- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (084) سورة الانشقاق
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
سورة الانشقاق : فلا أقسم بالشفق .....
مركز ثقل هذه السورة قوله تعالى : لتركبن طبقا عن طبق .
أيها الإخوة الكرام ؛ في سورة الانشقاق آيات كريمة وهي قوله تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ﴾
مركز الثِّقل في هذه الآية ، قوله تعالى :
﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ﴾
فالإنسان يمْشي في ممرّ إجباري وينتقل من حال إلى حال ، ومن اهْتِمام لآخر إلى أن ينتهي الأجل ويُحاسبه الله على كُلِّ أعماله فالطِّفْل يولد وأوَّل موضوع بِوِلادته أنَّه سليم أو غير سليم ، فإذا أدْرك الأب والأمّ أنَّه سليم شكرا الله عز وجل على ذلك ، هذا أوَّل طبَق ؛ سَلامة المَوْلود ثمَّ يفرح الأهل حينما تظْهر أسنانه ، وحينما يمْشي وحينما يُصْبِحُ نظيفاً ، ثمَّ حينما يقول بابا وهي أوَّل كلمة ، كُلُّ طَوْر من أطْوار الطِّفْل طبَق ، والآن أصبح في سِنِّ المدْرسة وذهب إلى هناك ، وحفظ بعض الأناشيد ، وطرِبَ له الأهْل ، ثمَّ دخل الإعدادي ثمَّ الثانوي ، ثمَّ موضوع الجامعة ومُسْتقبله ، ثمَّ موضوع العَمَل ، وموضوع الدِّراسة ، ثمَّ موضوع الزواج ، وكذا مُشْكِلَة العُقْم ، وما أنْجب ، فإذا أنْجب أصْبح الموضوع موضوع ثاني ، وهو ترْبيَتُهم وتعليمهم وتزْويجهم ، وكذا موضوع الصِّحَة ، قال تعالى :
﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ﴾
يوم خطَب دخل في موضوع المرأة ؛ تَوَفَّقْت أم لم تُوَفَّق ! طويلة أم قصيرة ! جميلة أم دميمة ، هذه قِصَّة الناس جميعاً ، وآخر شيء صِحَّته ، معه كولسترول أو الْتِهاب مفاصل أو ضَعْف أسنانه ، والشُّحوم الثلاثيَّة مُرْتَفِعة ، فالصِّحة طَبَق وتَزْويج بناته طَبَق ، وكذا أولاده ونجاحه في زواجه طَبَق ، نوعُ زَوْجَته طَبَق ودِراسَتُه طبَق ، قال تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴾
الأرض كُرَة ، ولا يوجد شَكْل هَنْدسي تتداخل فيه الظُّلْمة والنور كالكُرَة قال تعالى :
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾
لو أنَّ الأرض مُكَعَّب يدور يأتي النور فجْأةً ، ويأتي الظلام فَجْأةً ، أما لأنَّ الأرض كُرَة يتداخل الظلام مع النور ، غابَتْ الشَّمْس أما الجوّ واضِح كيف يتلاشى الضوء شَيْئاً فشَيئاً خِلال عِشْرين دقيقة ؟ دَخَلْنا فيما بين المغرب والعِشاء ، ففي العِشاء اخْتفى الشَّفَق ، وما دام هناك شَفَق معنى ذلك أنَّ آثار الشَّمْس لا تزال واضِحَة ، لأنّ الشَّمْس أشِعَّتها مُسْتقيمة والأرض كُرَة ، فلَمَّا غابَتْ عَيْنُ الشَّمْس بَقِيَت أَشِعَّتُها ، وأشِعَّتُها تصْطدِم بالسَّحاب فَتَجِد أنَّ هناك شَفَق أحْمر ، وهو سحاب جاءَتْهُ أَشِعَّة الشَّمْس ، والأرض تدور وهي كُرَة ، والشَّمْس ثابتة ، والشَّفَق آيَةٌ دالَّةٌ على عَظَمَة الله ، وعلى كُرَوِيَّة الأرض ، وعلى أَشِعَّة الشَّمْس وعلى السُّحُب ، لذلك وَقْت العِشاء هو وقْتُ غِياب الشّفق ، ووقْتُ المغرب هو وَقْتُ غِياب عَيْن الشَّمْس ، وَقْتُ الفَجْر هو وَقْتُ بدء أثر الشَّمْس قبل أن تظْهر عَيْنُها ، والمغرب كالفجْر تماماً ، فالمَغْرب غابَتْ عَيْن الشَّمْس وبَقِيَ ضوءها ، والفجْر جاء ضوءها قبل أن تأتي عَيْنُها ، فالفَجْر ظُهور آثار الشَّمْس ، قال تعالى :
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾
فالفجر الصادق يظْهر في خَيْط أبيض في الأُفُق والشَّمْس ظُهور عَيْن الشَّمْس والظُّهْر انتِصاف الشَّمْس في كَبِد السَّماء مع الزوال قليلاً ، والمغْرِب غِياب عَيْنِ الشَّمْس ؛ بين انْتِصاف الشَّمْس في كَبِد السَّماء وبين غِيابها العَصْر ، والعِشاء غِيابُ الشَّفَقِ الأحْمَر فقوله تعالى :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾
هذه الأوقات الخَمْس فَزُلُفاً من الليل هو الفجْر والعِشاء ، وطَرَفَي النَّهار شُروق الشَّمْس وغِيابها، وضِمْن النَّهار الظُّهْر والعصْر ، قال تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴾
ما علاقة الشَّفَق بتَرْكَبُنَّ طبَقاً عن طبَق ؟ الذي خلق الكون هو الذي خلق الإنسان ، وهو الذي صَمَّم هذا الإنسان لِيَمُرّ من طوْر لآخر وهو الذي سَيُحاسِب الإنسان ، وكما قال بعض الفلاسفة في فرنسا : عوامل السعادة ثلاثة : الوقت والصِّحة والمال ، بِمَنْظورهم وفَهْمِهم دائِماً ينْقصك أحد عوامل السعادة ، ففي سِنِّ الشباب ينقصك عامل المال ، ويكون لك عامِلَي الصِّحة والوقت ، وفي منتَصف العُمر ينقصك الوقت ، فلصِّحة موْجودة والمال موجود لكن لا يوجد وَقْت ، لأنَّها مرحلة تأسيس الأعمال ، وفي خريف العُمر ينقصك الصِّحة ، ففي مَنْظور أهْل الدنيا الإنسان دائِماً تنقصه أحد عوامل السعادة ، أما في منظور الإيمان حينما تعرف الله عز وجل وتَصْطَلِح معه وتُطَبِّقُ منهجه فأنت معه دائِماً ، تُواجِهُ كُلَّ مُشْكِلات الحياة من دون قلق وخوف ، ومن دون ألَم والله عز وجل إذا مكا أقْسم كان هناك معنى ، وإذا لم يُقْسِم كان هناك معنى آخر ، فإذا قال تعالى :
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾
أقْسم ، وكذا قال تعالى :
﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
والليل إذا يغشى ؛ كُلُّ هذا قَسَم ، أما إذا قال :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ ﴾
العلماء قالوا : إذا لم يُقْسِم فبالنِّسْبة إليه ، وإذا أَقْسم فبالنِّسْبة إلينا ، وهناك معنى آخر وهو أنَّه تعالى إذا قال :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾
أي أنَّ هذا الأمْر شيء بديهي ، قال تعالى :
﴿ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾
نحن الآن في طَوْر التَّبليغ وفي طَوْر التَّكْليف ، ونحن الآن في طَوْر السماع ، وباب المَغْفِرَة مَفْتوح ، وباب التوبة الصُّلْح مع الله تعالى مَفْتوح الأبواب الآن كُلُّها مُفَتَّحَة فإذا جاء الأَجَل أُغْلِقَت هذه الأبواب كُلُّها وعندها يقول :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
يتمنَّى أنْ يُؤَخَّر ساعة والله تعالى يقول : ولن يُؤخِّر الله نفْساً إذا جاء أجلها فالإنسان يسْتَغِلّ وقْته ، وكان عليه الصلاة والسلام يمْشي مع أصْحابه فرَأَوْا قبْراً فقال صاحب هذا القَبْر إلى رَكْعَتَيْن مِمَّا تحْقِرون من تنفُّلِكم أفضل عنده من كُلِّ دُنياكم ، دُنيا عريقة فيها محَلات ومعامل وقُصور ومزارع ، فالإنسان أيُّ طبق كان فيه فباب التوبة مَفْتوح ؛ بالكُهول أو الشباب أو بعده وأخْطر شيء بالحياة أن يُعَلِّق تَوْبَتَهُ على أحد الأطباق كأن يقول إلى أن أتزَوَّج أو إلى أن أُأَسِّس عَمَلاً ، أو حينما أعود من السَّفر ، أو حينما أُنْجِبُ الأولاد ، وقد ورد بالأثر : هلَكَ مُسَوِّفون " لا ترْبط صُلْحك مع الله بِطَبَق من هذه الأطْباق ، أَنْهَيْت الزواج جاء الأولاد وأنْهَيْت الأولاد جاءت الصِّحة ، فأَيُّ إنسان يربط صُلحه مع الله بِطَبَق من هذه الأطباق فقد ضلَّ سواء السبيل ، الصُّلْح مع الله تعالى يُبْرم فَوْراً فأنت لك يوم مَشهود ، ويوم مَوْعود ، ويومٌ مَوْرود ، ويومٌ ممدود ، ويومٌ مَفْقود أخْطر أيَّامِك المَشْهورة ؛ ففيه تَتُوب ، وفيه تؤمن ، وفيه تعبد وتفعل الخير وتطلب العِلْم ، إذاً مرْكز الثِّقل في هذه الآية لترْكَبُنَّ طبَقاً عن طبَق ، ولا يجوز أبداً أن تربط تَوْبتك بِأحد هذه الأطباق ، وحتى الذين يموتون عندهم قوائِم أعمال لم تنْتَهِ ، سَل أهْل المُتَوَفَّى تجد له بنود كثيرة لم تَنْتَهِ ، وقد جاءَه الموت ، فأَيُّ إنسان - هنا النقطة الدقيقة - يُعَلِّق صُلْحَهُ مع الله بأحد هذه الأطباق فقد ضلَّ سواء السبيل ، وهذه الأطباق لابدّ منها ، وكُلّ وَقْت له هُموم ، فهذا هو اكبر خطأ ؛ التَّسْويف ، وهذه الأطباق لا علاقة لها بإيمانك ، وهي مَمَرّ إجْباري لِكُلّ الناس ، فَكُلّ إنسان بِحَسَب سِنِّه له اهْتِمامات ، فعلى مُسْتوى الطلاب تجدهم يتكلَّمون على الأساتذة ، ويجعلوا حديثهم واهْتِمامهم على العلامات ومستوى الامْتِحانات ، ولما يخْطب حديثه على النِّساء ، وما اتَّصل بهم ، فهذه الأطباق مَمَرّ إجباري لِكُلِّ الناس ، فلا تربط هذا بالدِّين .