وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة ق - تفسير الآيات 31 - 34 معنى كلمة أواب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، ربنا سبحانه وتعالى إذا ساق لنا وصْفًا من أوصاف أهل النار التي يرْتعد لها القلب، يسوق بعدها وصْفًا لأهل الجنَّة، لذلك ينبغي أن يتَّجِهَ المؤمن إلى الله عز وجل راغبًا تارةً، وخائِفًا تارةً أخرى وقد ورَدَ في بعض الأحاديث القدسيّة أن: يا رب إنِّ أعلم أنَّني أُحِبُّك وأُحِبُّ مَن يُحِبُّك، فكيف أُحبِّبُك غلى خلقك ؟ قال: ذَكّرهم بآلائي ونعمائي وبلائي! الآلاء من أجل أن تُعظِّم الله، والنَّعماء نم أجل أن تُحِبَّهُ والبلاء من أجل أن تخافهُ.
 أحيانًا نقول للإنسان: يتفضَّل الله عليك بِنِعمة الصّحة، ونِعمة الزَّوجة ونِعمة الأهل، ونِعمة السُّمعة الطَّيِّبة، ونعمة راحة البال، ويُجري على أعماله أعمالاً طيِّبة، وأحيانًا نقول: هناك أورام خبيثة، وهناك تشمّع في الكبد، وهناك فشلٌ كلوي، ذَكّرهم بآلائي ونعمائي وبلائي، البلاء مكابح والنعماء محرِّك يقودك إلى الله، يا داود ذكِّر عبادي بالإحسان إليهم فإنّ النفوس جُبِلَت على حُبِّ مَن أحسَن إليها ! فربُّنا عز وجل مِن حكمته البالغة في كتابه الكريم كلَّما ساقَ مشْهدًا من مشاهد أهل النار، أتْبعَهُ بِمَشْهدٍ من مشاهد أهل الجنَّة، فالدرس البارحة كان على أهل النار، قال تعالى:

﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)﴾

[ سورة ق ]

 ثمَّ يقول الله تعالى:

 

﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)﴾

 

[ سورة ق ]

 صار المتَّقون بينهم وبين الجنَّة قاب قوسين أو أدنى، تقرأ في الدنيا القرآن الكريم، وتستمعُ إلى حديث رسول الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يُبشِّر المؤمن بالجنَّة، والله جلّ جلاله يُبشِّر المؤمن بالجنَّة، لذلك قال تعالى:

 

﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(8)﴾

 

[ سورة التحريم ]

 الوُعود التي وعَدَ الله بها المؤمنين ؛ هاأنتم أولاء ترونها رَأْيَ العَيْن ! قال تعالى:

 

﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)﴾

 

[ سورة ق ]

 أي هذا ما وُعِدتُم به وهي الجنَّة، فيها ما لا عين رأَتْ، ولا أُذُن سَمِعت ولا خطر على قلب بشر، وأنا أقول لكم - وأنا أعْني ما أقول - أحيانًا مفهوم الجنَّة والنار، والعذاب والحساب، والجنَّة والآخرة كأنَّ هذه المفهومات ليْسَت في حساب الإنسان المسلم الآن ! يعيش دُنياهُ فقط وآلامه فقط، وكأنَّ الحياة تنتهي عند الموت، وقد نسِيَ أنَّ الحياة تبدأ عند الموت ! لذلك قال تعالى:

 

﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)﴾

 

[ سورة ق ]

 أوَّاب على وزن فعَّال أيْ كثير الأوْبَة إلى الله تعالى، كلما أخطأ يتوب إلى الله وكلما زلَّت قدمهُ يرجع إلى الله تعالى وكلما تكلّم كلمة لا تُرضي الله تعالى تاب إلى الله، تاب مرَّةً، ودفعَ صدقةً مرَّةً، ومرَّغ جبهته، وصلى على النبي أخرى، فالله تعالى ما قال: آيِبٍ، ولكن قال أوَّاب ؛ كثير الرجوع إلى الله تعالى، فممكن أن تستغفر الله باليوم مائة مرَّة، وكلما وقع الإنسان بِغَلَك، فمعنى ذلك أنَّه أوَّاب ؛ أي كثير الأوبة إلى الله تعالى، وحفيظ يَحفظ أمْر الله تعالى ونَهْيَهُ، وهو على وزن فعيل، يحافظ على أمر الله نهْيِه، وكان عمر رضي الله عنه وقَّافًا عند حدود الله، أما قولهم: لا تُدقِّق هذه من الشيطان ! قال تعالى:

 

﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)﴾

 

[ سورة الحجر ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(54)﴾

 

[ سورة الزمر ]

 فأوَّاب هو كثير الأوبة والرجوع عند كلّ خطأ، وعند كلّ كلمة أو نظرة لا ترضي الله، فهذه السيّدة عائشة ماذا قالت عن السيّدة صفيَّة ؟قصيرة!

 

((عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ * ))

 

[ رواه الترمذي ]

 قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة ! ولو بالإشارة !! فمن هو المؤمن ؟ الوقاف عند حدود الله والوقاف عند حدوده تعالى، ويُعظِّم شعائر الله، ويؤدِّي العبادات أداءً متقنًا أما من يقول: لا تُدقِّق فهذا كلام الشيطان لأنّ المؤمن عليه أن يُدَقِّق، وركعتين من ورِع خير من ألف ركعة من مخلِّط ‍!
قال تعالى:

 

﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)﴾

 

[ سورة ق ]

 خافهُ بِعَقلِهِ، أما الحيوان فيخاف بِعَينيه، وكذا الأحمق، أما الإنسان الراقي يخاف بِعَقلهِ، ومرَّةً ناقش الإمام الغزالي نفسه فقال: يا نفسُ لو أنَّ طبيبًا منَعَك من أكلةٍ تُحِبِّينها، فلا شكّ أنَّك تمتنعين منها، أَيَكُون الطبيب عندك أصْدَق من الله تعالى ؟! فالله منعك من أشياء كثيرة، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا(37)﴾

 

[ سورة الإسراء ]

 ومنعَكَ من الكِبر والشحّ، ومنعك بالخوض في أعراض الناس، ومنَعَك من الكذب، ومن أشياء كثيرة، فالطبيب تُنفِّذ له ما يقول، ولا تنفِّذ أمر الله تعالى ! فما أكفرَكِ، أيَكون وعيد الطبيب أشدّ عندك من وعيد الله إذًا فما أجْهلَكِ ! فكلّ إنسان يعصي فهو إنسان غبيّ وجاهل، قال تعالى:

 

﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)﴾

 

[ سورة ق ]

 فهو ما رأى النار، وما رأى الجنَّى ولكنّ الله تعالى أخبره بها.
قال تعالى:

﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)﴾

[ سورة ق ]

 أيْ قاب آيبٌ إلى الله تعالى، قال تعالى:

 

﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)﴾

 

[ سورة ق ]

 لا مرض ولا قلق، ولا زواج غير موفَّق، ولا ابن لا يُحتَمل، ولا دخل قليل ! ولا أولاد لا تحتملهم، ولا أزمة سَكَن، ولا طعام ولا خوف، كلّ هذا منهيّ عند دخول الإنسان الجنَّة ! قال تعالى:

 

﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)﴾

 

[ سورة ق ]

 الآخرة مَبنيَّة على شيء غير الدنيا، ففي الدنيا قال تعالى:

 

﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ(6)﴾

 

[ سورة الانشقاق ]

 لو أردت أن تأكل صحن سلطة لاحتجت إلى ساعة، وكذا من أجل البناء خرائط وتخطيط ومال، وكدّ فَنِظام الحياة الدنيا نِظام سَعي أما في الآخرة فالأمر خلاف هذا، لهم ما يشاءون ! هذا هو نظام الآخرة، أيُّ شيءٍ خطر بِبَالك تراه أمامك، يجلس الواحد في الجنَّة فيقول: إنَّه كان لي قرين، فإذا به يطَّلع عليه في لحظتها ! قال تعالى:

 

﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(51)﴾

 

[ سورة الصافات ]

 كلّك أعْين وآذان، فالجنّة نظامها لهم ما يشاءون، قال تعالى:

 

﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)﴾

 

[ سورة الحاقة ]

 تأتيك الشجرة فتأكل ثمرها، والحقيقة إذا أمضى الإنسان سنوات في معصِيَة الله وخَسِر الجنَّة، ويكون أعقل عقلاء الأرض إذا تحمَّل بعض المتاعب من أجل الجنَّة، وقد ذكرتُ مثلاً، وردَّدْتُهُ كثيرًا إلا أنَّه يُناسب المقام الآن: كان هناك باصات في المهاجرين تقف قبل المرجة، ففي أيام الصيف الحارة، يصعد الراكب فيجد على اليمين شمس محرقة، وعلى اليسار ظلّ فيجلس في الظلّ، ويصعَد راكب ويُشَغِّل عقله فيجلس بالشمس ! لماذا لأنَّ هذا الباص سيدور بعد دقيقة واحدة، وتنعكس الآية إلى آخر موقف، فهذا المثل يمثّل الحياة الدنيا والآخرة، فالذي جلس بالظِلّ وتمتَّع به نصف ساعة، والذي عطَّل عقله جلس بالظل دقائق، وخسر الظلّ نصف ساعة، فكيف إذا كان للأبد فالراكب الذكي عاش المستقبل وليس الحاضر، فالحاضر هنا شمس، وهنا ظلّ، والإنسان لا ينجو إلا إذا عاش المستقبل، والأقل غباء يعيشون الحاضر، وهل هناك في المستقبل حدَث أخطر من الموت ؟ هذا أخطر حدَث، وهو ينتظرنا جميعًا، ولا يمكن لمَخلوق أن ينْجُوَ منه، فما دام لا بدّ آتٍ فلْنُعِدَّ له التوبة والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

تحميل النص

إخفاء الصور