفي حالة، يكلفون تقريباً مبالغ ليس من المعقول أن تصدقها ميزانيات دول، ثمن دم كل أسبوعين، المرض اسمه تليسيميا، هذا يصيب الدم، إذا فحصنا هذا الزوج والزوجة، إذا أحدهما مصاب لا يوجد مشكلة، أما إن كان الاثنان مصابين فلا يوجد زواج فقط، التغى المرض، فبلد مثل إيطاليا، فيها سبعون مليوناً، عندها أربع حالات، سوريا فيها ثمانية عشر مليوناً، عندها ألفا حالة، من ضعف الوعي، نحن عندنا مشكلة غير الفقر وهي قلة الوعي.
 الآن مثلاً: مرضى السكر أستاذ جمال، يتطور مرض السكر إلى عمى، وإلى شلل، وإلى أمراض وبيلة جداً، في بلاد المسلمين أربعة وخمسون بالمئة من مرضى السكر يتحولون إلى هذه المضاعفات الخطيرة، في ألمانيا قرأت إحصاء أربعة بالمئة فقط يتحولون من مرض السكر العادي إلى مضاعفاته، وعي، الآن نحن الحديث عن الوعي فقط، فقراء أغنياء ليس مشكلة، المشكلة مشكلة وعي، لو فحصنا زوجين قبل الزواج لاستغنينا عن أمراض لا تعد ولا تحصى.
الأستاذ جمال:
 دكتور حق زواج الأقارب، أي له بنت عم، بنت خالة، التحليل قبل الزواج من الدين.
الدكتور راتب:
 يضعف، أجروا تجربة في أمريكا، فثبت لهم أن نفقات تلقيح الشعب بأكمله أقل من نفقات معالجة الأمراض الناتجة عن عدم التلقيح، تلقيح الشعب بأكمله، اثنا عشر لقاحاً، كلفة اللقاحات اثنا عشر لقاحاً لكل طفل، مجموع أمة بأكملها، كلفة هذا التلقيح الجماعي الكامل أقل من معالجة أمراض ناتجة عن عدم التلقيح، فالقضية الآن قضية حسابات دقيقة.
الأستاذ جمال:
 أيها الأعزاء نتابع مع حضراتكم برنامج "فيه هدىً للناس"، الذي يأتيكم يوم الجمعة صباحاً، من الحادية عشرة والنصف وحتى الثانية عشرة والربع ظهراً، إذاً نحن في صدد الآية الكريمة:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

 دكتور، أين وصلنا في تفسير هذه الآية الكريمة؟.

 

آية التكاثر تتحدث لا عمن يكسب رزقه بل عمن يبتغي الجمع :

الدكتور راتب:
 الآن:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

﴿ التَّكَاثُرُ ﴾

 الإنسان في مرحلة من حياته يسعى لكسب رزقه، وضع طبيعي، وجيد، ورائع، وشيء يثنى عليه، لكن بعد أن يكسب رزقه، تنشأ عنده حالة مرضية اسمها الجمع، حقق رزقه الحقيقي، لكن الآن يريد أن يجمع، لذلك قال تعالى:

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

[ سورة الزخرف ]

 أحياناً التنافس على الجمع فقط، وهذا الجمع أحياناً ننسى ديننا، ننسى مبادئنا، ننسى قيمنا، ننسى الدار الآخرة، ننسى أخوتنا الفقراء، من أجل الجمع، فالآية تتحدث لا عمن يكسب رزقه، تتحدث عمن يبتغي الجمع،

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

 أي الجمع، أن أسأل زميلي كم ربحت هذا العام؟ يقول لك: خمسة ملايين، لا أنا عشرة، التَّكَاثُرُ بالجمع، قد يحتاج إلى مليون واحد طوال السنة، فلذلك عندما يتجاوز الإنسان مرحلة طلب الرزق إلى الجمع، يكون قد دخل بحالة مرضية، لذلك جاء هنا ذمها،

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾


 الإنسان قد يجمع أموالاً تكفيه لمئتي عام، وعمره ستون سنة، سيدع كل هذا ويمشي، لمن تركت هذا؟ لو أنه مال حلال لا يوجد مشكلة، لكن لو عصى الله من أجل هذا المال، وتركه، لذلك:

(( إن روح الميت ترفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي، يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا، كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم، فأنفقته في حله، وفي غير حله، فالهناء لكم، والتبعة علي ))

[ورد في الأثر]

 و يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ما من يوم إلا وملك الموت يتصفح في كل بيت ثلاث مرات، فمن وجده منهم قد استوفى رزقه، وانقضى أجله، قبض روحه؛ وأقبل أهله برنة، وبكاء، فيأخذ ملك الموت بعضادتى الباب فيقول: مالي إليكم من ذنب، وإني لمأمور، والله ما أكلت لكم رزقاً، ولا أفنيت لكم عمراً، ولا انتقصت لكم أجلاً، وإن لي فيكم لعودة، ثم عودة، ثم عودة، حتى لا أبقي منكم أحداً، قال الحسن: فو الله لو يرون مقامه، ويسمعون كلامه، لذهلوا عن ميتهم، ولبكوا على أنفسهم))

[ابن أبى الدنيا في ذكر الموت وأبو الشيخ عن الحسن]

الكسب والرزق :

 أستاذ جمال، الإنسان يسعى لما لا يستهلك، لذلك العلماء فرقوا بين الكسب والرزق، الرزق ما انتفعت به، الذي أكلته فقط، الذي لبسته من ثياب، البيت الذي تسكنه، السرير الذي تنام عليه فقط، هذا هو رزقك، والإنسان قد يجمع مئات الملايين، لا يستهلكها، يحاسب عليها ولا يستهلكها، الكسب شيء، والرزق شيءٌ آخر، الرزق ما انتفعت به مباشرةً، أما الكسب، حجمك المالي، الرصيد في المصرف، هذا هو الرزق، الكسب، فالكسب محاسب عليه، مع أنه لم ينتفع به، لذلك أندم الناس غنيٌ دخل بماله النار، ودخل ورثته بماله الجنة، أنفقوا هذا المال في طاعة الله فدخلوا الجنة به، هو كسبه من حرام، فدخل به النار.
الأستاذ جمال:
 ألا يجعلنا هذا نتوقف عند الذين كسبوا المال، ولنقل من وجوه حلال، فالإنسان العاقل هو الذي جمع المال من وجوهٍ حلال، وأنفقه في وجوهٍ مختلفة لمساعدة الناس، كم هي اللذة و العطاء؟.

العمل الصالح علة وجود الإنسان في الدنيا :

الدكتور راتب:
 أقسم لك بالله أستاذ جمال، أنني أقول دائماً: إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله فيجب أن تكون غنياً، يجب لماذا؟ لأن علة وجودك في الدنيا العمل الصالح، وفرص العمل الصالحة المتاحة للأغنياء ليست متاحة للفقراء، متاحٌ لك أيها الغني أن تزوج الشباب، أن تشتري البيوت، أن تؤلف الجمعيات الخيرية، أن تنفق على المساكين، أن تطعم الفقراء، أن تكسو العراة، أن ترعى الأرامل، أن ترعى الأيتام، أمام الغني فرص العمل الصالح لا تعد ولا تحصى، لذلك والله الذي لا إله إلا هو كلما التقيت بغنيٍ مؤمن، أقول له: والله ما جعلك الله غنياً إلا لتصل بمالك إلى أعلى درجات الجنة، الغنى شيء محبب، الغني المؤمن من أروع ما يكون، هذا المال يأخذ منه حاجته، والباقي ينفع به الأمة.
الأستاذ جمال:
 خاصةً سيدي أن:

(( ما عُبد الله بأحب من جبر الخواطر ))

[ورد في الأثر]

الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :

الدكتور راتب:
 طبعاً، أحياناً غني ينشئ مستشفى، مستوصفاً، مدرسة، أعرف أغنياء والله لا أنسى هذا الغني، أنشأ أبنية ثلاث، البناء، الطابق ستون متراً، أجّره للشباب بألفي ليرة، ثمن الإيجار عشرون ألفاً، إيجار رمزي كي يشجع الزواج.
 أنا أقول لك أستاذ جمال: الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، والله هناك أعمال صالحة لا تعد ولا تحصى، والله أنا أغبط الأغنياء على أن الله أعطاهم مالاً بإمكانهم أن يصلوا به إلى أعلى درجات الجنة، والأعمال الصالحة التي أمام الغني لا تعد ولا تحصى.
 الآن أحياناً فرضاً بعض الأغنياء إذا رأوا طالباً متفوقاً، يبعثون به للدراسة العليا على حسابهم، ماذا فعلوا؟ جلبوا للأمة عالماً، لأن الأعداء مهمتهم قتل العلماء، في العراق تمّ قتل ثلاثة آلاف وتسعمئة عالم، أرادوا أمةً بلا علماء، أمةً جاهلة، أمة قطيع، لذلك الآن البطولة أن نشجع طلاب العلم، أن ندعمهم ببعثات خارجية، لأن قوتنا بعلمائنا، فلذلك العلم فريضة الآن، الأمة الضعيفة أهم شيء عندها العلم، قد نأتي بخبير يكلفنا راتب مئة ضعف عن مواطن عندنا، يأخذ مئة ضعف، وقد لا ينصحنا.
الأستاذ جمال:
 وهذا المواطن هو أخلص لأمته، إذاً:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

الحياة الدنيا فرصة ذهبية للإنسان ليعمل عملاً يؤهله لحياة أبدية :

الدكتور راتب:
 كلمة مقابر أي: إنسان أصبح معه مئات الملايين، ثم ماذا بعد الغنى؟ القبر، استمتع بالحياة إلى أقصى درجة، ثم ماذا بعد الاستمتاع؟ القبر، القبر ينهي كل شيء، ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، ينهي صحة الصحيح، ومرض المريض، ينهي وسامة الوسيم، ودمامة الدميم، الموت ينهي كل شيء، فأنت في الحياة الدنيا أمامك فرصة ذهبية لا تعوض، لتعمل عملاً في هذه الحياة تؤهلك لحياة أبدية، فهذا المعنى غاب عن معظم الناس واشتغلوا بالملذات الفنية، يأتي ملك الموت، ما قدم ولا عمل لآخرته، هذه المصيبة الكبرى، لذلك:

﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾

[ سورة الزمر ]

الأستاذ جمال:
 وقال تعالى:

﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾

[ سورة الصافات ]

الدكتور راتب:
 أن تخسر الآخرة خسرت كل شيء، أما الدنيا فقد تعوضها في الآخرة.
الأستاذ جمال:
 إذاً الحديث فيه غنى دائماً من خلال الأمثلة، دكتور محمد راتب النابلسي تحدثت أنت عن غنى الغني في سلفنا الصالح، في أيام الصحابة والتابعين، وأهل البيت، هناك أمثلة تدل على سخائهم، على عطائهم، على بذلهم، لبناء أمتهم آنذاك، كيف نحن في هذه الأيام نسلك هذا السبيل لنصل إلى سعادة الدنيا والآخرة؟

 

أنواع الفقر :

الدكتور راتب:
 سيدنا عثمان قال عنه النبي الكريم:" والله ما ضرّ عثمان ما فعله بعد اليوم ـ جهز بماله وحده جيشاً ـ قال: "والله ما ضرّ عثمان ما فعله بعد اليوم".
 سيدنا الصديق أنفق كل ماله، فقال له النبي الكريم: "يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله".
 أنا أقول أستاذ جمال: هناك ثلاثة أنواع للفقر، هناك فقر القدر، إنسان معه عاهة، هذا فقير، معه عاهة دائمة، صاحب هذا الفقر معذور، دعك منه، هناك فقر الكسل، كسول لا يعمل، لا يتقن، لا يلبي حاجة الناس، لا ينضبط بالمواعيد، هذا فقير أيضاً، هذا فقر الكسل فقر قذر، وهناك فقر القدر، وهناك فقر يعد وسام شرف، فقر الإنفاق:" يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله".
 ففقر الإنفاق هذا وسام شرف، فقر القدر صاحبه معذور، أما فقر الكسل فصاحبه مذموم.
الأستاذ جمال:
 سيدنا عبد الرحمن بن عوف أيضاً ضرب أمثلةً رائعة في البذل، والعطاء.

الصدقة الجارية صدقة كبيرة تستمر إلى يوم القيامة :

الدكتور راتب:
 يبدو أنه سمع مرةً كلمة، أنه سوف يدخل الجنة حبواً ـ زحفاً ـ فقال: والله لأدخلنها رملاً، وما عليَّ إذا كنت أنفق مئةً في الصباح فيأتيني الله ألفاً في المساء، سأدخلنها خبباً.
 أحد الصحابة قال: حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي، هذا الصحابي الجليل رسم للمال عند المسلم هدفين كبيرين، حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي.
 كم زرت مستشفى أسسها إنسان، وتوفي هذا الإنسان، وإلى الآن تبقى تستقبل المرضى والمصابين، هناك مياتم، ومستشفيات، ومستوصفات، ومعاهد شرعية، و تعليم، و تأليف كتب، الصدقة الجارية صدقة مذهلة، تستمر إلى يوم القيامة.
الأستاذ جمال:
 إذاً نعود إلى ختام هذه الآية دكتور، ماذا تقول؟

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

أندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً :

الدكتور راتب:
 والله كأن الله عز وجل لا يريدنا أن نهتم بالتكاثر، بجمع الدرهم والدينار، يريدنا أن نهتم بالعمل الصالح، لأنه سبب دخول الجنة، وأنا أقول مرة ثانية: ما جعل الله الغني غنياً إلا ليصل بماله إلى أعلى درجات الجنة، فبين أن تجمع المال من حله ومن غير حله، وبين أن تكنزه، أي من هو الغني والبخيل؟ هو الذي عاش فقيراً ليموت غنياً، وما أكثرهم، أحمق.
الأستاذ جمال:
 دكتور، أنا سؤالي هنا تستوقفني حالة في بعض المجتمعات، إنسان يصلي، يحج بيت الله الحرام، يصلي خلف الإمام، وعنده عائلة وأهل، وغني، ولكنه بخيل، البخل كالذي جمع المال كما قلت بداية حديثك هو مرض جمع المال، أيضاً البخل مرض، وما أقبح هذا المرض.
الدكتور راتب:
 سيدي أستاذ جمال، جزاك الله خيراً، ما تقول في الورم الخبيث؟ مرض خطير، مرض مميت، صدق ولا أبالغ، إذا كان الورم الخبيث مرضاً كبيراً جداً، ومميتاً، يصيب الجسم، فالشح لا يقل عنه، مرضٌ خبيث، يصيب النفس، الشحيح مريض، الشحيح أحمق، لأنه جمع المال وكنزه، وسوف يتركه، أندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، وهؤلاء الورثة وقد يكونوا بعيدين عن الحق، يتلفون مال أبيهم، لذلك أندم الناس من دخل النار بماله.
الأستاذ جمال:
 وما بالك بأحد الأشخاص توفي والده، وترك له المال الوفير، والأطيان، والعقارات، وظلم أخوته في التوزيع من هذه التركة، هذا من جماعة

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

الابتعاد عن الظلم لأن الظلم ظلمات يوم القيامة :

الدكتور راتب:
 نعم، لكن سبحان الله أستاذ جمال هذه للموعظة، والله عندي مئات القصص عن أسرةٍ توفي الأب، وترك أموالاً كثيرة، واغتصبها أحد الأولاد الكبار، بعد حين هذا الكبير ضيع كل المال، واشتغل عند أخوته الذين حرمهم، والله عندي عشرات القصص، هذا الابن الكبير الذي اغتصب المال كله، وأبقى أخوته جياعاً، وفقهم الله عز وجل، واغتنوا، وأتلف الله ماله، فاشتغل عندهم، الله كبير.
 صدق أستاذ جمال أقول: الله كبير، أشعر أن هذه الكلمة تحتمل معاني لا نهاية لها، الله كبير، إياك ثم إياك أيها الأخ المسلم أن تأكل مالاً حراماً، الله يتلفه.
الأستاذ جمال:

((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ))

[أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله ]

 إذاً الله عز وجل يقول في كتابه العزيز، في سورة التكاثر:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

 ماذا نقول في:

﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

أي شيء ينعم به الإنسان في الدنيا يُسأل عنه :

الدكتور راتب:
 والله

﴿ النَّعِيمِ ﴾

 أي أعطاك الله وقت فراغ، كيف استهلكته؟ أعطاك صحةً، ماذا فعلت بها؟ أعطاك مالاً، ماذا فعلت به؟ أعطاك أولاداً، هل ربيتهم؟ فأية نعمةٍ ساقها الله إليك سوف تُسأل عنها، هل شكرت الله عليها؟ هل أنفقتها وفق طاعة الله أم سخرتها لمعصية الله؟.

﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

 في بعض التفاسير قال: تُسأل عن الماء البارد يوم القيامة.
الأستاذ جمال:
 ومن العلماء من قال: يُسأل الإنسان عن أجمل ما يتلذذ به في الدنيا.
الدكتور راتب:
 نعم كل شيء، أي شيء تنعم به في الدنيا تُسأل عنه، التنعم ليس ممنوعاً عن المسلمين، لكن أن يبتغي التنعم فقط على حساب مبادئه ودينه، فهذا ممنوع.

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ جمال:
 دكتور في ختام هذا اللقاء من برنامجنا الأسبوعي "فيه هدىً للناس"، أشكر باسم السادة المستمعين الذين يتابعون هذا الحديث الشيق حول تفسير آيات من كتاب الله عز وجل الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي، في القرآن والسنة، شكراً جزيلاً لك.
الدكتور راتب:
 بارك الله بكم أستاذ جمال، جزاك الله خيراً.
الأستاذ جمال:
 أيها السادة! لقاؤنا إن شاء الله في الأسبوع القادم، حتى نلتقي نستودعكم الله.
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور