وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الأعلى - تفسير الآيات 01 - 05 عظمة الله عز وجل في خلقه.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 


 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، سورة الأعلى تبدأ بِقَوله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)﴾

[سورة الأعلى]

 التَسبيح التَّنْزيه، والتَّسبيح التَّعْظيم والتَّسبيح الخُضوع، فمَنَ نَزَّه الله تعالى عمَّا لا يليق به، ومَجَّدَ الله عز وجل، وخضَعَ له فقد سبَّحَهُ والإنسان مأمور، وكل أمْرٍ في القرآن الكريم يقْتضي الوُجوب، فَسَبِّحْ فِعْلُ أمْرٍ، فالإنسان مُكَلَّفٌ أن يُمَجِّدَ الله وأن يُنَزِّهَهُ وأن يخْضَعَ له لِيَكون مُسَبِّحًا له.
 تُنَزِّهُهُ مِن خِلال التَّعَرُّف عليه من الكون الذي هو مَظْهر لأسْمائِهِ ومِن خِلال التَّعَرُّف عليه من كلامه ؛ فالقرآن كَوْنٌ ناطِق، والكَوْنُ قرآنٌ صامِت، وأنت مُكَلَّفٌ أن تُسَبِّحَهُ وأن تعرِفَهُ مِن خِلال أفْعالِهِ فأفْعالُهُ تَدُلُّ عليه وخَلْقُهُ يدُلُّ عليه وكلامُهُ يدُلُّ عليه فإذا تفَكَّرْتَ في خلْق السماوات والأرض، وإذا تأمّلْتَ في أفعال الله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ(42)﴾

 

[سورة الروم]

 وإذا قرأتَ القرآن بِتَدَبُّر عَمَّا لا يليق به ومَجَّدْتَهُ وعَظَّمْتَهُ وخَضَعْتَ له في النِّهاية فقد سبَّحْتَهُ تعالى وهذه طُرق سالكَة إلى الله، قال تعالى:

 

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)﴾

 

[سورة الأعلى]

 لكن ما جاء اسم الذات الله هنا اسمٌ من أسماء الصِّفات وأقرب اسم من أسماء الصِّفات هو الربّ سبِّحْ اسم الذي يُرَبِّيك، والذي منَحَكَ نِعْمَة الوُجود والإمْداد، والذي دلَّكَ عليه ويسَّر لك أُمورَك.
قال تعالى:

 

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)﴾

 

[سورة الأعلى]

 أيها الإخوة الكرام، التَّسْوِيَة غير الخَلْق، والفرق دقيق جدًا، فقد تكون مُهَنْدِسًا، وتنشئ غرفَةً مَبْنِيَّة على عِلْم، ولها أساس، ونِسْبَة الإسْمَنْت جيِّدة، والسَّقْف مَدْروس لكن قد تكون هذه لغرفة مُعَدَّة لِمَبيت سيَّارة لكنَّ مساحتها لا تكفي، فقد تدخل السيارة ولكنَّك لا تستطيع فتْح الباب نقول هذه الغرفة مَبْنِيَّة على عِلْم ولكِنَّها غير مُسَوَّاة مع السيَّارة ! فيجب أن تفتح هذه السيارة بِرَاحة وغطاء السيارة كذلك ؛ كلّ هذا والمركبة داخل الغرفة، إذًا التَّسْوِيَة غير العِلْم ؛ فالشيء قد يكون مَبْنِيًّا على عِلْم إلا أنَّه غير مناسب للاستِعمال فلاني، فمثلاً القمْح فيه علم إلا أنّه مناسب كغِذاء كامل للإنسان، وهو مُسَوَّى معه، وكذا الحليب الذي هو من إنتاج البقرة إلا أنَّ تركيبه يتناسب مع الإنسان، فالتَّسْوِيَة هي التَّنْسيق والتناسب فأنت أحْيانًا ترى في هَيْكَل السيَّارة فتْحَة ثمَّ تكتَشف أنَّ هذه الفتْحة لِمُرور كَبل كبير كهربائي، وألم ترَ في الجمجمة فتحات في قعْر المَحْجر هذه لِمُرور العصب البصري، وأنت تشعر أنَّه هذه الجمجمة مُسَوَّات تَسْوِيَةً كاملَة، وهذا موضوع طويل جدًا يبْدأ بالإنسان والحيوان والنبات فالصُّوص الصغير الذي في البيضة ينشأ له نُتوء صغيرة في مِنْقارهِ لِيَكْسِرَ به البيْضة فإذا كُسِرَت وخرج منها تلاشى هذا النُّتوء.
 الطِّفل الصَّغير تجد أنفهُ قاسي وغُضروفُه كذلك ؛ فإذا تقَدَّمَتْ به السِنّ أصْبَحَ طَرِيًّا ؛ لأنَّهُ هو صغير ويرْضَعُ من ثدْيأُمِّه، فلو كان أنفُهُ ليِّن لأُغْلقَ عليه مَجْرى التَّنَفُّس، فلا بدَّ من غُضْروف قاسٍ لِأنْف الطِّفْل وقناة الدَّمْع مُسَوَّاة مع الدَّمْع، وهي أدَقُّ قناةٍ في جِسْم الإنسان، ولو سُدَّتْ لأصْبَحَ الأمر صعب جدًا، والدّمْع قلوي، والمادَّة القَلَوِيَّة تُخَرِّش الجلد، والبروسْتات غُدَّة في ملتقى مجرى ماء الحياة مع البَوْل ؛ ففي ملتقى المَجْرَيَيْن هنا الغُدَّة، تعْمل ثمانين عامًا، وهي تُفْرِز مادَّة قُلَوِيَّة تتناسب مع المادَّة الحمْضِيَّة في البول لِتُعَدِّلها، وفي وقت خروج ماء الحياة ؛ ففي هذا المجرى هناك بول، تُفْرِز هذه الغدَّة مادَّة مُطَهِّرة ثمَّ مادَّة مُعَطِّرَة ثمَّ مادَّة مُغَدِّيَة ؛ هذه هي البروستات التي تعمل ثمانين عامًا دون توَقُّف، وكذلك وأنت نائِم يزْداد اللُّعاب، ويأتي أمر للدِّماغ إلى لسان المزمار يغلق طريق الهواء، ويفتح طريق المري، فَتَبْلع اللُّعاب.
خلقُ الإنسان كامِل يحوي تَسْوِيَة كاملة، وأنت نائم هناك عضلات لحْمِيَّة تلف العظْم من فوق ومن تحت، وهي تحوي أوْعِيَة، ومع الضَّغْط تضيق لمْعَتُها، فَيَخْضَرّ الإنسان، ما معنى اخْضرار جسم الإنسان ؟ معنى ذلك أنَّ التَّرْوِية منعدِمة وضاقَتْ ! إذْ هناك مراكز ضَعْط في الإنسان تعطي إشارة للدِّماغ وأنت نائِم، فَيُعْطي الدِّماغ أمْر فينْقَلِبُ الإنسان ؛ شيء لا يُصَدَّق !
تمشي بالطريق تسْمع بوق سيَّارة، هناك جِهاز بالدِّماغ يحسب تفاضل وُصول الصَّوْتَين إلى الأذن، والتَّفاضل واحد على ألف وستُّ مائة جزء بالثانِيَة تكْشِفُ الصوت باليمين فتَتَّجِه إلى اليسار ! الذي خلق فَسَوَّى.
 أيضًا خلق النَّبات، فالبطيخ على الأرض، ولو كان على الشَّجر للزِمَ من ذلك وفيات سنوِيَّة نتيجتها البَطِّيخ !! والمحاصيل الاسْتراتيجِيَّة تنْضج بِيَوم واحِد ؛ القمح والعدس والحمص، أما المحاصيل كالخضراوات والفاواكه فهي تنْضج خِلال تسعون يومًا، وذكر لي أخ كيفِيَّة معرِفَة نضج البطيخ أم لا ؛ له حلزون فإذا انْكسر كان ذلك دليل النُّضج وإن لم ينكسر كان دليل عدم النُّضج ! والله تعالى قال:

 

﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16)﴾

 

[سورة النحل]

 وكذا البقرة تُعْطي الحليب ؛ غُدَّة ثَدْيِيَّة على شَكْل قُبَّة تعطي الحليب وهي تخْتار من الدَّم الذي فوقها فيتامينات ؛ شُحوم وبروتينات ومعادن وسُكَّرِيات، وترشح من تحت نقطة حليب وكلّ أربعة مائة لتر دم تجْري فوق الغُدَّة الثَّدْيِيَة تصنع منهم لتر واحد من الحليب، وزْن الحليب يُمَزِّق جدار الضَّرع لو كانت كمِيَّة الحليب أربعمائة لتر ! وجدار الضرع يحوي جداران متعامِدان.
ثمَّ قال تعالى:

 

﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)﴾

 

[سورة الأعلى]

 كل حيوان له أجْهزة تتناسب مع وَضْعِهِ فالخَفَّاش أعْمى، ولكن له جِهاز رادار، إذْ وَضَعوا جِهاز خفَّاش في غرفة وقسموها بحاجز وفَتَحوا ثغْرةً قدْر جِسْمِهِ، فهو لمَّا فرَّ عبَرَ من تلك الفتْحة أربعة مائة مرَّة دون أن يصْطدم بِجِدار الغرفة ! كل هذا عن طريق الرادار والسَّمَك بالبحر كيف يعرف على أيِّ ارتِفاعٍ هو ؟ بالضَّغْط، فعلى حراشِفِها العُلْيا، وفي هذا الخطّ أنبوب مُفَرَّغ من الهواء، والسَّمَكة تعْلم بِأيِّ ارتِفاعٍ هي من البحر، ثمَّ بالسَّمَكة مِحْفظة وبأسْفلها أعْصاب حسَّاسة، وهناك حبَّات رمْل، ومادام الحبَّات بِأرْض المحفظة وضْعُها مستقيم، ظهرها نحو السَّطح وبطْنها نحو القاع، فلو أنَّ السَّمَكة انْقلبَتْ لَعَلِمَتْ جِهَة جسْمها أهي نحو الأعلى أم نحو الأسفل وهناك سمَك يعْبر المُحيطات من أعالي النِّيل إلى مَصَبِّهِ، غلى غرب جبل طارق إلى شمال إسبانيا وإلى بحْر الشَّمال، إلى أن يسْتقِرّ، كل هذا كما قال تعالى:

 

﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)﴾

 

[سورة الأعلى]

 وقال تعالى

 

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى(49)﴾

 

[سورة طه]

 فالله تعالى أعْطاه الأجْهزة الكاملة ثمَّ هداه، أحد بُستانِيِّين رأى أفعى يأكلها قنْفذ، يأكل قطْعة ويذْهب لِمَكان يأكل حشيشة، فهذا البُسْتاني قلَعَ الحشيشة، فأكل القنفذ حشيشَةً ثانِيَة فمات ! من الذي هدى هذا القنفذ إلى أن يأكل حشيشًا يتناسب مع سُمِّ الأفعى ؟! الله عز وجل، والله عز وجل، وُعول في رؤوس الجبال بهِمَلايا، هناك ينابيع في رؤوس الجبال، فَحَسَب قوانين الفيزياء لا يمْكِن أن تكون ينابيع بِقِمَم الجِبال إلا أن تكون مُسْتوْدعاتِها في جبالٍ أعلى منها.
أربعة آلاف جزيرة ماء بأندونِيسيا، وبكل جزرة ماء عَذْب، يتناسب مع مساحتِها، وكلٌّ منها لها تَمْديدات تحت الأرض، كيف تعرف الله؟ مِن خلال خلْقِهِ وكلامِه وأفعالِهِ.
صَنَعوا مَرْكبة سَمَّوْها المُتَحَدِّي بأمريكا، وبعد سبعين ثانِيَة أصْبَحَت كتْلة من اللَّهَب ! تَحَدَّوا مَن ؟ الذي تَحَدَّوْهُ تَحَدَّاهم !!
 الله تعالى هداك إلى مصالِحِك، فالطَّعام المُتَفَسِّخ يرُدُّه الإنسان ولا يتقَبَّلُه، والتَّقَيُّق عَمَلِيَّة مُعَقَّدَة جدًا، وهو لِمَصْلحة الإنسان، والرائِحَة الكريهة يفِرُّ منها، أعْطاهُ حوَسيًّا، فالآية مفهومها عميق وكل شيء ينطوي تحتها، قال تعالى:

 

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)﴾

 

(سورة الأعلى)

 فاليَد تتلاءم مع الإنسان ولولا المِفْصَل لما أكَلْتَ، فلولاه لأكلْتَ مثل الهِرَّة ‍! فالله تعالى كرَّمَك وجعل لك مَفْصل، وآخر دائِري بِكُلّ الحركات وجعل لك إبْهامًا ؛ فهل لك أن تكتب دونه ؟! وهل لك أن تخيط دونه ؟ الذي خلق فَسَوَّى، ولولا مفصَل الرأس الدائري للَزِمَك أن تتَحَرَّك كُلِيَّةً ! فالسيارة مثلاً قد تتوقَّف فجْأةً لانعدام البنزين، أما مع الإنسان فهذا غير ممكن، هناك حِكْمة إلهِيَّة ؛ إذْ لمَّا تجوع لدَيْك نقْص بالمُسْتودَعات وليس بالدَّم، فلو فَحَصْنا دمَ جائِعٍ لَوَجَدْنا مواد غِذائِيَّة كامِلَة، فإحْساسك بالجوع يعني أنَّ مستودعات الغِذاء بالكبد نقُصَت، والدليل أنَّ الإنسان لمَّا يكون جَوْعان ويأتيه خبر سار أو مُؤْلِم ينْسى جوعَهُ ! أمَّا أن يبْرك كالسيارة مرَّةً واحِدَة فهذا غير ممكن ؛ الذي خلق فَسَوَّى.
 هذا الطِّفل الصغير ليس معه أطْفال إذْ لو كانت معه أسنان لأذْهَبَ حلَمَةَ ثدْي أمِّهِ ! ثمَّ إنَّ هناك أسنان لطيفة لَبَنِيَّ، وسُقوط هذا السِنّ اللَّبني آيَةٌ ن آيات الله الدالَّة على عظمَتِه تعالى، فلا يوجد أن طبيب بالعالم يستطيع أن ينزَع سِنّ إنسان إلا أن يؤلِمَهُ، أما الله تعالى تكون تأكل فَيَسْقُط السنّ لِوَحْدِه !.
ثمَّ قال تعالى:

 

﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)﴾

 

[سورة الأعلى]

 فهو تعالى خلقنا وخلق لنا طعامًا، وخلق لأنْعامِنا طعامًا.
ثمَّ قال تعالى:

 

﴿ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)﴾

 

[سورة الأعلى]

 ففي الربيع الأرض كالجنَّة، والبُروج خضْراء والأشجار ثمَّ بيضاء ثمَّ صفراء ؛ دَوْرَة مِن بِدايَة إلى قِمَّة تألُّق ثمّ نِهايَة، والإنسان كذلك ؛ يصعد خمسة درجات سواء، وينزل خمْسة خمْسَة، أما لما يَصِل إلى التِّسْعين فإنَّك تراه يمْشي خَطْوَةً خَطْوَة ودرجَةً درَجَة.
 كان أحدهم بالشام له أب رياضي يحْمل بغْل على كتفِهِ، بعدها لمَّا كبر أصْبَحَ يمْشي خطوة خطْوة، فعلى الإنسان إذا كان شابًّا قَوِيًّا عليه أن لا ينسى خريف العمر ! ويا بُنَي حفظْناها في الصِّغَر فَحَفِظَها الله تعالى في الكِبَر، ومن عاشَ تَقِيًّا عاش قَوِيًّا، والإنسان إذا أمْضى شبابه في طاعة الله، فإنَّ له خريف عمْرٍ متألِّق، وبِكُلّ قِواه العَقْلِيَّة، ومن حفظ القرآن متَّعَهُ الله بعَقْلِهِ حتّى يموت.

تحميل النص

إخفاء الصور