وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0953 - الحب في الله والحب مع الله - الجانب الإنساني في الإسلام .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ، وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

الحب في الله والحب مع الله :

 أيها الإخوة الكرام ؛ تعودت والفضل لله عز وجل ، أن أوثر الحقيقة المرة على الوهم المريح ، لأن الإنسان ما لم يعلم حجم المشكلة فلن يستطيع أن يحلها.
 الغرب وجوده قوي جداً في عالم المسلمين، لأن الغرب قوي، ولأن الغرب غني، ولأنه متفوق.
 ومع ثورة الاتصالات حيث أصبحت الأرض كلها سطح مكتب، كانت قرية فصارت بيتاً، فصارت غرفة، فصارت سطح مكتب.
 لهذه الأسباب هناك تساؤل كبير: ماذا نأخذ عن هؤلاء الأقوياء الأغنياء المتفوقين، وماذا ندع؟
 أجاب على هذا السؤال أحد المفكرين في العصر الحديث، فقال: نأخذ ما في رؤوسهم، وندع ما في نفوسهم.
 نأخذ ما في رؤوسهم من علم ومعرفة، وندع ما في نفوسهم من تفلت وانحلال.
 فكيف إذا أخذ المسلمون ما في نفوسهم، وتركوا ما في رؤوسهم؟
 أية صرعة من صرعات الغرب، إنْ في أعيادهم التي استحدثوها، أو في أزيائهم التي فجروا بها، نأخذها عنهم بسرعة البرق، أما علمهم وتفوقهم، وقوتهم ونظامهم، وانضباطهم، ونظام فريق العمل عندهم، وإدارة الوقت عندهم، وإدارة الأعمال عندهم، هذه لا نأخذها.

عيد الحب المستورد :

 من صرعات الغرب هذا العيد الذي استحدث في العالم الإسلامي، أو ما يسمى بعيد الحب.
 أيها الإخوة الكرام ؛ ربما كان سبب أخذنا لهذا العيد ضعف معرفتنا بديننا وبإسلامنا، ذلك أن حقيقة الإنسان أنه عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، فالحب ثلث الإنسان.
 عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك :
 العقل غذاؤه العلم، والقلب غذاؤه الحب، والجسم غذاؤه الطعام والشراب، وإن الإنسان الذي لا يجد حاجة إلى أن يحب أو أن يُحَب، فليس من بني البشر.
 نستورد عيداً للحب، والحب في أصل ديننا، ولا إيمان لمن لا محبة له.
 لكن كلمة الحب واسعة جداً، لدرجة أن جانباً من الحب يرقى بك إلى أعلى عليين، ويجعلك في سعادة متنامية إلى أبد الآبدين، وجانب من الحب الساقط يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، ثم تنتهي به إلى جهنم، وبئس المصير، كلاهما حب.
 الحب كلمة واسعة جداً، جانب منها يرقى بك إلى أعلى عليين، ويدخلك جنة عرضها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين عن طريق الحب، وجانب من الحب يهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين، ويستحق جهنم، وبئس المصير.
 بين أن تحب الله، وبين أن تحب امرأة ساقطة، هذا هو الفرق بين الحبين.

الحب هو الأساس في الإسلام :

 أيها الإخوة الكرام ؛ أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون الحب أساس العلاقة بينك وبين الله.
 قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 54 ]

 فضل من الله عظيم أن تحبه، وأن يحبك.

الحب الحسي والحب العقلي :

 هناك حب حسي، وهناك حب عقلي، ولأضرب الأمثلة:
 هناك أكلات يحبها الإنسان، ولكنها تقضي عليه، إذاً يبغضها، لا بإحساسه، ولكن بعقله، وهناك عبادات تتناقض مع راحة الجسم، ولكن الإنسان يحبها حباً عقلياً تمشياً مع أهدافه الكبرى في الحياة.
 ويجب أن أؤكد لكم أيها الإخوة الكرام، أن المؤمن حبه وكراهيته على مستوى عقله، بينما غير المؤمن حبه وكراهيته بأعصابه وأحاسيسه.
 لذلك ركب الملك من عقل بلا شهوة، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
 من أقرب الأمثلة: لو أن امرأة متبرجة متفلتة، مرت أمامك في الطريق، طبيعة جسمك، وطبيعة غرائزك، وطبيعة الشهوة التي أودعها الله فيك تقتضي أن تملأ عينك من محاسنها، بينما أمر الله عز وجل، الذي وراءه جنة عرضها السماوات والأرض، يقتضي أن تغض البصر عنها.
 فأنت حينما تبغض النظر إليها بعقلك، وتحب غض البصر عنها بعقلك، ترقى إلى الله، عندئذ لك في الجنة من الحور العين من لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر.

الحب العقلي يوصل إلى الجنة :

 أيها الإخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة آل عمران الآية: 14 ]

 وكلمة متاع: تعني أن الإنسان إذا أراد المتعة فقط يستمتع، ولكن ليس لهذه المتعة أثر في المستقبل.
 في عالم الدنيا: هذا الذي يسترخي، وينام إلى نصف النهار، ويأكل ما يشتهي بلا قيد ولا شرط، ولا ضبط، ولا يدرس، ولا يعمل، ولا يؤسس عملاً، هذا الاتجاه ينتهي به إلى فقر مدقع، يذله، ويشقيه.
 أما هذا الذي يدع الفراش، ويقرأ، ويتعلم، ويؤدي واجباته تجاه الله عز وجل يرقى الله به.
 لذلك أراد الله أن يكون هناك تناقض بين العبادة والطبع:
 فالطبع يدعوك إلى النوم، والله يدعوك إلى أن تستيقظ.
 والطبع يدعوك إلى أن تنظر، والله يأمرك أن تغض النظر.
 والطبع يأمرك أن تأخذ المال، والله يأمرك أن تنفقه.

لابد من تناقض بين الطبع والتكليف، وهذا التناقض هو ثمن الجنة.

 أيها الإخوة الكرام ؛ الحب الحسي هو الحب اللحظي، الحب الآني، حب المتعة فقط، استجابة للشهوة فقط، بينما الحب العقلي ينتهي بك إلى جنة عرضها السماوات والأرض، الله عز وجل يصف أهل الجنة فيقول:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ﴾

[ سورة الزمر الآية : 74 ]

  جئنا إلى الأرض، فضبطنا شهواتنا وفق منهج الله، فكان الجزاء من الله هذه الجنة، قال تعالى:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾

[ سورة الزمر الآية : 74 ]

 نتبوأ الآن من الجنة حيث نشاء، لأننا جئنا إلى الأرض، وطبقنا منهج الله عز وجل، والله عز وجل صدقنا وعده.

الحب الحسي يعرقل الطريق إلى الله :

 أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل:

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ﴾

[ سورة التوبة الآية : 24 ]

 ماذا بقي من الدنيا؟ لم يبقَ شيء، لا إيمان لمن لا محبة له، قال تعالى:

﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

[ سورة التوبة الآية : 24 ]

 وقال تعالى:

﴿ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ﴾

[ سورة التوبة الآية : 24 ]

 فالطريق إلى الله ليست سالكة، قال تعالى:

﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة الآية : 24 ]

 أي إن كانت محبة الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والعشيرة، ومحبة المال، ومحبة التجارة العريضة، ومحبة المساكن الواسعة، حملتكم على معصية، أو على فسق فالطريق إلى الله ليست سالكة.
 الدين كله حب، ولا إيمان لمن لا محبة له، وإسلام بلا حب جسد بلا روح، جثة هامدة، جيفة، كان الحب يتأجج في قلب أصحاب رسول الله، ففعلوا المعجزات، وكان الواحد منهم كألف.
 سيدنا خالد طلب مدداً من أبي بكر رضي الله عنه، وكان يتوقع أن يمده بخمسين ألفاً، أرسل له واحداً اسمه القعقاع بن عمرو، ومعه رسالة، فسأل هذا البطل القائد القعقاع: أين المدد؟ قال: أنا المدد، قال له: واحد؟ قال له: اقرأ هذه الرسالة، يقول سيدنا أبو بكر: والذي بعث محمداً بالحق، إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم، واحد كألف!
 ومليار وثلاثمئة مليون مسلم اليوم كألف، لا وزن لهم في الأرض، وليس أمرهم بيدهم، مع أنهم يتربعون على أهم موقع في العالم، وبلادهم فوق أكبر ثروات العالم، ومع ذلك أمرهم ليس إليهم، وترون ما ترون، وتسمعون ما تسمعون كل يوم.

مثال لهذين الحبين :

 أيها الإخوة الكرام، حول الحب العقلي والحب الحسي دارت قصة سيدنا يوسف، قال تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 33 ]

 من يحب السجن؟ هل ترى على وجه الأرض إنساناً واحداً يحب السجن، قال تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 33 ]

 إلى ماذا يدعى؟ إلى متعة من أجمل المتع على وجه الأرض، فقال:

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 33 ]

 مرة ثانية، الإنسان الجاهل والشارد يحب بأعصابه وأحاسيسه فقط، يعيش لحظته، كما يفعل معظم المسلمين اليوم، والإنسان العاقل المؤمن يحب بعقله، ويكره بعقله طمعاً بجنة ربه.

 

علاقة الحب بالتوحيد والشرك :

 أيها الإخوة الكرام، هناك الحب في الله، والحب مع الله.
 إن أحببت الذي منحك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، إن أحببت الذي خلقك، ولم تك شيئاً، إن أحببت الذي أمدك بمال وبنين، إن أحببت الذي يربيك، إن أحببته حباً حقيقياً هذا الحب له فروع، من فروعه أن تحب رسوله، بل ورسله السابقين وأنبياءه، من فروعه أن تحب أصحاب رسوله الكرام، والتابعين الأعلام، وكل ولي وعالم وفقيه، وأن تحب بيوت الله، وأن تسعى في عمارتها، وأن تحب كتاب الله، وأن تقبل عليه، وأن تحب الأعمال الصالحة، وأن تحب كل شيء يقربك إلى الله، هذا حب في الله، وهو عين التوحيد.
 أما الحب مع الله: فأن تحب شيئاً يبعدك عن الله، أن تحب شيئاً فيه معصية لله، أو فيه إتلاف مال من دون جدوى، أو فيه إتلاف وقت من دون جدوى.
 الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، فاحرص أن تحب بعقلك.
 حدث مرةً أن طبيباً يعمل في أمراض القلب، دعي إلى طعام طيب، فلم يأكل، سئل، فأجاب: لكثرة ما أرى كل يوم من أوعية مسدودة بهذا الطعام، أكره هذا الطعام.
 كره الطعام بعقله.
 والذي يمشي في الأيام الباردة، وفي الظروف القاسية طمعاً بسلامة قلبه، هذا أحب بعقله أيضاً، أحب بعقله مشقة لا تحتمل، وذاك كره بعقله طعاماً لذيذاً طيباً.
 فالعاقل يحب بعقله، والجاهل يحب بأحاسيسه.
 أما الحب في الله فأي حب يقربك إلى الله فهو حب في الله، وأي حب يبعدك عن الله فهو حب مع الله، الحب الأول في الله عين التوحيد، والحب الثاني مع الله عين الشرك.

الحب المشروع والحب المحرم :

 شيء آخر، الله عز وجل قال:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 14 ]

 فلو أحب الإنسان امرأته حباً مشروعاً، بارك الله له هذا الحب، ورضي عنه بهذا الحب، وقد ورد في الأثر: الحمد لله الذي رزقني حب عائشة.
 هذا حب مشروع، لا شيء عليه، ولا تثريب عليه، بل يثني الله عليك إذا أحببت حليلتك التي سمح الله لك أن تحبها، إذاً هو حب مشروع.
 أما أن تحب موظفة في مكتبك، ولا تحل لك، فهذا حب آخر غير مشروع، يرضى الله عن حبك المشروع، مثل أن تحب أولادك، أن تحب أحفادك، أن تحب إخوانك المؤمنين، وأن تبغض أعداء الدين، هذا مما يرضي الله عز وجل، أما أن تجعل كل لطفك ونعومتك وابتساماتك، وطرافة حديثك لمن لا تحل، وكل تجهمك وقسوتك لمن تحل لك، فهذا الحب من وسوسة الشياطين.

أعظم نعمة أن يحبك الله :

 أيها الإخوة الكرام، الذي يعنينا هو أن أعظم حب ترقى إليه أن تحب الله، وأن يحبك.
 لستُ أستقصي، ولكن أضرب الأمثلة، افتح كتاب الله، يقول الله عز وجل:

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 205 ]

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 64 ]

 والإفساد إخراج الشيء عن طبيعته، فالذي يسهم في تلويث الماء لا يحبه الله، والذي يسهم في تلويث الجو لا يحبه الله، والذي يسهم في تلويث الأخلاق لا يحبه الله، وما من كلمة واسعة تدور مع حياتنا في كل جانب ككلمة الفساد، قال تعالى:

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 205 ]

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 64 ]

 وكذلك لا يحب المسرفين:

﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾

[ سورة الأعراف الآية : 31 ]

 أناس يموتون من الجوع، وتقيم حفلاً للزواج في أفخر الفنادق برقم فلكي يزوج مئة شاب في ليلة واحدة، والله لا يحب المسرفين، كلوا، واشربوا، ولا تسرفوا، كل، واشرب من دون إسراف، ولا مخيلة، فالمسرف لا يحبه الله.
 أنت حينما تشعر أنك واحد من مجموع المؤمنين، وأنهم في أمسّ الحاجة إلى المال، تأخذ حاجتك المعتدلة منه، وتسهم بالباقي لحل مشكلات المسلمين، عندئذ يحبك الله عز وجل.
 إنه لا يحب المستكبرين المتعالين، الذي يرى نفسه فوق البشر، ينبغي أن يأكل هو وحده، وأن يستمتع بالحياة وحده، وأن يبني مجده على أنقاض الآخرين، أن يبني غناه على فقرهم، ويقول:

﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾

[ سورة القصص الآية : 78 ]

 هؤلاء لا يعرفون طعم الحياة، هذه نماذج موجودة في المجتمع، وما أكثرها، قال تعالى:

﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾

[ سورة النحل الآية : 23 ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾

[ سورة لقمان الآية : 18 ]

 الذي يزهو بممتلكاته، ببيته، بمركبته، بشكله، بقوامه، بصحته، بشبابه، بثيابه، يريد أن يستعلي، قال تعالى:

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة القصص الآية : 83 ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِين ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 58 ]

﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 52 ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 190 ]

 افتحوا القرآن العظيم، ودققوا في كلمة: إن الله لا يحب ..
 اجمعوها، أنا ذكرت أمثلة فقط، ولم أستقصِ، ثم افتح القرآن العظيم ثانيةً، واقرأ الآيات التي تبدأ بقوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 195]

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 222 ]

﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 146 ]

 هذا الذي ينبغي أن نفعله أيها الإخوة.
 طبعاً الله عز وجل يحبك، لأنه خلقك، وسواك، وخلقك في أحسن تقويم، ومنحك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، فهو يحبك، بقي أن تحبه، يحبك ابتداءً، فإذا أحببته أحبك ثانيةً، حب على حب، حبٌّ لأنك إنسان، وحبٌّ لأنك آمنت به، وانضبطت بمنهجه.
 أيها الإخوة الكرام، قضية الحب هي الدين كله، الحب هو أصل ديننا، وأصل علاقتنا بربنا، ما بال المسلمين اليوم يستوردونه؟ ليشيعوا علاقات آثمة بين شباب وشابات؟!
 مرة ثانية، حب يرقى بك إلى أعلى عليين، ويدخلك جنة الله رب العالمين، وحب يهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين، وينتهي به إلى الجحيم، وإلى العذاب الأليم.

