وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0950 - حكمة الحج .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

حكمة الحج :

أيها الإخوة الكرام، فضلاً عن العقائد التي تعد أساس الدين، فإن في الإسلام عبادات تنظم علاقة الإنسان بربه، وفي الإسلام معاملات تنظم علاقة الإنسان بأخيه، وإذا صحت العبادات ارتقت المعاملات، أو إذا صحت المعاملات قُبِلت العبادات، بل إن ارتقاء المعاملات مؤشر على صحة العبادات، والعبادات معللة بمصالح الخلق.
بينما في الأديان التي وضعها الإنسان، العبادة حركات وسكنات، وتمتمات وإيماءات وإشارات، لا معنى لها إطلاقاً.
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام شرع لعلكم تتقون، والزكاة تطهرهم وتزكيهم، العبادات إذاً معللة بمصالح الخلق.
هي تهدف أول ما تهدف إلى السمو بالإنسان نفساً، وقولاً، وعملاً عن طريق إحكام الصلة بالله رب العالمين، والاهتداء بهديه، والتنعم بقربه، والتقلب في رحمته، والارتشاف من عذب شرابه، وقطف ثمار فضله، من هذا المنطلق شرعت العبادات الشعائرية كالصلاة والصيام والحج.

  وصف عبادة الحج :

أيها الإخوة الكرام، نحن في العشر الأول من ذي الحجة، فالحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة مالية، بدنية، شعائرية، وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار، ينتقل فيها المسلم ببدنه وقلبه إلى البلد الحرام، ليطوف في بيت الله العتيق الذي جعله الله رمزاً لتوحيد الله، ووحدة المسلمين، ففرض على المسلم أن يستقبله كل يوم خمس مرات، وفرض عليه إن كان مستطيعاً أن يتوجه إليه بشخصه، ويطوف به بنفسه في العمر مرة واحدة، ولكن:

 

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( قال الله: إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ))

[ حديث صحيح لغيره، أخرجه أبو يعلى والطبراني وابن حبان ]

ومن حج بمال حرام، ووضع رجله في الركاب، وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى: أن لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك.

أيها الإخوة الكرام، الحج برهان عملي، يقدمه المؤمن لربه ولنفسه، على أن تلبيته دعوة الله بدافع محبته، وابتغاء رضوانه، أفضل عنده من ماله وأهله، وولده وعمله، ودياره ومنصبه.

  ثمرات عبادة الحج :

ومما تتميز به هذه العبادة أنها تحتاج إلى تفرغ تام، فلا تؤدى إلا في بيت الله الحرام، إذاً لابد من مغادرة الأوطان، وترك الأهل والخلان، وتحمل مشاق السفر، والتعرض لأخطاره، وإنفاق المال في سبيل رضوان الله، وإذا صح أن ثمن هذه العبادة باهظ التكاليف، فإنه يصح أيضاً أن ثمرة هذه العبادة باهرة النتائج، حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري ومسلم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( من حج لله عز وجل، فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رجع كيوم وَلَدَتْهُ أمُّه ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمرو بن العاص:

(( أما علمتَ أن الإسلامَ يهدِم ما كان قبله، وأن الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ))

[ حديث رواه البزار، ورجاله ثقات ]

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( تَابِعوا بين الحج والعمرة، فإنهما يَنْفِيان الذُّنُوبَ والفَقْرَ، كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، ولَيسَ لِحجَّة مبرورة ثواب إلا الجنة ))

[ حديث صحيح، أخرجه النسائي ]

والنفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله.

 

  من حِكَم عبادة الحج :

أيها الإخوة الكرام، لعل محور هذا الموضوع حكمة الحج:
يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويخلف في بلدته هموم المعاش والرزق، هموم العمل والكسب، هموم الزوجة والولد، هموم الحاضر والمستقبل.
وبعد أن يُحرِم من الميقات يبتعد عن الدنيا كلياً، ويتجرد إلى الله عز وجل، ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

  1) من معاني التلبية :

هذه التلبية كأنها استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلب المسلم، أن يا عبدي خلِّ نفسك وتعال:
تعال يا عبدي لأريحك من هموم كالجبال تجثم على صدرك.
تعال يا عبدي لأطهّرك من شهوات تنغّص حياتك.
إلى متى أنت في اللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
تعال يا عبدي، وذق طعم محبتي.
تعال يا عبدي، وذق حلاوة مناجاتي.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

 

تعال يا عبدي لأريك من آياتي الباهرات.
تعال يا عبدي، لأريك ملكوت الأرض والسماوات.
تعال يا عبدي لأضيءَ جوانحك بنوري الذي أشرقت به الظلمات.
تعال يا عبدي لأعمر قلبك بسكينة عزت على أهل الأرض والسماوات.
تعال يا عبدي لأملأ نفسك غنىً ورضىً شقيت بفقدهما نفوس كثيرات.
تعال يا عبدي لأخرجك من وحول الشهوات إلى جنات القربات.
تعال يا عبدي لأنقذك من وحشة البعد إلى أنس القرب.
تعال لأخلصك من رعب الشرك، وذل النفاق، إلى طمأنينة التوحيد، وعز الطاعة.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

تعال يا عبدي لأنقلك من دنياك المحدودة، وعملك الرتيب، وهمومك الطاحنة إلى آفاق معرفتي، وشرف ذكري، وجنة قربي.
تعال يا عبدي، وحط همومك ومتاعبك ومخاوفك عندي، فأنا أضمن لك زوالها.
تعال يا عبدي، واذكر حاجاتك، وأنت تدعوني، فأنا أضمن لك قضاءها.
إن بيوتي في الأرض، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحق على المزور أن يكرم الزائر.
كيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات، وتجشمت المشقات، وتحملت النفقات، وزرتني في بيتي الحرام، ووقفت بعرفة تدعوني، وتسترضيني؟!
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

تعال يا عبدي، وزرني في بيتي لتنزاح عن الهموم، ولتعاين الحقائق، ولتستعد إلى اللقاء.

(( قال الله: إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ))

[ حديث صحيح لغيره، أخرجه أبو يعلى والطبراني وابن حبان ]

تعال يا عبدي، وطف حول الكعبة طواف المحب حول محبوبه، واسعَ بين الصفا والمروة سعي المشتاق لمطلوبه.
تعال يا عبدي، وقبّل الحجر الأسود، واذرف الدمع على ما فات من عمر ضيعته في غير ما خلقتَ له، وعاهدني على ترك المعاصي والمخالفات، والإقبال على الطاعات والقربات، وكن لي كما أريد، لأكن لك كما تريد.
كن لي كما أريد، ولا تعلمني بما يصلحك، فإن سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد.
خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

2) من معاني الوقوف في عرفات :

تعال يا عبدي إلى عرفات، يوم عرفة، هو يوم اللقاء الأكبر.
تعال لتتعرض لنفحة من نفحاتي، تطهر قلبك من كل درن وشهوة، وتصفي نفسك من كل شائبة.
هذه النفحات تملأ قلبك سعادة وطمأنينة، وتشيع في نفسك سعادة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم، عندئذ لا تندم إلا على ساعة أمضيتها في القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
تعال إلى عرفات، يوم عرفة، لتعرف أنك المخلوق الأول من بين كل المخلوقات، ولك وحدك سخرت الأرض والسماوات، وأنك حملت الأمانة التي أشفقت منها الجبال والأرض والسماوات، وأني جئت بك إلى الدنيا لتعرفني، وتعمل صالحاً يؤهلك لدخول الجنة.
تعال إلى عرفات، لتعرف أن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وأنك إن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء.
بعد أن يذوق المؤمن اللذة في عرفات، من خلال دعائه وإقباله، واتصاله وروعة لقائه، وحلاوة مناجاته، ينغمس في لذة هي لذة القرب، عندئذ تصغر الدنيا في عينيه، وتنتقل من قلبه إلى يديه، ويصبح أكبر همه الآخرة، فيسعى إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقد يكشف للحاج في عرفات أن كل شيء ساقه الله إليه مما يكرهه هو محض عدل، ومحض فضل، ومحض رحمة، ويتحقق من قوله تعالى:

﴿ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

(سورة البقرة: 216)

 3) من معاني رجم الجمار :

وبعد أن يفيض الحاج من عرفات، وقد حصلت له هذه المعرفة، واستنار قلبه، وصحت رؤيته يرى أن السعادة كلها، وأن النجاح كله، وأن العقل، وأن التوفيق، وأن الفلاح في طاعة الله وحده، وأن الشقاء كله، والهلاك كله في معصيته، عندئذ يرى عداوة الشيطان، وكيف أنه يعد أولياءه بالفقر إذا أنفقوا، ويخوفهم مما سوى الله إذا أنابوا وتابوا، ويعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

(سورة إبراهيم: الآية 22)

عندئذ يعبِّر هذا الحاج عن عداوته للشيطان تعبيراً رمزياً برمي الجمار، ليكون الرمي تعبيراً مادياً وعهداً موثقاً في عداوة الشيطان ورفضاً لوساوسه وخطراته.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان، وتقصم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله عز وجل.
وبين قوسين: لو عاد الحاج إلى بلده، وعاد إلى معصية الله يكون الشيطان هو الذي رجمه، إما أن ترجمه بطاعتك، وإما أن يرجم الشيطان هذا الإنسان بمعصيته.

4) من معاني ذبح الهدي :

وحينما يتوجه الحاج لسوق الهدي ونحر الأضاحي، وكأن الهدي هدية إلى الله عز وجل، تعبيراً عن شكره لله تعالى، تعبيراً عن شكره لنعمة الهدى التي هي أثمن نعمة على الإطلاق، وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة ورغبة في إرضاء الله عز وجل، وتضحية بكل غال ورخيص، ونفس ونفيس في سبيل مرضاة الله رب العالمين، قال تعالى:

﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾

(سورة الحج: الآية 37)

 5) من معاني الطواف :

ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه الحقائق وتلك المشاعر، ثم يطوف طواف الوداع لينطلق منه إلى بلده إنساناً آخر استنار قلبه بحقائق الإيمان وأشرقت نفسه بأنوار القرب، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه، وإذا صح أن الحج رحلة إلى الله، فإنه يصح أيضاً أنها الرحلة قبل الأخيرة لتجعل الرحلة الأخيرة مفضية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

 

 6) من معاني الزيارة :

وبعد أن ينتهي الحجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة التي هي من أحب بلاد الله إلى الله، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.

 

أيها الإخوة الكرام، الإنسان حينما يتقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه يتقرب إلى الله، استناداً إلى قوله تعالى:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾

(سورة التوبة: الآية 62)

جاء في ضمير المفرد، أي إن إرضاء الله عين إرضاء النبي عليه الصلاة والسلام، وإن إرضاء النبي عين إرضاء الله جل جلاله، قال تعالى:

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾

(سورة النساء: الآية 80)

أيها الإخوة الكرام، لعل سر السعادة التي تغمر قلب المسلم حينما يزور مقام النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما أن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه، وما أن يبصر الروضة الشريفة حتى يجهش بالبكاء، وعندئذ تصبح نفس الزائر صافية من كل كدر، نقية من كل شائبة، سليمة من كل عيب، منتشية بحبها له صلى الله عليه وسلم، وقربها منه، وهذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ والله سميع عليم ﴾

(سورة التوبة: الآية 103)

أيها الإخوة الكرام، إن روح محمد صلى الله عليه وسلم روح قوية صافية مشرقة باهرة لشدة قربه من الله، ولأن قلبه الشريف مهبط لتجليات الله جل وعلا، فإذا ذكره أصحابه بالخير والود، أو ذكره المؤمنون بالحب والتقدير فاضت آثار هذه المحبة، وذاك الود من قوته الروحانية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب نفوسهم، وصفت سرائرهم، وهذه المعاني تفسر قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾

(سورة الأحزاب: الآية 56)

روي أن بلالاً رضي الله عنه سافر إلى الشام، وطال به المقام بعد وفاة سيد الأنام، عليه أتم الصلاة والسلام، ولقد رأى وهو في منامه وهو بالشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فجعل يبكي عنده كثيراً، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما، وجعل يضمهما ويشمهما، ويقبلهما، فقالا: نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصرا عليه فصعد إلى سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقفه، ولما بدأ بقوله: الله أكبر، الله أكبر، تذكر أهل المدينة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتجت المدينة، وخرج المسلمون من بيوتهم، فما رأيتَ يوماً أكثر بكاءً في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.

لقد صدق أبو سفيان حينما قال:
ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.

هذه الحقيقة ينبغي أن تنطبق على كل مؤمن إلى يوم القيامة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( لا يُؤمن أحدُكم حتَّى أكونَ أحبَّ إليه مِنْ والده وولدِهِ والنَّاس أجمعين ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي ]

من قال لك: إن الإسلام فكر فقط؟ من قال لك: إن الإسلام عقائد فقط، الإسلام حب، الإسلام إقبال، الإسلام ذوبان في محبة سيد الأنام.

مبادئ خطبة حجة الوداع :

أيها الإخوة الكرام، نحن أحوج ما نكون في هذه الأيام الصعبة الشديدة التي أعلن فيها الحرب على الإسلام في كل بقاع الأرض، إلى أن نفهم خطبة الوداع التي خطبها النبي عليه الصلاة والسلام في حجته.
أيها الإخوة الكرام، لقد خطب النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت مبادئ إنسانية سيقت في كلمات سهلة سائغة، كيف لا، وقد أوتي النبي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، فلقد استوعبت هذه الخطبة جملة من الحقائق التي يحتاجها العالم اليوم، العالم الشارد، العالم الذي يقتتل، العالم الذي تسفك فيه الدماء بلا سبب، العالم الذي يئن من الجوع، يئن من القهر، يئن من الظلم.
أيها الإخوة الكرام، قال تعالى:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

(سورة طه: الآية 123)

إن الله جل وعلا ربى محمداً صلى الله عليه وسلم ليربي به العرب، وربى العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم ليربي بهم الناس أجمعين، قال تعالى:

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾

(سورة الحج: الآية 78)

لكن إذا تخلى العرب عن هذه الرسالة التي شرفهم الله بها يستبدل قوماً غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم.

1) الناس سواسية في القيمة :

أيها الإخوة، من المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: أن الإنسانية متساوية القيمة في أيِّ إهاب تبرز، وعلى أية حالة تكون، وفوق أي مستوى تتربع.

عن أبي نضرة رحمه الله، قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال:

(( يا أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى. أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ))

[ من حديث أخرجه أحمد في مسنده ورجاله رجال الصحيح ]

هذا البند الأول.

 2) حرمة الدماء والأموال والأعراض :

والنفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها، مؤمنة بوعده ووعيده، مؤمنة بأنه يعلم سرها وجهرها، ولأن النفس الإنسانية تدور حول أثرتها، ولا تبالي بشيء في سبيل غايتها، فربما بنت مجدها على أنقاض الآخرين، وبنت غناها على إفقارهم، وبنت عزها على إذلالهم، بل ربما بنت حياتها على إماتتهم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع:

 

(( أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومٌ حرامٌ، قال: وأيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأيُّ شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ))

[ من حديث صحيح، أخرجه البخاري ]

هذا البند الثاني.

 

3) تحريم الربا :

البند الثالث: المال قوام الحياة، وينبغي أن يكون متداولاً بين كل الناس، وأنه إذا ولد المال المال من دون جهد حقيقي يسهم في إعمار الأرض، وإغناء الحياة، تجمع المال في أيدٍ قليلة، وحرمت منه الكثرة الكثيرة، عندها تضطرب الحياة، ويظهر الحقد، ويلجأ إلى العنف، ولا يلد العنف إلا العنف، والربا يسهم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية التي تعود على المجتمع البشري بالويلات، لذلك قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع:

 

(( ألا وإنَّ كلَّ رباً في الجاهلية موضوعٌ، لكْم رُؤوسُ أموالكِم لا تَظلِمُون ولا تُظْلَمون، غير رِبا العبَّاس، فإنَّه موضوعٌ كله ))

[ من حديث صحيح، أخرجه الترمذي ]

4) النساء شقائق الرجال :

البند الرابع: النساء شقائق الرجال، والمرأة مساوية للرجل تماماً في التكليف والتشريف والمسؤولية، مساوية له من حيث استحقاقها للثواب والعقاب، مساوية له تماماً في التشريف والتكريم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في البند الرابع من خطبة حجة الوداع:

 

(( ألا واستَوصوا بالنساء خيراً ))

[ من حديث صحيح، أخرجه الترمذي ]

5) وصايا للمستقبل :

وكأن الله جل جلاله أطلعه على ما سيكون في آخر الزمان:
عن جرير رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:

(( استَنْصِتْ لِيَ الناسَ، ثم قال: لا ترجعوا بعدي كُفَّاراً، يضربُ بعضكم رِقابَ بعضِ ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( إنَّ الشَّيْطانَ قد أيسَ أنْ يَعْبُدَهُ المصلُّونَ، ولكن في التحريش بينهم ))

[ حديث صحيح، أخرجه الترمذي ]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( وقد تَرَكْتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بعده، إِن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تُسأَلُونَ عنِّي، فَمَا أنْتُمْ قائلون؟ قالوا: نَشهَدُ أنكَ قد بَلَّغْتَ وأدَّيتَ وَنَصَحْتَ، فقال بإِصبعه السَّبابةِ، يَرْفَعُهَا إِلى السماء ويَنكِّبُها إِلى النَّاسِ: اللَّهمَّ اشْهَدْ، اللَّهمَّ اشْهد، ثلاث مرات ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود ]

 وأخيراً :

أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

عشر ذي الحجة :

أيها الإخوة الكرام، نحن في أيام العشر الأول من ذي الحجة، وقد فضلها الله على أيام العام كله، قال تعالى:

﴿ وَالْفَجْرِ (*)وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾

(سورة الفجر1-2)

قال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغيرهم.

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

(( ما مِن أيام، العملُ الصَّالِحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العَشْرِ، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجِهادُ؟ قال: ولا الجِهادُ، إلا رجل خَرجَ يُخاطِرُ بنفسه ومَاله، فلم يرجع بشيء ))

[ حديث صحيح، أخرجه الترمذي وأبو داود ]

وقال تعالى:

﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾

(سورة الحج: الآية 28)

قال ابن عباس: أيام العشر.

 

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ))

[ حديث رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ]

وقال ابن حجر في فتح الباري: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادات، وهي الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غير هذه الأيام.

  ما يستحب فعله في أيام العشر :

يستحب التبكير إلى الفرائض، والإكثار من النوافل، فإنها من أكثر القربات، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( عليكَ بكثرة السجود لله، فإنَّكَ لا تسجدُ لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

ويستحب الصيام لدخوله في الأعمال الصالحة:

 

فعن هنيدة بن خالد رحمه الله، عن امرأتِهِ، عن بعضِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت:

(( كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصوم تِسْعَ ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أولَ اثنين من الشهر، والخميس ))

[ حديث حسن، أخرجه أبو داود والنسائي ]

وقال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: إنه مستحب فقط.
ويستحب التكبير والتهليل والتحميد كما ورد في حديث ابن عمر السابق:

(( فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ))

[ سبق تخريجه ]

أيها الإخوة الكرام، هذه أيام فضيلة، وأيام مباركات، يتقرب فيها من الله عز وجل بنوافل العبادات والصدقات.

 الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور