وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة المرسلات - تفسير الآيات 15 - 18 - 48-50 ، الترهيب من التكذيب بيوم الدين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، الآيات الأخيرة في سورة المرسلات وهي قوله تعالى:

﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)﴾

[سورة المرسلات]

 أوَّلاً كلمة وَيْل معناها الهلاك وبعضهم قال: هي واد في جَهَنَّم، والمعنى الأوْسَع هو الأقرب ؛ الهلاك للمُكَذِّبين، وهذا الوَيْل أي الهلاك لو أدْركه الإنسان وهو حَيّ لاخْتَلَّ توازنه، وما من بيْتٍ إلا ومَلَكُ الموت يقف فيه خمْس مرات فإذا وَجَد أنَّ العبْد قد انْقضى أجلُه وانقطع رزقه ألقى عليه غَمَّ الموت فَغَشِيَتْهُ سكراته فَمِن أهل البيت الضاربة وَجْهها، ومنها الصارخة بِوَيْلها، والمُمَزِّقَة ثوبها فيقول ملك الموت: فيم الجَزَع، ومِمَّ الفزَع، ما أذْهَبْتُ لِوَاحِدٍ منكم رِزْقاً ولا قَرَّبْتُ لكم أجَلاً، وإنَّ لي فيكم عَوْدَة ثمَّ عوْدة ثمَّ عَوْدة حتى لا أبْقي منكم أحداً، فو الذي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِه لو يسْمعون كلامه ويروْن مكانه لّذَهِلوا عن مَيِّتِهم، ولَبَكَوا على أنْفسِهم
 أوْضَحُ مثَلٍ في توضيح هذه الآية ؛ إنسان يرْكب مَرْكبة جَيِّدة في طريق هابِط، والهواء عليل، وأطراف الطريق كُلُّها ورود و زُهور، وهو مُسْتمْتِع بهذه الرِّحْلة وهذه الانْطِلاقة إلا أنَّ هذا الطريق شديد الانْحِدار وينتهي بِمُنعَطَف حادّ، وهو في هذه السرْعة العالية والمناظر الجميلة اكْتَشَف فجْأةً أنَّ مِكْبَحَهُ مُعَطَّل ! ماذا سَيَفْعَل ؟! هذا هو الوَيْل، قال عليه الصلاة والسلام

(( عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا * ))

[ رواه البخاري ]

 لو يعلم الإنسان ما ينتظره من حِساب دقيق، كُلُّ شيء بِمِثْقال قال تعالى

 

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾

 

[سورة الزلزلة]

 هناك حِرَفٌ كثيرة مَبْنِيَّة على الظُّلْم وإيذاء الناس، وأخْذ أموالهم بالباطل فهذا الذي يفْعل هذا لو يعْلم الحقيقة لَصُعِقَ، ففي مِثالنا صاحب السيارة لو عَلِم في البداية أنَّ المِكْبح مُعَطَّل لما أسْرع، ولذلك البطولة أن تعرف الحقيقة المُرَّة في الوقْت المناسب، إذْ هناك حقيقة مُرَّة وهناك وَهْمٌ مُريح والوَهْم المُريح يقوله العوام، غفر الله لنا ! نحن عبيد إحسان وليس عبيد امتحان ! وأُمَّة محمَّد مَرْحومة ! أما لو تعلم الحقيقة فقد لا تنام، لذلك قالوا قد تقرأ قِصَّة وتنتهي منها وتتثاءب وتنام، وقد تقرأ مقالةً، وتنتهي منها وحينها تبدأ متاعِبُك، والشيء الدقيق أنَّ الحقيقة المُرَّة أفْضل ألْفَ مَرَّة من الوَهْم المُريح، فلذلك كما قال تعالى:

 

﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)﴾

 

[سورة المرسلات]

 التَّكْذيب نوعان: تكذيب قولي اعْتِقادي وتكذيب عَمَلي فالتَّكذيب القولي لا أعتقِد أنَّ في العالم الإسلامي إلا قِلَّة قليلة جداً مِمَّن رَكِبَتْ رؤوسَها تُكَذِّبُ هذا القرآن تكْذيباً قوْلِيًّا، وقد نجد نسبَةً أكثر مِمَّن تُكَذِّب تكْذيباً اعْتِقادِياً أما جَمْهرَةُ المسلمين يُكَذِّبون تكْذيباً عَمَلِيًّا والتَّكْذيب العمَلي أخْطر أنواع التَّكْذيب ! لماذا ؟ لأنَّ الذي يُكَذِّب بِلسانِه تُناقِشُه وتُقْنِعُهُ، أما الذي يُقرُّ بِلِسانه ويعْتَقِدُ أنَّ هذا الدِّين حقّ ولا ترى في سُلوكِه ما ينبئ بِذلك فهذا إنْسان خطير جداً، فلو أنّك زرْتَ طبيباً راقٍ ووصَفَ لك وَصْفة وشَكَرْتهُ شُكْراً عميقاً، وصافَحْتَهُ بِحَرارة، لكِنَّك حينما لا تشْتري الوَصْفة فأنت لا تعبأ بِعِلْمِه، فأنت كَذَّبْتَ علمه بِسَبب عدم اشْتِراء الوَصْفة، فهذا هو أخْطر التكذيب أن تعتقد شيئاً وأن تقول شيئاً وأن تقول خِلاف الشيئيين وهو حال المسلمين، تقول لأحدهم هناك آخرة، فيُجيبُك أنَّ الآخرة حق ! فلِمَ تأكل المال الحرام، ولم نساؤك غير مُنضَبِطات، وكذا بناتك ولك مليون شبْهة ومعصِيَة بِحَياتِك تجد أنَّ آخر كلامه يقول لك: نسأل الله أن يتوب علينا ! فهذا يُكَذِّب تكذيباً عَمَلِيًّا، قال تعالى:

 

﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)﴾

 

[سورة المرسلات]

 قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ(12)﴾

 

[سورة محمد]

 قال تعالى:

 

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾

 

[سورة آل عمران]

 قال تعالى:

 

﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)﴾

 

[سورة النساء]

 وقال تعالى:

 

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)﴾

 

[سورة إبراهيم]

 وقال تعالى:

 

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا(27)﴾

 

[سورة الإنسان]

 وقال تعالى:

 

﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ(20)وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ(21)﴾

 

[سورة القيامة]

 وقال تعالى:

 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾

 

[سورة إبراهيم]

 لو أنَّ واحِداً حُكِمَ عليه بالإعْدام وطلب قطعة لحْم يُطْعِموه، كلّ شيء يريده، قال تعالى:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(165)﴾

[سورة الأعراف]

 قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)﴾

 

[سورة المرسلات]

 لا تفْهم هذه الآية بِشَكْل ضَيِّق، فالرُّكوع هو الخُضوع، إذا دَعَوْته أن يسْتجيب لله لا يسْتجيب، وإلى أن يُطيعه لا يُطيعه، وإلى أن ينتهي عما تعالى عنه نهى لا ينتهي قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)﴾

 

[ سورة المرسلات ]

 العبرة ليس بما تقول ولكن بما تفْعل، فالركوع هو الخضوع لله عز وجل.
 دخلتُ مَرَّة في قَضِيَّة إصْلاح ذات البيْن ؛ فتاة يعْضِلُها أبوها عن الزواج، فأنا دُيعت إلى إقْناع الأب، وجَلَسْتُ عنده من التاسِعَة ليلاً إلى الثانِيَة عشر ليلاً، فقد جاءَها ثلاثون خطيباً، ورَفَضَهم جميعاً، وآخر خطيب ممتاز جداً، وسألوا عنه وتَحَقَّقوا منه، ولا إشْكال، ويقول لها أبوها: إذا تتَزَوَّجي أُطَلِّق أُمّك ! شيء عجيب، آخر كلام قاله لي أبوها: لو يأتي رسول الله ويقول لي: زَوِّجْها لن أُزَوِّجها ! قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)﴾

 

[ سورة المرسلات ]

 لا يسْتجيب.
قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)﴾

 

[ سورة المرسلات ]

 الكون ينطق بِوُجود الله ووَحْدَانِيَّتِه وكماله، والقرآن كذلك والحوادث وكذا أفعاله تعالى، وخلقه وكلامه ؛ كُلُّ هذا ينطق بالحق، روى من قبلنا أنَّ أحدهم جاء بِطُنّ مِلْح وقال: من أكله أعْطيه جائزة فَخْمَة وأُزَوِّجُه بِنْتي، فَتَراوَد عليه الناس جميعاً وما استطاعوا، فجاءه واحد من الناس وقال له: إذا كانت أمامك كُلّ هذه البيِّنات من الناس وإلى الآن لم تسْتَفِد منها فَبِأيِّ حديث بعده يؤمنون.

 

تحميل النص

إخفاء الصور