وأخيراً :

 أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سينا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

الجانب الإنساني في الإسلام :

 أيها الإخوة الكرام، بعيداً عن كل التحليلات والتفسيرات، وبعيداً عن كل الانتماءات والولاءات، وبعيداً عن كل الظروف والملابسات، وبعيداً عن كل السياسات والمناورات، ولأن المساجد لله:

﴿ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الجن الآية : 18 ]

 بعيداً عن كل ذلك، واقتراباً، أو دخولاً في جوهر الدين، وحقيقة الإسلام التي تستنبط من ماضي المسلمين، ومن واقعهم، أقول:
 حينما يطبق مسلم ما جانباً واحداً من هذا الإسلام العظيم، ألا وهو الجانب الإنساني، ويحمل هموم الناس، كل الناس، على اختلاف انتماءاتهم، ويسعى جاهداً في حدود إمكاناته لتخفيف آلامهم، فهو يعيش لكل الناس، ولا يعيش الناس له، عندئذ يعيش في قلوب جميع الناس على اختلاف انتماءاتهم، فكيف لو طبق الإنسان كل جوانب الدين؟
 كيف أيها الإخوة الكرام، لو فهم المسلمون دينهم حق الفهم؟ فهموه ديناً ربانياً، وسطياً إنسانياً متسامحاً، وطبقوا كل جوانبه، وبنوا مجدهم على الأعمال، لا على الأقوال، وأيقنوا أن قيمة الإنسان عند الله بما يعطي، لا بما يأخذ.. معظم الناس يبني مجده على ما أخذ، لا على ما أعطى، ولو كان المسلمون مثلاً عالياً لمن حولهم، لو كان المسلمون كذلك لكانوا في حال غير هذه الحال، ولكان موقف أعدائهم غير هذا الموقف، ولدخل الناس في دين الله أفواجاً.

أزمتنا أزمة تطبيق والتزام :

 أيها الإخوة الكرام، نحن مع الإسلام النظري، مع إسلام الخطب، مع إسلام المؤلفات، مع إسلام الأشرطة، مع إسلام المؤتمرات، مع إسلام المكتبات، لا مع الإسلام العملي.
 إما أن تعيش للناس، وإما أن يعيش الناس لك، إن عشت للناس عشت في قلوبهم، لو أن كل مسلم عاش للناس، ورأوا منه تواضعاً ورحمةً وعطاءً، والله الذي لا إله إلا هو لدخل معظم غير المسلمين في دين الله أفواجاً.
 أزمة أخلاق، أزمة تطبيق، أما المظاهر فشيء لا يصدق، المساجد المزخرفة، الكتب، المكتبات، المجلدات، شيء لا يصدق، لكن حقيقة الدين أن تطعم جائعاً، أن تكسو عارياً، أن ترحم مصاباً، أن تسعى لخدمة البشر، أن تحمل هموم البشر.
 أيها الإخوة الكرام، ورد في بعض الآثار القدسية: يا داود ذكّر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وعلى بغض من أساء إليها. كن محسناً:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 195 ]

 ينبغي أن تخرج من خدمة ذاتك إلى خدمة الآخرين، عندئذ يحبك الله والمؤمنون.
 أيها الإخوة الكرام، أبواب الخير مفتحة على مصارعها، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، لو طبقت جانباً واحداً من الدين، الجانب الإنساني، لأحبك الناس جميعاً، فكيف لو طبقت كل جوانبه؟ فكيف لو كان انضباطك في أعلى مستوى؟
 أيها الإخوة الكرام، الدنيا ساعة، اجعلوها طاعة، والنفس طماعة، عودوها القناعة.
 عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

(( مَنْ كانَتِ الآخرةُ هَمَّهُ، جعل الله غِناه في قلبه، وجمع عليه شَمْلَهُ، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغِمَة، وَمَنْ كانت الدنيا هَمَّه، جعل الله فَقْرَه بين عينيه، وفَرَّق عليه شَمْلَهُ، ولم يأتهِ من الدنيا إلا ما قُدِّر له ))

[ حديث أخرجه الترمذي بإسناد ضعيف ]

الدعاء :

 اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، إنك على كل شيء قدير.
 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
 اللهم اهدنا لصالح الأعمال، لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، في العراق وفلسطين، يا رب العالمين.
 خذ بيد ولاة المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور