وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0320 - الوقت - معنى عميق.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الوقت أخطر شيءٍ في حياة الإنسان :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ نعود إلى موضوع الوقت ، والوقت أخطر شيءٍ في حياة الإنسان ، لأن الإنسان هو وقتٌ ، بضْعَة أيّام ، كلما انقضى منه يومٌ انقضى بضعٌ منه .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ينبغي للمؤمن الصادق الحق أن يشعر بقيمة الوقت ، يجب أن يشعر بقيمته حتى يغتنمه ، لن يغتمنه إلا إذا شعر بقيمته ، الله سبحانه وتعالى يقسم ويقول :

﴿ وَالْعَصْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1]

قال بعض علماء التفسير : العصر مُطْلَق الزمن ، لأن الزمن شيءٌ مصيريٌ في حياة الإنسان ، فينبغي للمؤمن أن يشعر بقيمة الوقت حتى يستطيع أن يملأ هذا الوقت بالخَيْر ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

الإنسان هو الوقت كلما انقضى منه يوم انقضى بضع منه

(( خيركم من طال عمره - فيه إشارة إلى طول الوقت- وحسن عمله ))

[الترمذي في السنن عن عبد الله بن بسر]

بالمقابل هناك من لا يشعر بقيمة الوقت ، لا يعرف له قيمةً ، يستهلكه استهلاكاً رخيصاً ، يسوِّف ، يؤجِّل ، يباعد ، يعجَز ، يتكاسل ، فالعجز والكسل والتسويف هذا من صفات غير المؤمن الذي لا يعرف قيمة الوقت ، والذي يستهلكه استهلاكاً رخيصاً .
بماذا دعا النبي عليه الصلاة والسلام ؟ دعا دعاءً فيه إشارةٌ دقيقةٌ إلى قيمة الوقت فقال :

(( اللهمَّ إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ))

[ أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

العجز والكسل ، يمضي الوقت بلا فائدة ، بلا جدوى ، في كلامٍ فارغ ، في مزاحٍ رخيص ، في مناقشاتٍ عقيمة ، في عملٍ لا يرضي الله ، في عملٍ لا يعود عليه بالخير لا في دنياه ولا في أخراه ، هذا الذي يستهلك الوقت لا يعرف قيمته ، وإذا عرف الإنسان نفسه ، عرف لماذا هو في هذه الدنيا ، وعرف قيمة الوقت ، فاغتنم هذا الوقت .

 

قيمة الوقت في حياة الإنسان :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ راقب نفسك كيف تستهلك الوقت
لو أن واحداً منَّا في سَفَر ، وهناك موعدٌ محددٌ دقيقٌ دقيق لإقلاع الطائرة ، وعنده قائمةٌ من الحاجات لابدَّ من أن ينجزها ، لماذا تجده يُسْرِع في إنجازها ؟ لماذا تجده لا يصرف وقتاً تافهاً ؟ لماذا يعرض عن كل لغوٍ ، عن كل سَفْسَفَةٍ ، عن كل عملٍ لا شأن له ؟ إذا كنت في سَفَر ، وإقلاع الطائرة له موعدٌ محددٌ لا يزيد ولا يتأخَّر ، وعندك قائمةٌ من الأعمال ، راقب نفسك ، راقب نفسك كيف تستهلك الوقت ؛ ترسم خطة ، تضع هذه الفقرة قبل هذه الفقرة ، من أجل أن تنجز كل هذه الأعمال في هذا الوقت المحدد .
إذا كنت في سفر ، وإذا كان إقلاع الطائر على موعدٍ دقيق ، وإذا كانت أمامك جُملة أعمالٍ لابدَّ من إنجازها ، هكذا ينبغي للمؤمن أن يكون في الدنيا .
إذا كنت في امتحان ، وهذا الامتحان له وقتٌ محدود ، والأسئلة كثيرة ، هل تستهلك الوقت في شيءٍ لا علاقة له بالامتحان ؟ إطلاقاً ، المؤمن العاقل هو الذي يُنَظِّم وقته ويستهلكه كما لو كان في امتحان ، أو كما لو كان في سفرٍ ، وموعد إقلاع الطائرة لا يتبدَّل .
أما إذا كان الإنسان في بيته ومع أهله فقد يرجئ إنجاز عملٍ سنواتٍ وسنوات ، لماذا ؟ لأن الوقت لا قيمة له وهو مقيمٌ في بلده ، أقول : هذه أنجزها غداً ، أو بعد غدٍ ، أو بعد شهرٍ ، أو في الصيف المُقبل ، أو في الشتاء المُقبل . إذا كنت مقيماً في بلدٍ لا تشعر بقيمة الوقت ، أما إذا كنت مسافراً وهناك أعمالٌ ضخمة لابدَّ من إنجازها ، عندئذٍ تشعر بقيمة الوقت .

