وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الفتح - تفسير الآية 28 الوازع الداخلي من الدين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الثامنة و العشرون من سورة الفتح وهي قوله تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)﴾

[ سورة الفتح ]

 ربُّنا سبحانه و تعالى في هذه الآية يبيِّن أن هذا الدين العظيم سيظهر على الأديان كلِّها، ولا شكَّ أنكم تسمعون كلَّ يوم أن عدد المسلمين في أمريكا و فرنسا و إنجلترا و الصين و الهند و اليابان و إفريقيا يتزايد في سلسلة هندسية، و قبل عامين أو أكثر احتُفِل في فرنسا بإنشاء مسجد رقم ألف، و في الجزائر أُنشِأتْ أربعة آلاف كنيسة في أثناء الاستعمار الفرنسي وأقبلتْ كلُّها إلى مساجد الآن، و في بعض بلاد الغربية عدد المسلمين يشكِّلون نسبة كبيرة بحيث أصبح دينُ الدولة الثاني هو الإسلام، و على كلٍّ لا عنينا هذه الأرقام، و إنما يعنينا شيءٌ آخر هو أن العالم شرقا و غربا عاد مقهورا من الإسلام، لا عودة تعبُّد بل لا عودة قهر، فقد جرَّب الناسُ الفردية فإذا هي مدمِّرة، فأكرموا الفرد على حساب المجتمع ففسد المجتمع و أكرموا المجتمع على حساب الفرد فسُحِق الفردُ، و العالم كلُّه شرقا و غربا عاد إلى الإسلام مقهورا لا عودة تعبُّد و لكن عودة قهر، لذلك المذاهب الو ضعية الغربية خفَّفت من غلائها و عادت إلى الوسطية الإسلامية، و المذاهب الشرقية خفَّفت من غلائها و عادت إلى الوسطية الإسلامية، و يبدو أن كلّ المذاهب الوضعية سقطتْ في الوحل و لم يبقَ في الساحة إلا الإسلام، لذلك هو يُحارَب هذه المُحاربة في شتَّى بقاع الأرض لا لأنه دين الله فحسب، بل لأن هذا الدين كشف أخطاء بقية المذاهب الوضعية.
 أضرب لكم بعضَ الأمثلة، كلُّ الأنظمة الوضعية أساسها الرابع الخارجي، ضبط المجتمع يتمُّ عن طريق أجهزة و عن طريق كواشف و عن طريق كميرات التصوير، و لو تعطَّلت هذه الأجهزة لتُم العجب العُجاب، فقد قُطِعتْ الكهرباء في إحدى الليالي في نيويورك، تمَّتْ في هذه الليلة مائتا ألف سرقة، و صارت في بعض ولايات أمريكا اضطرابات عِرقية، خسائر أعمال العنف بلغت ثلاثين مليار دولار، كُسِرت المحلَّات و سُرقت، فهذه الأنظمة الغربية أساسها الردعُ الخارجي، و لكنَّ دين الله عز وجل أساسه الوازع الداخلي، و لما سيدنا عمر قال للراعي بِعْني هذه الشاة و خذْ ثمنها، قال ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب، قال: ليست لي و إنني في أشدِّ الحاجة إلى ثمنها، و لو قلتُ لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني فإني عنده صادق أمين و لكنْ أين اللهُ ؟
 أروعُ ما في هذا الدين الوازع الداخلي، و أقلُّ ما في الأنظمة الوضعية الرادع الخارجي، هذا الذي يرى في برميل الزيت فأرةً يبيعها في اليوم التالي إلا أن يخاف اللهَ عز وجل، و في التاريخ الإسلامي قصص لا تُصدَّق، و أروع مثلٍ شهر الصيام، و لو أن هذا الشهر جاء في شهر الصيف الحارِّ و دخلتَ أنت إلى الحمَّام وحدك، و في الحمَّام صنبور ماء بارد عذب زلال، هل تستطيع أن تشرب قطرةً واحدة ؟ فما الذي يمنعك ؟ الله معك.
 أيها الإخوة، لا تنجح الحياةُ من دون دين، وهذا الذي يدخل إلى دورة المياه وهو يعمل في عجن العجين، لو أنه كان بعيدا عن الله، من الذي يضبط غسلَ يديه قبل أن يعجن العجينَ و قد كان في دورة المياه ؟ إيمانه هو الذي يضبطه، لذلك مرَّة جاءت كلمة من وزير المعارف قبل خمسين عاما، قال: كلُّ ما نملك من السلطة على المدرِّس و المعلِّم أن ندخله الصفَّ الساعة الثامنة، وهو في الصفِّ يعلِّم أو لا يعلِّم بحسب إيمانه و بحسب ضميره المسلكي، و بحسب اعتقاده أن الله يراقبه، و مراقبة الإنسان تنتهي عند إدخاله الصفَّ عند الساعة الثامنة، ثم انظُرْ إلى مدير ثانوية، كلُّ سيطرته على المدرِّسين إذا قُرِع الجرسُ يدخل المدرّسون الصفَّ، أما وهو في الصفِّ يعلِّم أو لا يعلِّم يصحِّح أو لا يصحِّح، يتابع مستوى الطلَّاب أو لا يتابع، هذا لا يكون إلا من خلال رجل مؤمن، فالحياة لا تستقيم إلا بالإيمان، كما أن المقولة الشهيرة: الحياة لا تُعاش بلا قِيَم، و الحياة لا تستقيم بلا إيمان، لأنك لو أردتَ أن تقيم على كلّ إنسان مراقب لاحتجتَ إلى مليون شرطي إذا كان عندك مليون مواطن، فإذا تواطأ هذا الشرطي مع المواطن لزمك مليون ثالث يراقب عدم التواطؤ و القضية لا تنتهي إلا أن ينموَ الوازع الداخلي، فإذا نما الوازع الداخلي حدِّث و لا حرج.
 إنسان يحمل تاجَ كسرى و يحمل سواري كسرى و قميص كسرى و يحمل متاعا يساوي اليوم مئات الملايين، دولةٌ عظمى تنهار أمام جيوش المسلمين يأتي جنديٌّ يحمل تاج كسرى وقميص كسرى و سواري كسرى كلُّه من الذهب الخالص المُرصَّع بالألماس، يحمله إلى المدينة، و يرفض أن ينطق باسمه لئلا يشكره أحد، يقول عمر: إن هذا الذي أدَّى لأمين، يقول له عليٌّ، يا أمير المؤمنين لقد عففْتَ فعفُوا و لو وقعتَ لوقعوا، فمجتمع المسلمين شيء لا يُصدَّق، و نحن نعيش أفكار الإسلام، و لا نعيش واقع الإسلام، الأمانة و الصدق و الورع و الخوف، هذا كلُّه في تاريخنا، هل تصدِّقون أن الزكاة جُبِيتْ من اليمن و لم يجد والي اليمن فقيرا يعطيه الزكاة، أرسلها كلَّها إلى عمر.
 في الحقيقة الذي يلفت نظر الناس إلى الإسلام تطبيقُه لا أفكارُه، و ذكرتُ البارحة في خطبة الجمعة أن النبيَّ عليه الصلاة و السلام يقول: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان..." قلتُ: حلاوة الإيمان شيء و منطق الإيمان شيء، أنت إن أعملتَ عقلك اهتديتَ إلى منطق الإيمان، لكنَّ منطق الإيمان لا يساوي حلاوة الإيمان، و ضربتُ مثل: لو أنه وُضع على الطاولة خرائط لقصر فخم،الطابق الأول و الثاني و الثالث، و تقسيم الغرف و تقسيم الأبهاء، و الحسابات الهندسية، ثم تزيين القصر، ثمَّ إكْساء القصر، وفرْشُهُ، والحدائق، معك مائة خريطة عن قَصْر لا يوصَف، وأنت لا تَمْلِك ثَمَن غرفة في أحد أحياء دِمشق، فرْق كبير بين أن تمتلِكَ هذه الخرائِط وبين أن تمْتَلِكَ هذا القصْر، فحَلاوَةُ لا إيمان يذوقها مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّد صلى الله عليه وسلَّم رسولاً ونبيًّا.
 حلاوَةُ لا إيمان لها شروط، قال عليه الصلاة والسلام: ثلاث مَن كنَّ فيه وجَدَ حلاوَة الإيمان..." طبعًا كلّ إنسان يقول: أنا أُحبّ الله ورسوله أكثر من أيّ شيءٍ آخر ؛ هذا كلامٌ لا يُقَدِّم ولا يؤخِّر، فالعِبْرة إن جاءَكَ أمرٌ من الله، وجاءَكَ أمرٌ من إنسان، والأمْران مُتعارضان ؛إن عصَيتَ الخالق، وأطعْتَ المخلوق، فأنت تُحبّ المخلوق أكثر مِمَّا تُحبُّ الخالق ؛ هذا كلامٌ دقيق، ولو جاءَكَ أمرٌ مِن أُمِّك أن تزورها، أمرٌ من صديقك كي تزورَهُ وادَّعيْتَ أنَّك تُحبُّ أمَّك حبًّا جمًّا، ولم تعبأ بِدَعْوة أمِّك، ولبَّيْتَ دَعوة الصَّديق فأنت تُحبُّ صديقَكَ ولا تحِبُّ أُمَّك.
وأن يحبَّ المرْء لا يُحِبُّه إلا لله، فهل تستطيع أن تُحبّ إنسانًا لا تنتفِعَ منه لا نفْعًا مادِيًّا ولا معْنوِيًّا، وقد يكون فقيرًا وضعيفًا، فأنت إن فَعَلْتَ هذا حُبًّا في الله فهذه خصْلة عظيمة، بها يُذيقَكَ الله حلاوة الإيمان.
 ثمَّ إنَّ إعْمال العَقْل في أمور العقيدة والشّريعة يُكْسِبُكَ منطِق الإيمان، ولكنَّكَ إذا أطعتَ الله عز وجل وآثرْتَهُ على كلِّ مَخلوق، وأحْبَبْتَ الناس وِفْق الولاء والبراء، وكرِهْتَ الجاهِليَّة التي كُنتَ فيها كما تكرهُ أن تُلقى في النار عندئذٍ تَذوقُ حلاوة الإيمان، فلذلك النِّظام الوّضْعي أساسهُ الرادِعُ الخارجي، وهذا قد لا يكون مُحْكمًا، فلإنسان لا يُمْكِنُ أن يُراقبَ الإنسان فإذا دخل بيته، وإلى دُكَّانِهِ لا يُراقب، فملايين المخالفات تُرْتَكَب في ظلّ الرقابة الرَّدْعِيَّة، أمَّا في ظِلّ الوازع الداخلي لا يُمكن أن يُرْتَكَب ولا خطأ لأنَّ الله مع الإنسان، وهو رقيب عليه، ويعلم سِرَّهُ ونَجْواه، فكما أنّ الحياة من دون قِيَمٍ لا تُعاش فالحياة لا تستقيم من دون إيمان، والذي ترونهُ أمامكم ؛ مُوظَّف ما الذي يمْنَعُهُ أن يأخذ ما ليس له ؟ خوف الله فقط ! فإن لم يكن الموظّف مؤمن وأمين سيَأخُذ ما ليس له، وقد لا تَكْشِفُهُ إلا في وقتٍ متأخِّرٍ جدًّا، فلذلك كما قال تعالى:

 

﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)﴾

 

[ سورة الفتح ]

 وهذه بِشارة، وقد لاحَتْ معاِلمُها، سَمِعتُ في بعض البلاد الغربيَّة أنَّ عدد المسلمين في زيادة كبيرة جدًّا، وقد وصَلوا إلى بعض المراكز، فهذا من بشائر الله عز وجل، فنحن علينا أن نسْعى لإحقاق الحق، ولِنَشْر هذا الدِّين بالحُسنى، وبالمعروف، وكفى بالله شَهيدًا فمعنى وكفى بالله شَهيدًا أنَّ أفعال الله تأتي مُطابقةً لأقواله، فهو يشْهَدُ لنا أنَّ هذا القرآن كلامهُ، فأنت تقرأ القرآن تجد أنَّ أفعال الله تأتي مُطابقَةً لأقواله، فالذي ترَكَ ذِكر الله، طاعته ؛ مَعيشَتَهُ الضَّنْك شهادة الله أنَّ هذا القرآن كلامه، وكذا إن أكلْتَ الرِّبا ومُحِقَ مالك فهذه شهادة الله على صِدق كلامه، لذلك أجمل في القرآن تأويلُهُ، وأولُهُ وُقوع الوَعد والوعيد، فتلف المال تأويل أكل مال الربا، وزكاة المال تأويل آيات الصَّدَقة، قال تعالى:

 

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)﴾

 

[ سورة الفتح ]

تحميل النص

إخفاء الصور