وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة عبس - تفسير الآيات 1-10 ، عِتاب الله تعالى لِصالح النبي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام ، سورة عبس التي مَطْلعها بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)﴾

[ سورة عبس ]

 بعضهم يقولون إنَّ هذه الآيات هي عِتاب للنبي عليه الصلاة والسلام وفرْقٌ كبير بين أن يعْتِبَ الله عليه ، وبين أن يعْتِبَ له ، لو أنَّ لك ابناً لا يدْرس تَعْتَبُ عليه وتُعَنِّفُهُ أما إن كانت دِراسته فوق طاقته حيث يدْرس في الساعة الثانية والثالثة الرابعة ولا ينام الليل إطْلاقاً تُعَنِّفُهُ إلا أنَّكَ تعْتَبُ له لا عليه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يُخالف في هذا المَوْقف حُكْماً شَرْعِياً إنِّما جاءهُ زُعماءُ قُرَيْش ، وقد عقد عليه الصلاة والسلام الأمَلَ أنْ يهْتَدوا فإذا اهْتَدَوا اهْتَدى معهم خَلْقٌ كثير ، أيُّهما أهْوَنُ على النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يجْلس مع ابن أمّ مكْتوم الصحابيّ الجليل الذي يذُوبُ مَحَبَّةً للنبي أم أن يجْلِسَ مع مُعْرِضين وكُفار ؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام اخْتار الأصْعب ، واخْتار الذي يُرْضي الله تعالى أكْثر باجْتِهادِهِ فلو كان بابان لهذا المَسْجد ، ولا يوجد أيَّة علامة تُشير إلى أنَّ هذا الباب ممنوع الخُروج منه أو مسْموح ، وخرج أحدهم باباً من هذين ؛ فَهَل يُعَدُّ عاصِياً ؟! لا معْصِيَةَ إلا بالتَّكْليف ، فلو كان هناك تَكْليف وفعل النبي خِلافه فهذا يسْتحيل على النبي عليه الصلاة والسلام أن يفْعل خِلاف التَّكْليف ! إنَّما كان اجْتِهاداً منه صلى الله عليه وسلّم واخْتار الأصْعب فنحن قلنا لو أنَّ الأب رأى ابنه قد بالغ في الدِّراسة بحيث خاف عليه أبوه وعَنَّفه وعاتبه فهذا له وليس عليه ، والابن اخْتار الأصْعب وليس الأسْهل، لذلك العلماء قالوا: إنَّ الله جلَّ جلاله في هذه السورة يعْتَبُ لِصالِح النبي عليه الصلاة والسلام ولا يعْتَبُ عليه ، فقد لفت نظره إلى أنَّ هؤلاء الذين تريد أن تعْتني بهم لا خيْر فيهم ، ولا جَدْوى منهم ، ولا تُتْعِب نفْسَكَ معهم إذْ قُلوبهم مُغَلَّفَة ، قال تعالى:

 

﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون(6)ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم(7)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 فلأنَّ على قلوبهم غِشاوة خَتَمَ الله على قلوبهم ، وهذا الخَتْم هو تَحْصيلُ حاصِل ، فمنافذ العقْل والقلب السَّمْع والبصر فالله تعالى ختم على قلوبهم لأنَّ على سمْعهم وعلى أبْصارهم غِشاوة ، وحُبُّكَ الشيء يُعْمي ويُصِمّ فَحُبُّ الدنيا غِشاوةٌ على الحقّ فلا يسْمعه ، وغِشاوة على البصر فلا يرى الحق ! فَخَتْمُ القلب تحْصيل حاصِلٍ ، فَرَبُّنا عز وجل قَدَّر في النبي عليه الصلاة والسلام حِرْصَهُ على هِداية الخَلْق واهْتِمامه على هؤلاء الكِبار من زُعَماء قريش إلا أنَّهُ لفت نظره إلى أنَّ هؤلاء لا خير فيهم ، فلا داعي أن تُتْعِبَ نفْسَكَ معهم قال تعالى:

 

﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون(6)ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم(7)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 فَهَؤُلاء الذين يَرَوْن في هذه السورة مَطْعَناً للنبي عليه الصلاة والسلام واهِمون ، وقف النبي في أعلى دَرَجة من الكمال ، واخْتار الأصعب والذي لا يحْتَمِلُهُ بشَر ، فأعظم داعية بهذا البلد يختار أن يبقى مع أخٍ له في الله من أن يبقى مع مُلْحد يطْعن بالدِّين والقرآن ، فالنبي عليه الصلاة والسلام اخْتار الأصْعب ، ولأنَّهُ ليس هناك تكْليف فلا مَعْصِيَة بلا تكْليف فاجْتَهَدَ ، فالأمر كَمَن كان أسْتاذ لغة عربِيَّة ، وجاءَكَ ضَيْف مهمّ تبْني عليه طريقاً كبيراً في الدَّعوة ، ثمّ يأتي ابنك والحديث جارٍ ويقول لك: اُعْرض لي هذا البيْت !
ذكرتُ لأخٍ أنا يهمني ابنك أكثر منك ، فاسْتغرب ! لأنَّك أنت مَضْمون أما ابنك فأمامه مزالق كثيرة ، وألف إنسان يسْحبه للباطل ، وألف شيء مُغْري ، فأنت زبون مَضْمون.
فالله تعالى قال:

 

﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)﴾

 

[ سورة عبس ]

 أي هذا المنحرف الشارد ، الواقع عليه غضب الله ، كلَّما قلت كذا وكذا يقول لك ممكن أن تكون هذه المَقولة صحيحة ! ليس له تَلَهّف للحقّ ، أما المؤمن فله لَهْفة للحق ، وشَغَف ، وحبّ لِسَماع الحق ، ويبْدو هذا على وجْهه وعلى اهْتِمامه ، لذلك من تَكَلَّم بالحِكْمة لِغَيْر أهْلِها فقد ظَلَمها ومن منعها أهلها فقد ظَلَمهم ، والله عز وجل قال:

 

﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى(9)﴾

 

[ سورة الأعلى ]

 فأنت تُذَكِّر الإنسان في حياء وخجلٍ من الله تعالى ، ورحمة في قلبه أما هناك أناس شارِدون على منهج الله عز وجل فهؤلاء لا تُجْدي معهم النَّصيحة ، ولا تنْفعُ معهم حقيقة !
ثمَّ قال تعالى:

 

﴿ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)﴾

 

[ سورة عبس ]

 هل هذا تقْريعٌ أم وَصْفٌ ؟ هذا وَصْفٌ ! فالله تعالى وَصَفَ مَوْقف النبي عليه الصلاة والسلام فقال:

 

﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)﴾

 

(سورة عبس )

 ولم يقل له لمَ عَبَسْتَ ؟ ولِمَ لم تعْبس ؟ فهذا وَصْف ، فالله تعالى قال

 

﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

 

[ سورة عبس ]

 فالله عز وجل قال:

 

﴿ طه(1)مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2)إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3)﴾

 

[ سورة طه ]

 فَلِكَثْرة اهْتِمامه وصلاته وقِيامه وتِلاوته فكأنَّما يبْدو أنَّهُ شَقِيَ بهذا القرآن مِن شِدَّة ما تَحَمَّل من متاعب ، فالله عز وجل يُسَلي نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام ويُخَفِّفُ عنه ، مَهْلاً يا محمَد ، فقد روى البخاري ،

 

(( قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا *))

 

[ رواه البخاري ]

 فهل يُعْقل من خالق الكون أن يخلق المَجَرات يَتَوَدَّد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال تعالى:

 

﴿ وَالضُّحَى(1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3)وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الْأُولَى(4)وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5)أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى(6)وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى(7)وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(8)فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9)وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10)وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11) ﴾

 

[ سورة الضحى ]

 كُلّ واحد مِنَّا يُفَكِّر ؛ ألم تكن إنساناً صغيراً ؟! ألم تكن بلا بيْتٍ ولا زَوْجة فالله تعالى أكْرَمَك ورزَقَك ومَنَحَك شهادة عُلْيا ومَكَّنَكَ من حِرْفة وجعل لك شيئاً تَرْتَزِقُ به وسَتَرَك ورزقك ، ومنَحَكَ قوَّة وأراح لك بالك ، فَكُلّ إنسان يجب أن يُفَكِّر بِنِعَمِ الله عز وجل ، قال تعالى:

 

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)﴾

 

[ سورة الشرح ]

 أيها الإخوة الكرام ، هذه هي مُقَدِّمة هذه السورة ، إنَّهُ لا مَعْصِيَةَ إلا بعد التَّكْليف ، وإنَّ الله في هذه السورة عَتِبَ له لا عليه ، والنبي عليه الصلاة والسلام اخْتار الأصْعب ، واخْتار الذي يُكَلِّفُهُ ثَمَناً باهِظاً لكِنَّ الله جل جلاله لفَتَ نظره إلى أنَّ هذا الذي تَعْتني به لا خيْر فيه ، ودَعْكَ منه ولا تُلْقي له بالاً فإنَّ قلبه بعيدٌ عن أن يُصْغي إلى الحق.

 

تحميل النص

إخفاء الصور