 

إشارات في القرآن الكريم إلى الوقت :

يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ سؤالٌ دقيق : هل في القرآن الكريم إشاراتٍ إلى الوقت ؟ وإلى اغتنامه ؟ لاشكَّ ، لكن من أولى هذه الآيات قوله تعالى :

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

" هو " هذه الآية أصلٌ في حرية الاختيار ، لكل منكم يا عبادي وجهةٌ " هو " -تعود عليه-

﴿هو موليها﴾

لك أن تذهب يميناً أو شمالاً ، لك أن تذهب إلى المسجد أو إلى الحانة ، لك أن تصلي أو لا تصلي ، لك أن تأكل مالاً بالمعروف أو بغير معروف ، لك أن تُطْلِقَ بصرك في الحرام أو تغض بصرك ..

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

لك أن تقف إلى جانب الحق أو إلى جانب الباطل ، لك أن تفعل شيئاً يرضي الله أو لا يرضي الله ، لك أن تقف هذا الموقف ، لك أن تعطي ، لك أن تمنع ، لك أن تَصِل ، لك أن تَقْطَع ، هذا لك ، هذا هو الكَسْب ..

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾

[ سورة البقرة: 286 ]

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

ما الذي جاء بعد هذه الآية ؟ جاء قوله تعالى :

﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

الإنسان مخير واختياره هو الذي يثمن عمله
أيْ هذه الوِجْهَة التي يملكها الإنسان ، هذا الاختيار الذي ملَّكه الله إيَّاه ، هذه الحُرِّيَة في أن يفعل أو لا يفعل التي منحه الله إياها ؛ إنما هي مؤقَّتة ، إنما هي تنتهي بانتهاء الأجل ، لذلك :

﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

مادامت هذه الحرية التي تكسب بها العمل الصالح ، هذه الحرية التي يثمَّن بها عملك ، هذا الاختيار الذي يكسبك رضوان الله ، هذا ليس معك إلى الأبد ، هذا مؤقَّت ، هذا الاختيار ينتهي بالموْت ، ينتهي بانتهاء الأجل ، ينتهي بالانتقال إلى الدار الآخرة ، ما دام هذا الاختيار ينتهي ..

﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

وفي قوله تعالى : فاستبقوا الخيرات إشارةٌ إلى قيمة الوقت ، والدليل :

﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

هذا هو المَوْت ، إن كنت في بلدك ، أو كنت مسافراً ، إن كنت في صحةٍ تامة أو كنت في مرضٍ ، أو كنت في بحبوحةٍ أو كنت في فقرٍ، كنت شرقاً أو غرباً ، شمالاً أو جنوباً، في عملك ، في نزهتك ، في بيتك ..

﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

هذه الآية أيها الأخوة فيها ثلاث إشارات ؛ إشارةٌ إلى أن الإنسان مخيَّر ، وأن هذا الاختيار هو الذي يثمِّن عمله ، وإشارةٌ إلى أن الوقت ضيقٌ جداً فبادروا في استباق الخَيْرات ، وإلى أن الموت حَق ، ما من مخلوقٍ إلا وسوف يموت ، " كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت " ..

الليل مهما طال فلا بدَّ مِن طـلوع الفجـر
والعمر مهـما طال فلابدَّ من نزول القبر
* * *

أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ ثانية تُشير إلى قيمة الوقت ..

﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 133 ]

سارعوا المسارعة تعني أن هناك وقتاً محدوداً لابدَّ من أن تفعل فيه الشيء الكثير، فإذا استهلكته استهلاكاً رخيصاً ضاع عليك خيرٌ كثير ..

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 133 -134]

آيةٌ ثالثة يصف الله بها الأنبياء صلوات الله عليهم :

﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾

[سورة الأنبياء : 90]

تبديد الوقت و إتلافه من قِبل المنافقين :

يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أما المنافقون فهم يبددون الوقت ، يستهلكونه ، يضيّعونه ، يتلفونه ، لا يعرفون قيمته ، وصفهم الله عزَّ وجل فقال :

﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾

[سورة النساء : 142]

في آيةٍ ثانية :

﴿ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾

[سورة التوبة: 54]

أهمية الوقت في حياة كل إنسان :

النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيحٍ رواه التِرمذي ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : حديثٌ حسن ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( بادروا بالأعمال الصالحة، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

بادروا ، تسابقوا ، تنافسوا ، انطلقوا ، هذه الدنيا ماذا فيها ؟ لو أن الإنسان ترك العمل الصالح ، لو أنه كفر بالآخرة ، لو أنه قال : الدنيا هي كل شيء ، ولا شيء بعد الدنيا - كما يفعل عامَّة أهل الغَرْب- الدنيا هي كل شيء ، هي الجنة والنار . قال :

(( بادروا بالأعمال الصالحة، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

بادروا بالأعمال الصالحة
ماذا يعني مضيُّ الوقت ؟ ماذا يعني مضيٌ الزمن ؟ ماذا يعني أن تودِّع عاماً وأن تستقبل عاماً ؟ أن تودع أسبوعاً وأن تستقبل أسبوعاً ؟ ماذا يعني أن تودع الصيف وتستقبل الشتاء ؟ ماذا يعني أن تودع الشتاء وتستقبل الربيع ؟ ماذا يعني مضيُّ الوقت ؟ ماذا يخبِّئ الوقت للمعرض ؟ الوقت ماذا يخبِّئ للكافر ؟ ماذا يخبئ لمن أعرض عن الآخرة ؟ ماذا يخبئ الوقت لمن جعل القرآن وراء ظهره ؟ ماذا يخبئ الوقت لمن قال : إن الدين وهمٌ وخرافة ؟ ماذا يخبئ الوقت لمن قال : الإنسان هو سيد قدره ؟ ماذا يخبئ الوقت لمن قال : الدنيا هي كل شيء؟ ماذا يخبئ الوقت له ؟ قال :

(( بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً ...))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

مالٌ وفير وعلمٌ هزيل ، هذا المال الوفير مع العلم الهزيل يُطْغي ، يحمل صاحبه على الطُغيان ، على المَعصية والعدوان ، يحمله على أكل أموال الناس بالباطل ، يحمله على الكِبْر ، يحمله على البُعد عن الله عزَّ وجل ، يحمله على أن يستغني عن الله عزَّ وجل .

((ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً ، أو فقراً منسياً..))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

فقرٌ مدقِع يُنسيك كل شيء ، حاجةٌ ماسَّة إلى درهمٍ ، لا تجد في جيبك قوت يومك ، ماذا يخبئ الوقت لمن ترك الدين ؟ لمن ترك الإيمان بالله ؟ لمن ترك الآخرة ؟ لمن ترك منهج ربه ماذا يخبئ له الوقت ؟ ..

(( هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً ، أو فقراً منسياً ، أو مرضاً مفسداً ..))

مرضٌ عضال يصيب أجهزةً في الإنسان حسَّاسة ، تصبح الحياة جحيماً ، ماذا يخبئ الوقت للمعرضين ؟ ..

((أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنِّداً ... ))

شيخوخةٌ سمَّاها القرآن الكريم : أرذل العُمُر ، تضعف ذاكرته ، ويثقل ظله ، ويعيد الحديث آلاف المرَّات ، ويصبح حشرياً ؛ يحشر أنفه في كل شيء ، يتمنى الناس موته ..

((أو هرماً مفنِّداً ، أو موتاً مجهزاً ..))

يأتي الموت بغتةً وهو بين أهله وأولاده ، وهو في قمة نشوته ، وهو في قمة سعادته المزعومة يأتيه الموت ليأخذ منه كل شيء ، وليأخذه إلى لا شيء ، ماذا ينتظر أحدنا من الدنيا إن لم يستقمْ على أمر الله ؟ إن لم يعمل الصالحات ؟ إن لم يُقِم أمر الله في بيته ؟ إن لم يؤدِّ زكاة ماله ؟ إن لم يغضَّ بصره عن محارم الله ؟ إن لم يُحَرِّر دخله ؟ إن لم يربِّ أولاده ؟ إن لم يُحَجِّب زوجته ؟ ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ ماذا يخبئ الوقت ؟ ماذا يخبئ مضيُّ الوقت ؟ ماذا يعني مضيُ الليالي والأيام ؟ ..

(( هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً ، أو فقراً منسياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائبٍ يُنتَظَر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

هل بعد هذا الحديث الحَسَن - الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم - من حديثٍ يوضِّح قيمة الوقت ؟

 

الليل والنهار يبليان كل جديد ويقرِّبان كل بعيد :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال عليه الصلاة والسلام :

((من خاف أدلج ))

معنى أدلج أيْ سار في أوَّل الليل ، إذا خاف المرء ظلمة الليل ، ووحشة الليل ، والسِباع في الليل ، والضياع في الليل أدلج ..

((من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا وإن سلعة الله غالية ، ألا وإن سلعة الله الجنة ))

[ رواه الترمذي وحسَّنه عن أبي هريرة]

الليل والنهار يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد
هذا الحديث أيضاً يشير إلى قيمة الوقت .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الليل والنهار يُبليان كل جديد ، المنزل الجديد الذي تسكنه أول مرة خرج منه الدّهَّان لتوِّه ، وخرج منه الذي زينه لتوِّه ، وفُرِشَ بالأثاث الفَخم ، الليل والنهار يبليان كل جديد .
هذا الزواج في أوَّله يظن الزوج أنه سيغمس بالسعادة ، الليل والنهار يبليان كل جديد .
هذه المَركبة التي يركبها يظن أنها ستغمره بالسعادة ، الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد .
قد يقول قائل : أنا عمري طويل ، أين الموت مني ؟ ويقرِّبان كل بعيد ، أيامٌ وسنوات تمضي فإذا هو في الأربعين ، هو في الخمسين ، هو في الستين ، وإذا نعوته وُضِعَت على الجدران .
الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد ، ويطويان الأعمار ، ويُشيبان الصغار ، ويفنيان الكبار .
لذلك في القرآن الكريم إشارة إلى مُضِيِّ الليل والنهار ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190]

الاختلاف له معنيان : إما تفاوت الليل والنهار في الطول ، والقصر ، والإضاءة، والظلمة . أو أن الاختلاف أن يأتي الليل بعد النهار ، والنهار بعد الليل ، وهكذا دواليك حتى تقوم الساعة ..

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190]

التنظيم من ثمار معرفة قيمة الوقت :

يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أرضٌ تحيا ، حبةٌ تَنْبُت ، نباتٌ يزهر، زهرٌ يُثْمِر ، ثمرٌ يُقْطَف ، زرعٌ يصبح هشيماً تذروه الرياح ، أليس هذا يعني مضيّ الوقت ؟ جنينٌ يتكوّن ، طفلٌ يولَد ، وليدٌ يَشِب ، شابٌ يكتَهْل ، كهلٌ يشيخ ، شيخٌ يموت ، أليس معنى هذا أن الوقت يمر سريعاً ؟
يسرٌ وعُسر ، الوقت يكفي لتبديل العُسر يسراً ، واليُسر عسراً ، كل حالٍ يزول، والوقت يكفي لتبديل الغنى فقراً والفقر غنىً ، والصحة سقماً والسقم صحةً ، والسرور حزناً والحزن سروراً ، والشدة رخاءً والرخاء شدةً ، والسرَّاء ضرَّاء والضرَّاء سرَّاء ، الوقت يبدِّل..

﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾

[ سورة آل عمران: 140]

هذا أيضاً يُشْعِرُ بمضي الزمن .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ ثانية تشير إلى مضي الوقت ..

﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

[ سورة النور : 44]

أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا اعتبرت بمضي الوقت ، وإذا عرفت قيمة الوقت ، وإذا أدركت خطورة الوقت ، وإذا أيقنت أنك وقت ، وأن هذا الوقت مُحَدد مؤقَّت ، إذا أدركت كل ذلك لابدَّ من أن تنظِّم وقتك ، لابدَّ من وقتٍ إلى الله تعالى تتعرَّف إليه ، يتمثل هذا في حضور مجالس العلم ، في معرفة تفسير كتابه الكريم ، في معرفة تفسير سُنَّته الشريفة - سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام - في معرفة سير الصحابة والتابعين ، لابدَّ من وقتٍ تعرف فيه منهجك ، ومنهجك التطبيقي هو السُنَّة النبوية ، لابدَّ من وقتٍ تكسب فيه رزقك ، لابدّ من وقتٍ تؤدّي فيه واجبك تجاه أهلك ، لابدَّ من وقتٍ تُمضي فيه حوائجك .
العاقل لا يسمح لفِقْرَةٍ من هذه الفقرات على أن تطغى على أختها، لا يسمح لك الشرع الحنيف أن تُنَمِّي جهةً على حساب جهة ، قال النبي عليه الصلاة والسلام :

(( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدنياه ، حتى يصيب منهما جميعا ، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ))

[ كنز العمال عن أنس ]

لابدَّ من وقتٍ تعرف فيه ربك
لابدَّ من وقتٍ تعرف فيه ربك ، تعرف فيه المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه ، لابدَّ من تأمُّلٍ في الكون حتى تعرفه ، ولابدَّ من أن تعرف الشرع حتى تعبده .
إذاً هذا الوقت الذي تقتطعه من زُبدة وقتك لمعرفة الله هو أهم أوقات حياتك ، إذا صَحَّ هذا الوقت وصحَّ ما فيه صحَّت حياتك .
ولابدَّ من أن تكسب رزقك ، لابدَّ من أن تكون يدك هي العُليا ، لابدَّ من أن تكون محسناً ، لابدَّ من أن تكفي أهلك وأولادك ، لذلك لابدَّ من وقتٍ تكسب فيه رزقك ، ولكن الوقت الذي تكسب فيه رزقك يمكن أن يكون وقت عبادة إذا كانت حرفتك مشروعةً في الأصل ، ومارستها بطريقة مشروعة ، وابتغيت بها وجه الله ، وخدمة المسلمين ، وكفاية نفسك ، ولم تلهك هذه الحرفة عن طاعة الله ، ولا عن أداء واجباتك الدينية ، إذا كانت كذلك انقلبت هذه الحرفة عبادة ، هذا الوقت الثاني .
ولابدَّ من وقتٍ تهتم فيه بأهلك وأولادك ، لأن لأهلك عليك حقاً ، ولابدَّ من وقتٍ تقضي به حوائجك الخاصّة ، هذا التنظيم من ثمار معرفة قيمة الوقت .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مما رواه النبي عليه الصلاة والسلام عن صحف إبراهيم أنه قد جاء فيها : " ينبغي للعاقل ما لم يكن مغلوباً على أمره أن يكون له أربع ساعات : ساعةٌ يناجي فيها ربه ، وساعةٌ يحاسب فيها نفسه ، وساعةٌ يتفكر فيها بصنع الله عزَّ وجل ، وساعةٌ يخلو بها لحاجاته من المطعم والمشرب " .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أصحاب الأعمال الضاغِطَة ، أصحاب المسؤوليات الكُبرى الذين ينجحون في الحياة هم أشدّ الناس حاجة إلى تنظيم الوقت ، لأن نجاحهم في الحياة قد يجعل جانباً من حياتهم يطغى على جانبٍ آخر ، ينجحون في الدنيا ويضيِّعون الآخرة، ينجحون في علاقاتهم العامَّة ، ويضحون بعلاقاتهم الخاصة ، ينجحون في كسب المال، ويخفقون في كسب رضوان الله عزَّ وجل ، هؤلاء المُثْقَلون بالأعمال ، هؤلاء الذين تزاحمت عليهم الحاجات هم أحوج الناس إلى تنظيم الوقت .

 

ما يعين الإنسان على متابعة الطريق بهمةٍ ونشاط :

يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ خطيرٌ في موضوع الوقت هو أنك إذا عرفت لماذا أنت في الدنيا ، وما أفضل شيءٍ تفعله في الدنيا ، هذه المعرفة تجعلك تقيِّم كل شيءٍ في ضوء هذه الحقيقة ، تعرف هذا الشيء ، علاقته بهدفك ، علاقته بالدنيا ، علاقته بالآخرة ، علاقته بالأهداف المشروعة ، علاقته بالمصالح الحقيقية ، هذا الشيء يجعلك أقرب إلى الله فتفعله ، هذا يبعدك عن الله فتتجنَّبه ، إذا عرفت لماذا أنت في الدنيا ، عندئذٍ تستطيع أن تقوِّم كل شيءٍ في حياتك .
أفضل ما تفعله في الدنيا أن تعرف سر وجودك
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نُقِلَ عن الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه أنه قال : " روِّحوا القلوب ساعةً بعد ساعة فإن القلوب إذا كلَّت عَمِيَت " .
أيْ إذا كنت في صحراء ، والطريق طويلة ، والحرُّ شديد ، والرمال لافِحَة ، والماء قليل ، لابدَّ من واحةٍ من حينٍ إلى آخر تستريح بها ، لتستعيد النشاط على السير الجديد . " روِّحوا القلوب ساعةً بعد ساعة فإن القلوب إذا كلَّت عَمِيَت " .
النبي عليه الصلاة والسلام كان يتخوَّل أصحابه بالموْعِظَة ، وكان يمزح مع أصحابه ولا يمزح إلا حقاً ، وكان إذا دخل بيته دخل بسَّاماً ضَحَّاكاً ، وكان يقول :

((لا تكرهوا البنات فإنهن المؤنسات الغاليات))

[ شرح الجامع الصغير عن عقبة بن عامر ]

فشيءٌ من المرح ، وشيءٌ من الطلاقة ، وشيءٌ من اللهو البريء الذي يرضي الله عزَّ وجل ، هذا يعينك على متابعة الطريق بهمةٍ ونشاط .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

((خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ))

[ الجامع لأحكام القرآن عن عائشة ]

وفي حديثٍ آخر :

((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا ))

[ الجامع الصغير عن أبي هريرة]

أيها الأخوة الأكارم ؛

(( صم وأفطر، وقم ونم، فإن لبدنك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً))

[متفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]

وفي ختام هذا الموضوع يقول عليه الصلاة والسلام :

((إنما أنا أخشاكم لله وأتقاكم ، ولكني أنام وأقوم ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، هذه سنتي فمن رغب عنها فليس من أمتي ))

[ سنن النسائي عن أنس ]

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ، فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين .

* * *

الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

إشارات في القرآن الكريم تلفت النظر :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ يحوي القرآن الكريم إشاراتٍ تُلفت النظر، قال تعالى :

حكمة القرآن الكريم وفّقت بين معطيات العصور

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾

[ سورة الحج]

عميق ، قد يسأل سائل : لمَ لمْ يقل الله عزَّ وجل : وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج بعيد ؟ لمَ قال : " من كل فجٍ عميق " ولم يقل من كل فجٍ بعيد ؟
قال العلماء : إن في استعمال هذه الكلمة - كلمة عميق - مكان كلمة بعيد ، إشارةً إلى كروية الأرض . فالخطوط على سطح الأرض ليست مستقيمةً ولكنها منحنية . والخط المُنحني يحتاج إلى بُعْدٍ ثالث . يحتاج إلى سَطْحٍ وإلى عُمْقٍ . لذلك أشار ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية إلى أن هذه الأرض التي نحن عليها هي أرضٌ كرويةُ الشكل .
ولكن الشيء الذي يُلفت النظر هو أن حكمة القرآن الكريم وفَّقت بين معطيات العصر الذي أنزل فيه القرآن ، وبين معطيات العصور اللاحقة .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور