وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الحجرات - تفسير الآيتان 17 - 18 الكون مسخر للإنسان تعريف وتكريم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية السابعة عشرة من سورة الحجرات، وهي قوله تعالى:

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾

[سورة الحجرات]

 هذه الآية تنقلنا إلى موضوع الشُّكر، والشُّكر ينقلنا إلى موضوع آخر وهو أنَّ الله سبحانه وتعالى سخَّر لنا ما في السماوات والأرض جميعًا منه بِنَصِّ القرآن الكريم، وبآيات كثيرة جدًّا قَطْعِيَّة الدلالة، فالكون كلّه مُسَخَّر لهذا الإنسان، إلا أنَّ هذا التَّسخير نوعان ؛ تَسْخير تَعريف، وتَسخير تَكريم.
 أنت أمام كَونٍ مُسخَّر لك، فالهواء لك، والماء لك، والأزهار والأطيار لك، والأسماك لك، والزوجة والأولاد، وأنواع الطُّعوم والقوت، والفواكه فكلّ شيءٍ مُصَمَّم لك، فهذا الكون معَرَّف تعرفين، تسخير تعريف، وتسخير تَكريم، فَمِن أجل أن تعرفهُ من جِهة، ومن أجل أن تُحِبَّهُ من جهةٍ ثانيَة، فرَدُّ فِعل التَّعريف الإيمان، وردّ فِعْل التكريم الشُّكر، فإذا آمنْتَ بالله وشَكرتهُ، فقد حقَّقْت الهدف من وُجودِك، وحينما تُحَقِّق الهدف من وُجودك تتوقَّف المعالجة.
الآن الآية التي تؤكِّد هذا المعنى، قوله تعالى:

 

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾

 

[سورة النساء]

 حينما تؤمنوا، وحينما تشْكروا ما يفعل الله بعذابكم، إذًا كلّ أنواع العذاب التي يسوقها الله للإنسان في الدنيا إما لِضَعفٍ في إيمانه أو لِضَعفٍ في شُكره، قد تؤمن ولا تشكر، وقد تشْكرُ غير الله إن لم تكن مؤمنًا، تُساق المتاعب، فالمتاعب تتوقَّف فجْأةً حينما تؤمن الإيمان الكامل وحينما تشكر الله عز وجل على كلّ نِعَمِهِ.
 موضوع الشُّكر أيَّة نعمة أنت فيها ؛ نِعمة الحركة، نعمة السمع والنطق والبصر، ونعمة العقْل، ونعمة الأجهزة، ونعمة نموّ الخلايا طبيعيًّا، ونعمة الشرايين، أنت أمام أجهزة لا تُعدُّ ولا تحصى، وأنت عالَمٍ في جسمك، فقد يقول قائلٌ: كيف خُلقتَ ؟ قال تعالى:

 

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)﴾

 

[سورة المدثر]

 ما معنى بنين شُهودًا ؟ الإنسان هو المخلوق الأوّل، والوحيد المكرَّم ذرني ومن خلقتُ وحيدًا، وأيُّ إنسان له ابن يعْم عِلمَ اليقين كيف نشأ هذا الابن ‍! هُوَ نشأ بعد زواج، ونشأ بعد تلقيح، والتَّلقيح حُوَين لا يُرى بالعين خمسمائة حُوَين في لقاءٍ واحد، وهذا الحُوَين الذي لا يُرَى بالعين لقَّح بُوَيضة، وهذه البويْضة مَشَتْ في أنبوب ضيِّق من المِبْيَضِ إلى الرَّحم وفي تسعة أشهر أصبَح كائنًا، وله دماغ مائة وأربعون مليار خليَّة، وأربعة عشرة مليار خليَّة قِشْريَّة، ومائة وثلاثين مليون عُصيَّة ومخروط في العين والذَّوق واللِّسان، والقصبة الهوائيَّة، والمري، والكبد، والكليتين بِطَريق طوله مائة كيلو متر ! ابْنُكَ وحدَهُ يُعلِمُكَ كيف خُلقْت ؟! فالبنين يشْهدون له كيف خُلِقَ هو، لأنّ ابنَك خلِق على شاكلتك، كما أنَّ ابنك جاء من زواج فأنت جئتَ من زواج أُمِّك وأبيك، وكنتَ في الرَّحِم لا تقوى على شيء فالقلب ينبض وأنت ببَطن أمِّك ! فالرِّئتان موجودتان ولكن مُعطَّلتان، فالله جعل ثُقبًا بين الأُذَيْنَين، بحيث أنَّ الدم في الحياة ينقبض البُطَين لِيُخرجَ الدَّم إلى الرِّئتين، والرئتان تُصفِّيَان الدَّم، وتُعيدانه أحمرَ نقيًّا إلى الأُذَيْن والأُذَين يُعيده إلى البُطَين، والبُطَين يضخُّه إلى الجسم كلِّه، ففي الرحم لا يوجد هواء، هناك ثقب بين الأُذينين ؛ حينما يولَد الطِّفل هكذا قال العلماء: تأتي جلطة فَتُغلِقُ هذا الثُّقب، وإن لم يُغلق فهذا يُسَبِّب مرضًا خطيرًا اسمهُ مرض الزَّرَق، يُصبح لون الطِّفل أزرق ولا يقدر على المشي ولو مترًا واحِدًا، وعمليَّتُهُ تُكَلِّف الكثير ! وأنا رأيت العمليَّة بِأمّ عيني، يُفتح القلب فتَدخل رُقعة صغيرة، يُسَدُّ بها هذا الثُّقب ! فابْنُك يؤكِّد لك كيف وُلِدْت ؟ قال تعالى:

 

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ(28)لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(29)عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)﴾

 

[سورة المدثر]

 فحينما تؤمن وحينما تشكر تُحقِّق الهدف من وُجودك، فلِمُجرَّد أن تعلم أنَّ هذه النِّعمة من الله تعالى، فهذا نوعٌ من الشَّكر، يا أمير المؤمنين لِهارون الرشيد: بِكَم تشتري هذا الكأس من الماء إذا مُنِع منك ؟ قال: بِنِصف مُلكي ! قال: فإذا مُنِعَ إخراجُهُ ! قال: بِنِصفي ملكِيَ الآخر !! فقال: مُلْكُكَ لا يعدل كأس ماء تشربهُ هنيئًا مريئًا، فإذا الإنسان نام فهذا من نِعَم الله الكبرى، وإذا مشى على قَدَمَيه فهذا مِن نِعم الله الكبرى، والإنسان إذا كان له مأوى فهو من نِعم الله، إن كانت له زوجة فهي من نِعَم الله وعنده أولاد هو من نعمة الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا * ))

 

[ رواه الترمذي ]

 أوَّل أنواع الشُّكر أن تعلم أنّ هذه مِن نِعم الله، والمستوى الأرقى أن يمتلأَ قلبك امْتِنانًا لله عز وجل، أما أرقى أنواع الشكر أن تعمل صالحًا لِخِدمة الخلق، وأن تكافئ المُحْسِن بالإحسان إلى خلقِهِ، لذا مرتبة الإحسان أعلى مرتبة، وأنت عليك أن تكون كتلة من الإحسان في حركاتك وسَكَناتك، وأقوالك وأفعالك، وتِجارتك، وتدعو الناس إلى الله، وتحضُّهم على طاعته، وتُعطيهم من مالك ووقْتِك، وجُهدِك، فأعلى درجات الإسلام الإحسان، أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، لذا الإنسان من ضَعف إيمانه يمنُّ على الله أنّه آمن، قال تعالى:

 

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾

 

[سورة الحجرات]

 فإن سَمَح الله لك أن تقف بين يَدَيه لا تقل: ها قد صلَّينا له !! فإيَّاك أن تمتنَّع على الله تعالى بِعَمَلٍ صالح، فهذا من أنواع الشِّرْك لأنَّك ترى عملك أمامك، ومن أدعية النبي الكريم الرائعة: اللَّهمّ مغفرتك أوْسع لي من ذنوبي، ورحمتك أرْجى لي من عملي ! فالذي يقول لأخيه: هذا اللَّحم الذي عليك من خيري !! فهذا كلام فيه وقاحة وتألِّي على الله تعالى وتطاوُل، فكلّ إنسان يمنّ على الناس بِمِنَّة فها لا يعرف الله، لأنَّك مفتقرٌ إليه في كلّ لحظة، قال تعالى :

 

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾

 

[سورة الحجرات]

 فالله تعالى بصير بِحجم عملك، والبواعث، والعِلَل، والأهداف والملابسات والتَّضْحِيَة، والثَّمَن الباهظ الذي دَفعْته، فهذا كلّه بِعِلم الله تعالى، قال تعالى:

 

﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(35)﴾

 

[سورة محمد]

 وقال تعالى:

 

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾

 

[سورة الزلزلة]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور