وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 1127 - تعليق على خطبة عذراً يا صلاح الدين - قصيدة لصلاح الدين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

     الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

ما من شيء يقوي همة الدعاة كأن يروا نتائج دعوتهم :

     أيها الأخوة المؤمنون، ألقيت قبل عدة أسابيع خطبة حول تهويد القدس، واعتذرت نيابة عن المسلمين للبطل صلاح الدين الأيوبي، الذي حررها من الفرنجة وقال بعد أن حررها: لن يرجعوا إلى بلادنا ما دمنا رجالاً، وقد كتب أحد الأخوة المؤمنين في موقعه المعلوماتي كلمة عن هذه الخطبة التي ألقيتها حول تهويد القدس، والاعتذار للبطل صلاح الدين، ولم أحذف من كلمته التي سأتلوها عليكم إلا عبارات المديح الكثيرة التي مدحني بها، ولقد تركت كلمته أثراً في نفسي، لأنه ما من شيء يقوي همة الدعاة كأن يروا نتائج دعوتهم، وما من شيء يزيدهم التصاقاً بدعوتهم كأن يروا أثر دعوتهم فيمن يتابعهم، والآن سأقرأ عليكم ما كتب عن الخطبة حرفياً.
     يقول هذا الأخ الكريم نقلاً عن موقعه في الانترنيت: في طريقي للعمل وأنا أقود سيارتي كالعادة، أصبحت أقلب المذياع على بعض المحطات، التي طالما أحببت أن أستمع إليها، وفي إحداها ولا داعي لذكرها كي لا تظنوا أني أقوم بالدعاية لها، استوقفني حديث جميل للدكتور محمد راتب النابلسي يقول فيه وهو يبكي ـ مع علمي بأن الدكتور عرف عنه أنه هادئ عند الحديث، فما الذي جعله يبكي بهذه الحرقة ؟

كلمة أحد الأخوة المؤمنين في موقعه المعلوماتي عن الخطبة التي ألقيتها حول تهويد القدس:

     لقد قال ـ قول الأخ الكريم في الموقع ـ:
     " عذرا لك يا صلاح الدين وألف عذر، أنت الذي طردت الفرنجة القدامى من بلاد الشام، ومصر، والعراق، وأنت الذي حررت دمشق والقدس من أيديهم، وقد قلت قولتك المشهورة: لن يرجعوا إليها ما دمنا رجالاً، عذراً يا صلاح الدين، لقد رجعوا بعد الحرب العالمية الأولى إلى بلاد الشام، ودخل قائدهم ديغول دمشق، وزار قبرك، ووضع رجله على طرف قبرك، وقال لك: ها قد عدنا يا صلاح الدين، فعذراً وألف عذر لك، لقد رجعوا مرة ثانية إلى العراق، ولسان حالهم يقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين ثانية، ولئلا تقلق علينا كثيراً أيها البطل، إنهم قالوا حينما عادوا إلينا: عدنا كي تنعموا بحرية كحريتنا، وبسلام كسلامنا، وبرخاء كرخائنا، هم يخططون لشرق أوسط جديد وكبير، ولا أتمنى عليك ـ أيها القائد الفذ ـ أن تسأل هل تحقق لكم ذلك ؟ الحقيقة المُرّة أن الذي تحقق إفقار، وإضلال، وإفساد، وإذلال، وإبادة، واقتتال، وتدمير للمنشآت، ونهب للثروات، ونسف لكل المنجزات، إنها ردّة ولا صديق لها، إنها هجمة تترية ولا قُطُز لها، إنها حملة فرنجية وأنت غائب عنها، عذراً لك يا صلاح الدين، لقد كانت معالم الحزن والأسى ترتسم على وجنتيك، ولم يكن للابتسامة طريق إلى شفتيك، فلما كنت تُسألُ لماذا لا تضحك يا صلاح الدين ؟ فكان جوابك المتكرر، إني أستحي من الله أن أضحك، وما يزال المسجد الأقصى بيد المعتدين، عذراً وألف عذر لك يا صلاح الدين، وعذراً وألف ألف عذر لك يا صلاح الدين، يا أيها القائد الفذ لما حلّ بنا من بعدك، ومن أجل أن تبقى منسجماً مع إيمانك الكبير بالله نقول لك: هان أمر الله علينا من بعدك فهنّا على الله، وقد تحققت نبوءة القرآن فينا حينما قال الله تعالى:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾

( سورة مريم ).

     ولقد لقينا ذلك الغي ـ أنا أقرأ لكم حرفياً ما جاء في مقالته في موقعه في الانترنيت ـ طبعاً البرنامج الذي يقدمه الدكتور هو ساعة كاملة، وللأسف حينما أدرت الإبرة عليه كان في نهايته، ولكن مما يدعو للسرور أن هذا البرنامج يعاد بثه ليلاً، فقلت في نفسي: قبل أن أعود وأستمع لهذا الحديث سأبحث في مكتبتي الصغيرة عن أي شيء يذكر البطل صلاح الدين الأيوبي في بطولته، وعند الساعة الحادية عشرة ليلاً موعد إعادة الدرس كان الموعد مع الأسى والحزن الذي انتابني، وما زال منذ عشرة أيام، عشرة أيام انتاب قلبه الأسى والحزن، لا أدري ما هذه القدرة التي حباها الله عز وجل للمتكلم الخطيب عند الحديث عن البطل صلاح الدين ـ رحمه الله ـ.

الناصر صلاح الدين الأيوبي النموذج الأمثل للإنسان المسلم الذي أفنى عمره في سبيل دينه:

     لنستمع ماذا قال من مطالعاته هذا الأخ، إلى أن استمع إلى إعادة الدرس الساعة الحادية عشرة ليلاً، راجع كتبه حول صلاح الدين، فالآن يقول ما قلت في الخطبة: إن الإنسان لا يقاس أبداً بعمره، بل يقاس بما ينجزه في هذا العمر، ومهما بحثنا، وتعمقنا، ورجعنا للتاريخ الحديث والقديم حتى الغائر في الأعماق، فلن نجد إلا في المقدمة سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، سيد البشر، حبيب الحق، سيد الخلق، ومن بعده صحابته الكرام الذين حملوا على عاتقهم نشر دين الله في مشارق الأرض ومغاربها، ومن بعده التابعون بإحسان إلى يوم الدين، ولكن حديثنا اليوم عن شخصية لا يوجد أحد تكلم عنها إلا وشعر بالعزة والكبرياء والأنفة، إنه الناصر صلاح الدين الأيوبي، إنني ومهما تكلمت عن هذا البطل فلن تكفيه إذاعات العالم حديثاً عنه، إنه البطل صلاح الدين، إنه النموذج الأمثل للإنسان المسلم الذي أفنى عمره في سبيل دينه، وأمته، ووطنه، سأتكلم ـ هكذا يقول ـ عن مقتطفات من حياته المعطاءة، قيل يا صلاح الدين لماذا لا تبتسم أو تضحك ؟ أجاب في رواية أخرى: كيف أبتسم أو أضحك ولي أخوة يذبحون في بلاد الإسلام ؟
     وأنت تشاهد القتل في العراق، القتل في أفغانستان، القتل في فلسطين، في السودان، في الصومال، ألا تتأثر ؟! أخوة لك مؤمنون هدمت منازلهم، قتل شبابهم، نهبت ثرواتهم.
     قال: كيف أبتسم أو أضحك ولي أخوة يذبحون في بلاد الإسلام، وفي أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وصل نبأ لصلاح الدين أن القائد الفرنجي أرناط حاكم الكرك في فلسطين قام بقطع الطريق على الحجاج المسلمين، وقتل النساء، والأطفال، والشيوخ، وكان يقول: قولوا لمحمدكم أن يدافع عنكم، اطلبوا منه، وشاءت الأقدار أن يفر رجل بنفسه و، يذهب إلى صلاح الدين ويخبره بما حدث، فماذا كان موقفه ؟ اعتزل صلاح الدين في بيته، وأخذ بالبكاء يومين كاملين، وهو يقول: يا رب هل تسمح لي أن أنوب عن رسولك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدفاع عن أمتك ؟ وما زال يكررها حتى اليوم الثاني ثم أعد جيشه، وقال فيهم هذه الخطبة الصغيرة: يا جند محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إن أرناط حاكم الكرك في فلسطين قد تجبر وعلا وقتل حجاج بيت الله الحرام، وسفك دماء الأطفال والنساء، وهو يقول: قولوا لمحمدكم أن يدافع عنكم، وأنا قد وهبت نفسي وروحي لأنوب عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدفاع عن أمته، ولأقص رقبته، فمن أراد الذهاب معي فليلحقني، فقال جنده جميعاً بصوت واحد: كلنا فداء لرسول الله، وعندما دارت المعركة، معركة حطين وانتصر فيها صلاح الدين وأُسر أرناط ـ وقع أرناط في الأسر ـ قال صلاح الدين لأرناط: أنت الذي قلت قولوا لمحمدكم أن يدافع عنكم ؟ قال: نعم، فأجاب صلاح الدين: وأنا العبد الفقير الذي تراه أمامك قد ناب عن رسول الله في الدفاع عن أمته، وقص رأسك، وقد قصّ رأسه.

صلاح الدين الأيوبي مؤمن كبير وقائد شجاع وعبقري عسكري :

     صلاح الدين الأيوبي مؤمن كبير، وقائد شجاع، وعبقري عسكري، قلّما نجد مثله، لقد اجتمعت دول أوربا لحربه، ولكنه كان متمسكاً بدينه، وعقيدته، وأخلاقه.
     حدث مرة انه كان سائراً بجنده لحرب بعض خصومه، فاستوقفته امرأة وقالت: يا صلاح الدين أين عدلك الذي يتحدثون عنه ـ وكانت نصرانية ـ ؟ فأجابها صلاح الدين: وما حاجتك يا أمة الله ؟ قالت: لقد ضاع مني ولدي فلذة كبدي في بعض حروبك، فنزل عن حصانه وقال لها: لن أبرح مكاني هذا حتى يعود لك ابنك، وأمر بمئة فارس أن يبحثوا عنه، وظل يوماً كاملاً ينتظر حتى وجدوه فرده إليها، وطمأنها، فأسلمت، وانضمت لجيشه تداوي المرضى والجرحى، وعند نهاية حروبه مع الفرنجة قال مقولته الشهيرة:" لن يعودوا لفلسطين ما دمنا رجالاً ".
     يقول كاتب المقالة وهنا بكى الشيخ النابلسي بحرقة، وقال: عذراً وألف ألف عذر يا صلاح الدين، لقد خذلناك، لست كما وصفتنا، ولهذا عادوا وهم في فلسطين يعيشون ويهنئون، ولا يهمهم الملايين من أمتنا، فأنت ورجالك الواحد منهم بألف ونحن بعد أن أضعنا الصلاة، واتبعنا الشهوات، فصار الألف منا بأف، كان الواحد منهم بألف وصار الألف منا بأف.
     وفي الختام أقول يا شيخي الفاضل: عذراً منك أنت أيضاً، لأن قلبي لم يتقطع وصوتي لم ينتحب، نعم بكيت وأوقفت سيارتي، وركنتها جانباً، وبكيت كالأطفال، ولكن كففت دمعي، وقلت: هذا لن يعيد صلاح الدين، إن صلاح الدين كان صواماً قواماً، لم تغير القيادة من طباعه، لم تغير الانتصارات من تواضعه، كان خاشع القلب، غزير الدمعة، إذا سمع القرآن تلاه وبكى، وكان كثير التعظيم لشعائر الدين، كان ناصراً للتوحيد، قامعاً لأهل البدع، لا يؤخر الصلاة عن وقتها، كان له ركعات يصليها في جوف الليل.
     لقد كانت نساء أوربا تخيف أطفالها عند النوم وتقول لهم: ناموا وإلا أتيت لكم بصلاح الدين، رحمك الله رحمة واسعة، الآن دققوا لم تدخل قوميته الكردية في إسلامه ولا قيد أنملة، وهبت نفسه لنصرة دينه، وعندما قال له عمه شيركو: لقد آن الأوان أن ننشر كرديتنا، أجابه صلاح الدين: لولا أنك عمي لقصصت رأسك، إنني مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا أزيد على إسلامي شيئاً، وإن عدتها لفعلت بك ما قلت لك، مسلم فقط، يدافع عن الإسلام فقط، ولم يدخل أية قيمة أخرى في ذلك".

التقارب والتعاون والتلاحم بين المسلمين لابدّ من أن يكون حصناً واقياً لهم :

     أيها الأخوة الكرام، انتهى النص الذي ورد في الانترنيت والآن نتابع الخطبة، أما التعليق على أن الواحد منهم كان بألف، وأن الألف منا أصبح بأف، فقد كان القائد العظيم خالد بن الوليد في بلد بعيد بعيد عن المدينة، معه ثلاثون ألف صحابي، وواجهوا ثلاثمئة ألف، فأرسل طلباً للنجدة أن يرسل له أبو بكر رضي الله عنه خمسين ألفاً كمدد، فأرسل سيدنا الصديق المدد، ولكن هذا المدد كان إنساناً واحداً القعقاع بن عمرو، فلما وصل إليه قال له: أين المدد ؟ قال له: أنا المدد، قال له: أنت ؟ قال له: أنا، معه كتاب قرأه، يقول فيه سيدنا الصديق: والذي بعث محمداً بالحق يا خالد إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم.
     وانتصر، واحد، الواحد بمليون والآن المليون بأف، الألف وخمسمئة مليون بأف، لأن أمر الله هان عندهم فهانوا على الله.
     أيها الأخوة، هذه الحقيقة الدينية التي آمن بها صلاح الدين، والتي منعته أن يظهر انتماءه القومي، أكدها بلدنا الطيب بسياسته الحكيمة حينما سار هذا البلد الطيب في طريق التقارب، والتعاون، والتلاحم مع جيران لنا، لا تربطنا بهم قومية بل تربطنا بهم رحم الإسلام ليس غير، يجمعنا معهم التاريخ الواحد، تجمعنا معهم الحضارة الإسلامية الخالدة، هذا التقارب، والتعاون، والتلاحم، فتح جديد في منطلقات مبدئية جديدة تقتضي أن نشكر الله عز وجل عليها، لأنها ليست وليدة رغبة طارئة في مصلحة عابرة، مثل هذا التلاقي الطارئ والعابر يبدأ ويشتد ثم يبرد ويختفي، عندما تزول هذه المصالح، إن تلاقينا مع أخوتنا الأتراك يقوم على أساس متين من المبادئ، والقيم المشتركة، يقوم على أساس متين من التصورات، والمشاعر المشتركة، مثل هذا التقارب والتعاون والتلاحم لا بد من أن يكون حصناً واقياً في مصالح الفريقين، ربما بدأت المصالح بسيطة قليلة ولكن سرعان ما تتنامى، وتقوى، وتشتد، هذا التقارب والتعاون والتلاحم ينبغي أن نتبين أبعاده الكبرى، ونتائجه العظمى، ينبغي أن يكون مثلاً يحتذى، تصور ألف وخمسمئة مليون يشغلون أقوى موقع في الأرض، ومعهم أغلى ثروات العالم، فكيف بالعالم إذا اتحدوا جميعاً وتكلم عنهم واحد ؟ شيء لا يصدق، لذلك ينبغي أن يكون هذا التقارب والتعاون والتلاحم مع جيران لنا لا تربطنا بهم قومية، ولكن يربطنا بهم هذا الدين العظيم، تاريخ مديد، وتاريخ مشترك، ورحم الإيمان، هذه التجربة الرائدة نتمنى لكل شعبين مسلمين أن يتحدوا، وأن يتقاربوا، وأن يتعاونوا، وأن يتلاحموا، حتى يغدو المسلمون قوة كبيرة، ما رضي عمه صلاح الدين أن ينشر كرديته، قال له: أنا مسلم وكفى فقط، نحتاج الآن إلى هذا المنهج.

لن تستطيع جهة في الأرض مهما قويت أن تفسد على الله هدايته لخلقه :

     أيها الأخوة، من أجل أن تعلموا ماذا يخطط لنا منذ قرابة قرن، قامت معاهدة لوزان، هذه المعاهدة نصت على اجتثاث الإسلام من جذوره في حاضرة الخلافة، نصت على أن القرآن ينبغي أن يطوى، وأن الأذان ينبغي أن يمنع، وأن المظاهر الإسلامية ينبغي أن تختفي، وينبغي خلال ثلاثين عاماً على الأكثر أن يجتث الإسلام من جذوره في حاضرة الخلافة العثمانية، وسارت الجهة التي التزمت في هذه المعاهدة في هذا الطريق، منعت القرآن، ومنعت الأذان، ومنعت اللغة العربية، واستبدلت هذه اللغة بحروف لاتينية، تفاصيل هذه المعاهدة نفذت بكاملها، منعت تلاوة القرآن ردحاً من الزمن، منع الأذان ردحاً من الزمن، ولكن ما الذي حصل بعد ذلك ؟ هاهي ذي حاضرة الخلافة وما حولها، تركيا الآن يصدح المؤذنون في اسطنبول عشرة آلاف مسجد أينما جلست تستمع إلى الأذان من عدة مساجد، في كل يوم خمس مرات، في أعلى الربا والمآذن، هاهو ذا كتاب الله عز وجل ، يرتل من أولئك الذين يتفاعلون مع كتاب الله تفاعلاً عجيباً، يتلو أحدهم كتاب الله ودموعه التي تنهمر تترجم فهمه لهذه الآيات، عادوا إلى الفطرة، وعاد الإسلام قوياً متلألئاً، وعادت الثقافة والمعارف الإسلامية لتملأ رحاب الجامعات، بل إن كثيراً من الناس في شرق العالم الإسلامي وغربه ينهلون من الحقائق والثقافة الإسلامية ما ينهلون.
     أيها الأخوة، يجب أن تتفاءلوا والتفاؤل علمي وصحيح، إن هذا الدين دين الله، ولن تستطيع جهة في الأرض مهما قويت أن تفسد على الله هدايته لخلقه:

﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾

( سورة آل عمران ).

المؤمنون بفضل الله ورحمته يستطيعون أن يلغوا كل الخطط التي تخطط لهم :

     أيها الأخوة، الشيء الذي أريد أن أنتهي إليه أن الطرف الآخر يخطط لإنهاء الإسلام، وتدمير الإسلام، وإضعاف المسلمين، بل يخطط لإفقارنا أولاً، ولإضلالنا ثانياً، ولإفسادنا ثالثاً، ولإذلالنا رابعاً، ولإبادتنا خامساً، هذه حقيقة مرة يجب أن تعلموها، ولكن المؤمنون بفضل الله ورحمته يستطيعون أن يلغوا كل هذه الخطط، لكن سمعت تشبيهاً رائعاً جداً، هذا التشبيه أن سفينة عملاقة تمخر البحر، على ظهر هذه السفينة أشخاص كثيرون، هذه السفينة العملاقة التي يقودها ربان عظيم تتجه نحو المشرق، وقد تجد على ظهر السفينة إنساناً ضئيلاً يتجه نحو مغرب السفينة، ولكن السفينة بأكملها تتجه نحو الشرق فما قيمة هذه الحركات الفردية على ظهر السفينة ؟ سفينة عملاقة تزن مليون طن تتجه نحو الإيمان، نحو تأكيد قيم الرحمن، وعلى ظهر هذه السفينة أشخاص كثر، بعضهم يسري عكس اتجاهها ولكن حركته على ظهر السفينة فقط، هذا الكلام يمكن أن أعبر عنه بمقولة دقيقة، إن خطة الله تستوعب دائماً خطط أعدائه، سفينة عملاقة تجري نحو الشرق وإنسان على ظهرها حقير يريد أن يتحداها فيمشي على ظهرها نحو الغرب، ما قيمة هذه الحركة ؟ هذا الذي يحدث، لا تستطيع جهة على وجه الأرض أن تفسد على الله هدايته لخلقه.

من مقتضيات الإيمان بالله :

1ـ زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين:

     أيها الأخوة، من مقتضيات الإيمان بالله ومن مقتضيات التوحيد، أن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، قال تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي ﴾

( سورة النور الآية: 55 ).

     والشرط يعبدونني لا يشركوا بي شيئاً:

﴿ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ (19) ﴾

( سورة الأنفال ).

﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الرعد الآية: 11 ).

     فبالتعبير المعاصر الكرة في ملعبنا:

﴿ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ (19) ﴾

( سورة الأنفال ).

2ـ أن قوى الأرض مجتمعة لن تستطيع أن تفسد على الله هدايته لخلقه:

     من مقتضيات الإيمان بالله و مسلمات أن قوى الأرض مجتمعة لا تستطيع أن تفسد على الله هدايته لخلقه، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾

( سورة الأنفال الآية: 36 ).

     لذلك لا ينبغي أن نقلق على هذا الدين إنه دين الله، ولكن ينبغي أن نقلق على أنفسنا ما إذا سمح الله لنا أو لم يسمح لنا أن نكون جنوداً له، والباطل قديم قدم الإنسان ولكن بطولتنا ألا نسمح له أن ينفرد بالساحة.

على كل إنسان أن يقلق على نفسه فيما إذا سمح الله أو لم يسمح أن يكون جندياً له :

     أيها الأخوة الكرام، كنت مرة في أحد متاحف اسطنبول الكبرى، مررت بساعة ثابتة على التاسعة وخمس دقائق، سألت، قال: هذه الوقت الذي مات فيه من أخذ على عاتقه تنفيذ معاهدة لوزان، ألغى الحروف العربية، منع القرآن، منع الأذان، منع اللباس الديني، منع أي مظهر إسلامي، قطع هذه الأمة عن تاريخها المجيد، هذا توفي في هذه الساعة فأنا قلت كلمة، قلت: آلاف الطغاة جاؤوا إلى الدنيا، وأرادوا إلغاء الإسلام كلياً، ففطسوا والإسلام باق.
     اذهب إلى تركيا، حدثني أخ أقسم بالله مشى من اسطنبول إلى بورصة، كل عشر سيارات ثمان سيارات النساء فيها محجبات، لذلك هذا الدين دين الله لا تقلق عليه، اقلق على نفسك فيما إذا سمح الله لك أو لم يسمح أن تكون جندياً له.

3 ـ نجاح خطط الدول الظالمة لا يتناقض مع عدل الله فحسب بل يتناقض مع وجوده:

     من مقتضيات الإيمان بالله ومسلماته أن أمة في الأرض مهما تكن قوية إذا خططت لتبني مجدها ورخائها على أنقاض الشعوب، وحريات الشعوب، وثقافات الشعوب، نجاح خططها على المدى البعيد لا يتناقض مع عدل الله فحسب، بل يتناقض مع وجوده، قال تعالى:

﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

( سورة يوسف ).

     والله عز وجل يقول أيضاً في الحديث القدسي:

(( الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ ))

[أبو داود، ابن ماجه، أحمد عن أبي هريرة]

4 ـ الله لا يسمح لطاغية أن يكون طاغية إلا وأن يوظف طغيانه لخدمة دينه والمؤمنين:

     شيء آخر أنه من مقتضيات الإيمان أن الله عز وجل لا يسمح لطاغية على وجه الأرض أن يكون طاغية إلا وأن يوظف طغيانه لخدمة دينه والمؤمنين من دون أن يشعر، ومن دون أن يريد، وبلا أجر، وبلا ثواب، والدليل:

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ﴾

( سورة القصص ).

الأمة الإسلامية أمة متحضرة بهذا الدين العظيم :

     أيها الأخوة الكرام، الأمة العربية والإسلامية تمر بمحنة عظيمة، نرجو أن تكون وراءها منحة ربانية، لا شرقية ولا غربية ولكن علوية سماوية، وتعاني هذه الأمة من شدة لم تشهد مثلها في التاريخ الحديث، نرجو أن يعقب هذه الشدة شَدة إلى الله تعالى تستحق بعدها أن تستخلف، وأن تمكن في الأرض، وأن تستعيد دورها القيادي بين الأمم، فهي متحضرة بهذا الدين العظيم، ونرجو أن تكون متطورة بمعطيات العصر، بينما العالم القوي متطور ولكنه متوحش.
     أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :

     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين.

حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ورأس كل مشكلة يعاني منها العالم الإسلامي :

     أيها الأخوة الكرام، بعض أبيات الشعر، وقد ورد إن من الشعر لحكمة، لكنه شعر حديث:

وا خجلي منك يا صلاح الدين بل ويا عيباه
حررت القدس فضيعناه ورفعت الرأس فنكثناه
وبك اعتز التاريخ وتاه وبنا دمعت عيناه
وا خجلي منك يا صلاح الدين بل ويا عيباه
علمت العالم أن المسلم لا يخشى إلا الله عز وجل
أما نحن فعلمناه أن المسلم يخشى كل الدنيا إلا الله
***

               المسلم اليوم يخشى كل الدنيا إلا الله عز وجل.

وا خجلي منك يا صلاح الدين بل ويا عيباه
دنياكم كانت سيفاً وصلاة ومناجاة
ودنيانا نفط وكؤوس وشراب وفتاة
دنياكم كانت عزاً وفخاراً ومباهاة
دنيانا عار وصغار ومعاناة
وتمر بنا ذكرى صرختك الكبرى في حطين وا إسلاماه
وتمر بنا أطياف جيوش الثأر تلبي صرخة وا معتصماه
ونرى جعفر في مؤتة قد قطعت يمناه لكن الراية لم تسقط واحتضنتها يسراه
ونرى زيداً والقعقاع وخالد سيف الله ونرى آلافاً آلافاً ممن باعوا أنفسهم لله
يعلون الراية في أرجاء الكون بإذن الله
أما نحن فلا حول ولا قوة إلا بالله
نحن غثاء نحن غثاء
لا بل نحن قطيع شياه
لكن مهما أظلم هذا الليل وطال دجاه وتطاول سيف البغي علينا واشتد أذاه
لن تخمد جذوة هذا الدين بإذن الله عز وجل
لن تخمد ما دمنا قد بعنا أنفسنا لله وغداً تنساب جيوش الحق وتعيد لهذا الكون ضياه
***

     إن شاء الله، أيها الأخوة:

(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ ـ بكل بلد ثلاثون دولة حلفاء ـ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))

[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]

     حب الدنيا رأس كل خطيئة، وحب الدنيا رأس كل ضعف ورأس كل جبن، ورأس كل صراع، ورأس كل مشكلة يعاني منها العالم الإسلامي.

الدعاء :

     اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور