وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة المطففين - تفسير الآيات 07 - 09 ، الكتاب الرقوم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل في سورة المطَفِّفون:

 

﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)﴾

 

[سورة المطففين ]

 أي أعمال الكفار كُلُّها مُثَبَّتة في كِتاب ثمَّ قال تعالى:

 

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)﴾

 

[ سورة المطففين ]

 كلمة مرْقوم تعني شيْئين: أنَّهُ مُرَقَّم، وتعني أنَّه مُصَوَّر، فالرَّقْم الصورة الرَّقم العدد، فهو إما مَرْقوم من الصورة، وإما مرْقوم من العدد، أحْياناً الدفاتِر التِّجارِيَّة مُرَقَّمة ومَخْتومة بالمالِيَة، فلا يسْتطيع البائِع إذا كتب مليون أن يمْحي هذا الرقم لأنّ صفحاته مُرَقَّمة ولا يُمْكن أن تُنزع منها صَفْحة، أما مرْقوم بِمَعنى مُصَوَّر وهو من الصورة أي كُلُّ مُخالفة مع صورتها، وهذا أبْلغ، فأنت إذا جاوَزْت السرْعة في الطريق يلتقط الرادار السرعة والوقت والرقم والشارع، وقد تكون صادِقَة أو كاذِبة لكن إذا كان معها صورة السيارة، ورقمها انتهى الأمْر كان هذا دليلاً، فَكِتاب الإنسان صَفْحاتُهُ مُرَقَّمَة ولا يُمْكن أن تُنْزَع منها صَفْحة، وهي مرْقومة أي لا يُمْكن أن تُنْزع منها الصُّوَر، لذلك هذا الكتاب يُعْرض على الإنسان يوم القِيامة، يقول كما قال تعالى :

 

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)﴾

 

[ سورة الكهف ]

 فأنت في الدنيا إذا شَعَرْتَ أنَّك مُراقَب، كيف تتصَرَّف ؟ إذا خطّك الهاتفي مُراقب ؛ كيف تشْعر ؟ وإذا عَلِمْت أنَّ فلاناً من الناس يُلاحقك كيف تشْعر ؟ فكيف إذا كنت تحت مُراقبة الله عز وجل، والآية:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)﴾

 

[ سورة النِّساء ]

 الإنسان يخاف الله قَدَر مَعْرِفَتِه به، ويرْحم الخَلْق بِقَدَر اتِّصاله به، وفي قلبك رحْمةٌ بِقَدْر اتِّصالك بالله، وتخاف منه بِقَدْر معْرفتك به، ولاحظ الإنسان أنَّه كلَّما ارْتقى علْمه ازْداد خوْفه أذْكر أنَّني دخَلْتُ مَرَّة لِمَعْمَل فَوَجَدْتُ صاحِبُه بألَمٍ شديد، وقال لي: انْظر ‍ فوَجَدْتُ كُلَّ شيء على ما يُرام، حتى أراني شَق موجود بالسَّقف وقال لي: جئت البارحة بِمُهَنْدس فقال لي الأساس في حال انْهِيار إذْ سُلِّطَت عليه المياه المالحة، فهي التي فَتَّتَتْ التربة تحت الأساس، وأقلّ تكلفة خمس مائة ألف ليرة تدْعيم للأساس! فهذا الشّق لما رآه المهندس قال: هناك انهيار ولو رآه دهان لقال مَعْجَنة، فانْظر الفرق بين أن تعجنه وبين أن تدعم الأساس كلَّه، فهذا هو الفرق بين العِلم والجَهْل، فكُلَّما ارْتقى العِلْم يشْتَدُّ الخوف، مرَّةً كنت جالساً مه طبيب جراح قلب فقُدِّم له قشْطة فلما رَضِيَ أن يأكلها، وهذا من شِدَّة ما يراه من انْسِداد الأوْعِيَة من هذه المأكولات، فَكُلّما ازْدادا العِلْم ازْدادا الخوف العكْس بالعكْس ومرَّة قال لي طالب: أنا لا أخاف من الله، فقلتُ له: أنت بالذات لك الحق أن لا تخاف الله ! فقال: كيف ؟ فقلت: أحْياناً الطِّفْل إذا أخذه أبوه معه إلى المزْرعة، وتركه، ثمّ جاءه ثعبان فإنَّ هذا الطِّفْل لا يخاف لماذا لأنَّه لا يُدْرك أنّ هذا الثعبان يقتل، وكذلك الإنسان إذا فقَدَ الإدْراك على الأمور فإنَّه لا يخاف منها !
 أشَدُّ الناس خوْفاً من الله رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد قيل له: مَثِّل بِهؤلاء الذي مَثَّلوا بِعَمِّك الحمْزة، فقال: لا أُمَثِّل بهم فَيُمَثِّل الله بي ولو كنت نَبِيًّا ! المؤمن يَعُدُّ للمليون قبل أن يؤْذي الإنسان، وقبل أن يُسَبِّب مشاكل ويهزّ كيانه ويؤذي إنسان يَعُدُّ للمليون، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾

 

[ سورة البروج ]

 هتف لي أحد الأشْخاص من أقص أمْريكا، وقال لي: يا أستاذ، أنا أعمالي تفوق حدّ الخيال ! ما هي ؟ قال: أُنْتِجُ أفلام الدعارة !! وقد تُبْتُ إلى الله تعالى من شريطٍ سَمِعْتُهُ لك حيث فَسَّرْت فيه قوله تعالى:

 

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾

 

[ سورة البروج ]

 وذَكَرْتَ قِصَّة نزَلَت عليَّ كالصاعِقَة: وهي أنَّ رجلاً مُتَزَوِّج كان له أبناء وبنات، وكان هَمُّه أن يتجوَّل في منطِقَة مملوءة بالنساء، يملأ عيناه بالنَّظر للحَسْناوات فأُصيب بِمَرض ارْتِخاء الجفون، بحيث لو أراد النَّظر رفع جفْناه بِيَدَيْه ! فقال: وقد أثَّرَت فيَّ هذه القِصَّة، وتَرَكَت فيَّ أثراً كبيراً، فالإنسان إن لم يخَف من الفله فهو أحْمَق وغَبِيّ وجاهِل، وأنت تخاف بِقَدْر معْرِفَتِك به، وترْحم الخلْق بِقَدْر اتِّصالك بالله، ومن لا يرْحم لا يُرْحم، وإن أرَدْتُم رحْمتي فارْحَموا خَلْقي، تجده يحلف أيمان كلُّها كذب ويغْتاب ويسْتَعْلي ويأكل مال حرام.
 قال لي أخٌ، الحمد لله يا أستاذ أنَّني بعْت البارحة أحداً من الناس سيارتي وفيها عطل بالمُحَرِّك ! وإذا به يأخذ سيارة من النوع الحديث واصْطدم بها بالباص بعد خمْسة أيام من يبعِهِ السيارة الأولى، والله عز وجل بالمرصاد، قال تعالى: إنَّ الله كان عليكم رقيباً، فَكُلَّما كبرت علمك به كلَّما ازْداد خوفك منه تعالى، وأشَدُّ الناس خوفاً من الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، والمؤمن يَعُدُّ للمليون قبل أن يتكَلَّم، عندنا أخٌ كريم يُعَدُّ أوَّل إنسان خبير بالكمبيوتر بالمعامل قال لي: دُعيت إلى أحد المعامل للإصلاح فلم أتناسب مع صاحب المعمل وقلت له: أنت بِحاجةٍ لي، فَتَركني ولم يقل شيئاً، وكان عنده مشكلة في الكمبيوتر فَبقيت معها ثمانِيَة أيام لم يتبيَّن معي الخطأ، ثمَّ قلتُ لعلِّي أُراجع نفسي فلرُبَّما قلت كلاماً مُخالفاً للشَّرْع فإذا بي أجد أنَّني قلتُ له: أنت بِحاجَةٍ لي !! فَتُبْتُ إلى الله، وفي اليوم التاسِع انْحَلَّتْ المُشْكلة بِرُبْع ساعة ! فإذا قلت: يا الله تولاك، وإذا قلت: أنا تَخَلَّى عنك، فهؤلاء الصحابة وقالوا: لن نُغْلب من قِلَّة، فقال تعالى:

 

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 وفيهم رسول الله، فهذا مُلَخَّص المُلَخَّص إذا قلت: يا الله تولاك، وإذا قلت: أنا تَخَلَّى عنك، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام بعث خادِماً فتأخَّر والنبي أدْركه الغضب الشديد، أنت إذا بَعَثْت واحِداً من أجل ربع ساعة لا يبقى خمْس ساعات ! فلما جاء قال له النبي عليه الصلاة والسلام: والله لولا خَشْية القِصاص لأوْجَعْتُكَ بهذا السِّواك، ماذا يفعل السِّواك ؟ ومَرَّ عليه الصلاة والسلام أمام صحابيٍّ يضرب غلامه، فقال له: اِعْلَم أبا ذَرّ أن الله أقْدر عليك منك عليه، وفي أحد المرات أوْقف الحجاج إنساناً لِيَقْتُلَه فقال له: أسألك بالذي أنت بين يَدَيه أذَلُّ منِّي بين يَدَيْك، وهو على عِقابك أقدر منك على عقابي، فاسْتَحْيى الحجاج من الله، وعفى عنه، فَعَظمة الإنسان كلّها على مليمتر شريان قلبه، وعلى خلاياه، ومتى حدث إشْكال أصبح في النَّعْي ! كان شَخْصاً ملء السمْع والبصر، وصار في الخبر، هذه هي الدنيا، فأنت أيها الأخ ترْحم الناس بِقَدْر اتِّصالك بالله فإذا كان قلبك قاسِياً فأنت مقْطوعٌ عن الله تعالى ولو صَلَّيْت، وأنت تخاف منه بِقَدْر معرِفَتِك به، وكلَّما ازْدَدْتَ معرِفَةً ازْدَدْتَ منه خوفاً، وأشَدُّ الناس خوفاً من الله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، هناك أشْخاص لا تتركه نفسه يقتل ولو نمْلة، ولقد دَخَلَت امرأة النار في هِرَّةٍ حَبَسَتْها فلا هي أطْعَمَتها ولا هي أطْلَقَتْها تأكل من الأرض، فعلى الإنسان أن ينتبه، فالحِساب شديد، وكُلُّ إنسان سَيُشاهد فلم فيديو يوم القيامة ؛ هكذا الآية كتابٌ مرقوم، قال تعالى:

 

﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)﴾

 

[ سورة الإسراء ]

 ذكروا أنَّ في ألمانيا إذا الضابط خان تُعْرض عليه خِيانته، ويُتْرَك له الحُكْم على نفْسه، فيأخذ مُسَدَّس ويقتل نفْسه، إياك أن تتجاوز، واطلب من الله السلامة، وإياك أن تحْتقر إنساناً، وأن تُخَوِّف إنساناً أو تقْهَرَه الإنسان بُنْيان الله وملْعونٌ من هَدَم بُنيان الله.

تحميل النص

إخفاء الصور