- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (079) سورة النازعات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، في سورة النازعات يقول الله عز وجل:
﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)﴾
الطامَّة تُلْغي كُلَّ ما سِواها، كيف أنَّ الإنسان بالدنيا له مائة قَضِيَّة ومَشْروع، ومائة مُشْكلة تَحُلُّها، تنشأ مُشْكلة تُنْسيك كُلَّ شيء ! إذاً هناك أشياء تُنْسيك أشياءً أخْرى، وشيءٌ يُنْسي شيئان وآخر يُنْسي مائة شيء، وشيء يُنسي كُلّ شيء، فهذه الطامَّة ينسى فيها الإنسان كُلَّ شيء، لذلك يقول الإنسان لم أرَ خيراً قطّ، عاش مائة سنة أكثر، وكان من الأغْنياء، وأصْحاب الاسْتِضافات، والنزْهات، ومُتَمَتِّع بالنِّساء والشراب والأكل، فإذا وقَفَ هذا الموقف يقول: لم أرَ خيراً قطّ وينسى كُلَّ شيء، فهذا معنى الطامَّة.
بالدنيا الإنسان أحياناً لا يرى شيئاً، فإذا شَعَر بتَقْرير أثناء عِلاجه يتدَهْور، فهذا طبيب قال للمريض بقِيَ لك أربعة أشْهر، وفي اليوم الثاني مات، قال تعالى:
﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)﴾
لذلك أيها الإخوة هناك دُعاء: اللهم إنَّا نعوذ بك من فجْأة نقْمتك، وتحَوُّل عافِيَتِك زجميع سَخَطِك، ولك العُتبى حتى ترْضى، والإنسان بِلَحْظة تُصبح حياته جحيماً، ويفقد كُلَّ شيء، وأحد الشباب ذَهَب للخليج كي يشْتغل ورَغِبَ أن يقْتني سيارة، فاقْتناها، أوَّل رِحْلة من أبو ضبي إلى دُبَيّ انْشَلَّ نصفه السفلي بِحادِث، طبْعاً كُلَّ شيء بِقَضاء وقَدَرٍ من الله، هناك مصائِب تسْحق الإنسان، فنحن لما نطيع الله عز وجل - ديِقول معي - يُنشِأ الله لك عليه حق، قال له يا معاذ ما حقّ العباد على الله إذا هم عبدوه ؟ قال: أن لا يُعَذِّبَهم، ألا تُحِبُّ أن يكون لك ضَمان من الله وقد اسْتنبط الإمام الشافعي اسْتنباطاً مذْهِلاً في قوله تعالى
﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)﴾
فالله تعالى ما قَبِلَ اِدِّعاءهم لأنَّه كاذِب، ولو قَبِلَهُ ما عَذَّبهم، فاسْتنبط الإمام الشافعي أنَّ الله تعالى لا يُعَذِّب أحْبابه، فإذا كنت مُحِبًّا لله ولِخَلْقِه ومُلْتَزِماً بِأمْره وترْجو رحْمته أنْشأ لك حقًّا عليه، وهو أن لا تُعَذَّب، وإنَّني أقول هذه الآية ألف مرَّة وهي قوله تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
أن يسْتوي هؤلاء وهؤلاء ؛ هذا يتناقض مع وُجود الله، يسْتحيل على من يخاف الله ويرْجو رحْمته وعذابه ويرْجو رِضاه، ويُخْلِصُ لِخَلْقِه ولا يؤْذيهم ولا يأخذ أموالهم ويطمْئنهم ويهْديهم إلى سبيل الله، فهذا الإنسان له حياة خاصَّة ؛ حياته غير حياتهم وزواجُه غير زواجهم وراحتُه غير راحتهم، وعمله غير عملهم.
ثمَّ قال تعالى:
﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)﴾
أحد الصحفيِّين والقصَّة لها ثلاثون سنة الآن هرب من بلده وذهب إلى بلدٍ آخر، وبدأ يُهاجم نظام بلده، واسْتطاعوا أن يأتوا، ماذا سيفعلون به ؟ هذا هو معنى قوْل الله عز وجل:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
كلُّ المخلوقات بيده الله عز وجل، وعُدَّ للمليار قبل أن تُفَكِّر بإيذاء إنسان وأخذ ماله وبيته أو محَلِّه التِّجاري فالله تعالى أكبر، وحَدَّثني مرَّة أخ وكان طيَّاراً، فقال لي: أثناء التَّدْريب كان في الطائرة خطا فسَقَطَت - طبْعاً قفز من المقْعد دون مِظَلَّة - واحْترقَت، فأقْسَم بالله أنَّه من لحْظة مُغادَرَتي الطائرة إلى لحْظة هُبوطي على الأرض، عُرِضَتْ عليَّ كُلُّ أعمالي ! واسألوا الناس أثناء الخطر لذلك قال تعالى:
﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
كيف أكل الأموال ؟ وكيف طَلَّق ؟ وكيف خالف الشَّرْع ؟.
ثمَّ قال تعالى:
﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
هاتين الآيتين تكفِيان، فالذي جاوز الحدّ كانت له جهنَّم جاهِزة، ومن قال إنِّي أخاف الله فإنَّ الجنَّة هي مأواه، واتِّباع الهوى هوان، واخَجْلتي من عِتاب ربِّي إذا قال لي أسْرَفْتَ يا فلان، إلى متى أنت في المعاصي تسير مُرْخى العِنان عندي لك الصُّلْح وهو بِرِّي وعندك السَّيْف والسِّنان، ترْضى أن تنقضي الليالي وما انقَضَت حرْبك العوان، فاسْتحي من كتابٍ كريم يُحصى به العقل واللِّسان، واستحي من شيبةٍ تراها في النار مَسْجونَةً تُهان، فالطاغي مأواه الجحيم، والتقي مأواه الجنَّة.
ثمَّ قال تعالى
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)﴾
كُلُّ واحِدٍ منَّا له عُمْر، كيف مضى هذا العُمْر ؟ السِّتين كيْف مَضَت ؟ وكذا الخمسين والأربعين ؟ يقول لك: البارحة كنَّا غلمان وفي المدْرسة، فإذا الأربعين مَضَت كَلَمْحِ البصر، فَمِن باب أولى العشرين، دائِماً هناك سؤال قاسي ومُحْرِج ؛ كم بَقِيَ لي ؟
إلى متى أنت باللَّذات مَشْغول وأنت عن كُلِّ ما قَدَّمْتَ مسْؤول
لا يلفت نظري إلا رجل بالأربعين ولا يُصلي، أو يُصلي وهو مُنشَغِل بالشهوات، أو لا يذكر الله ولا يقرأ القرآن، ولا يفعل الخير، كان لنا صديق من إخواننا يعْمل مُهَنْدِس، وكانت هناك أخوه صاحب شركة ضَخْمة، مُقيمٌ بالسّعودِيَّة، ثلاثين سنة ما صلى وما حجَّ، ويوماً ذَهَب لاستنبول، فمات هناك، ترك ثلاثة آلاف مليون ! خاسِر، الإنسان أحْياناً يقع في خطأ كبير حينما ينسى الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(67)﴾
لذلك كما قال تعالى:
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)﴾
يوم القيامة يوم مُخيف، وقبلها، مُغادرة الدنيا، وقبل المغادرة المرض الذي يسْبق الموت، لو زُرْتَ شخْصاً في مرَضِه تجد رقيقاً وخاضِعاً وهذا شيء جميل، لكن ليتنا أحْببنا الله قبل المرض ! ليتنا أحْببناه ونحن أقْوياء وأغْنياء.
أيها الإخوة، هاتان تكْفِيان كُلَّ إنسان ؛ قال تعالى:
﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
بالمناسبة، خُذوا منِّي هذه القاعِدة، يسْتحيل أن تخاف من الله، ثمَّ يُخيفك مِمَّن سِواه ! أما إن لم تَخَف منه يُخيفك من أحْقَر إنسان، يأتي شَخْص تافه يجعلك ترْجف، من اتَّقى الله هابهُ كُلُّ شيء، ومن لم يتَّق الله أهابه من كُلِّ شيء، إن أردْت أن تكون أقْوى فتَوَكَّل على الله، وإن أردْت أن تكون أغْنى الناس فَكُن بما في يدي الله أوْثق منك ممل في يَدَيْك، وإن أردْت أن تكون أكْرم الناس فاتَّق الله، وأرْجو الله سبحانه وتعالى أي ينفعنا بهذا القرآن الكريم، وأن يكون ربيع قلوبنا ومنْهج حياتنا.