وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الأعلى - تفسير الآيات 06 - 08 قانون التيسير والتعسير.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

النِّسْيان مِن نِعَم الله الكبرى :

 أيها الأخوة الكرام؛ يقول الله تعالى:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾

[سورة الأعلى: 6]

 النبي عليه الصَّلاة والسلام لا ينسى بِمَعونَةِ الله، فإذا نَسَيَ فقد شاء الله له أن ينسى ولِحِكْمَةٍ بالِغَة، فقد صلى عليه الصلاة والسلام الظهر ركْعتَين فقال له أحدُ أصْحابِهِ: يا رسول الله أَقَصُرَتِ الصَّلاة أم نسيت؟! فقال: إنَّ كلّ ذلك لم يكن، فقال هذا الصَّحابي الجليل ذو اليَدَين: بعضُهُ قد كان، فسأل أصْحابَهُ الكرام: فإذا به عليه الصَّلاة والسلام صلَّى ركْعتَين، فقامَ وصلَّى ركْعَتَيْن أُخْرَيَيْن، وقال عليه الصَّلاة والسلام: إنَّما نُسِّيتُ كي أَسُنّ، فلو أنَّه لم ينْسَ هذه الصَّلاة طوال حياته فكيف يُشَّرعُ لنا سُجود السَّهْو، فالله تعالى أنْساهُ ذلك كي يُسَنّ.
 إذًا ذاكِرَتُك بِيَدِ الله، فإمَّا أن تتذَكَّر وإمَّا أن تنْسى، والنِّسْيان مِن نِعَم الله الكبرى.
 أحْيانًا يتكلَّم الإنسان كلمة لا أدَبَ فيها، وغير لائِقَة بِسَاعَة غَضَب، ولو أنَّهُ يذْكرُها لاحْترق بها طوال عمره، ولكِنَّ فضْل الله على الإنسان عظيم، فَهُناك مواقف مُحْرِجَة، ومواقف ضَغْط وقَمْع وكلمات مُحْرِجَة، لو أنَّ الإنسان يتذَكَّر كلّ هذه المواقف المُؤْلِمَة لكان في جحيم، إلا أنَّهُ مِن نِعْمة الله علينا أنَّنا ننْسى، والنبي عليه الصَّلاة والسلام ينسى، ولكنَّ الله تعالى لا ينْسى؛ قال تعالى:

﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴾

[سورة طه: 52]

 فالله تعالى قال:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾

[سورة الأعلى: 6-7]

 يُفْهَمُ معنى جديد وهو أنَّ الإنسان يتَذَكَّر بِقَدْر اهْتِمامِه، فَكُلَّما زاد اهْتِمامُك بِمَوضوع تَذَكَّرْتَهُ، لذا لا تشْكُ ضَعْف ذاكِرَتِك ولكن اشكُ ضَعْف اهْتِمامِك، فأنت قد تدخل إلى محَل فيه آلاف القطع تسأل عن واحِدَة، فَتَجِد الأب يرْسل ابنه إلى المكان الفلاني في الرف الفلاني وفي الطابق الفلاني، ما هذه الذاكرة؟ كل هذا لأنَّه مهْتَمّ، وهناك ميزانِيَّة وكَسْب مال؛ لذا لا تشْكُ ضَعْف ذاكِرَتِك ولكن اشكُ ضَعْف اهْتِمامِك.

 

علاقة الذاكرة بالبنية النفسيّة لا الدماغيّة :

 النبي عليه الصلاة والسلام بشَرٌ مثلنا، ولولا أنَّه بشَر وتَجْري عليه جميع خصائِص البشر لما كان سيِّد البَشَر، لماذا إذاً قرأ القرآن أو أقرئ عليه مرَّةً واحِدَة فحَفِظَهُ؟ لِشِدَّة اهْتِمامِه، وكُلَّما زاد اهْتِمامُك في موضوع قَوِيَت ذاكرتك فيه، فالذاكرة القَوِيَّة ليس لها علاقة بالبُنْيَة الدِّماغِيَّة، ولكن بالبُنْيَة النَّفْسِيَّة، فالشيء الذي تهْتَمُّ له لا تنْساه، والشيء الذي لا تهْتَمُّ له تنْساه، ودَقِّق في الناس تَجِدُهم يُعْطونَك معْلومات دقيقة في شؤون دُنياهم، أما أن يحْفظ حديثًا فَذاكِرتُه خالِيَة، وذاك يحْضر الخُطَب قائِلاً: إنَّها في القِمَّة، ولكنَّه لا يفْقه ولا يذْكُر منها شيئًا، والآخر تشَهَّد وهو واقفٌ، وذلك صلَّى ثلاث ركعات، حَلَّ في كلّ ركْعة صندوقاً من صناديقهِ، فإذا كانت صلاتك كذا فَابْك على نفْسِك، والصَّلاة عماد الدِّين من أقامَها فقد أقام الدِّين، ومن هَدَمَها فقد هَدَمَ الدِّين، وأوَّل ما يُحاسب عليه المرء هو الصَّلاة، فإن صحَّت فاز ورَبِح، وإن لم تَصِحّ خاب وخَسِر.
 قال تعالى:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾

[سورة الأعلى: 6]

 لا تشْكُ ضَعْف ذاكِرَتِك ولكن اشكُ ضَعْف اهْتِمامِك، والدليل تجد إنسانًا في موضوع ذاكرته رائِعَة، وفي موضوعات أخرى قليلة، فأخوكم المتَحَدِّث سألتُ أخًا عن عَمِّه، فاسْتَغْرَب وقال لي: قبل سَنَتيْن ألْقَيْت تعْزِيَةً وموعِظةً في وفاتِهِ، أما الأمور المتَعَلِّقَة بالدِّين من قرآن وسنَّة فيلزَمُ عليك ألا تنْساها.

 

علاقة الإنسان مع الواحد الدّيان :

 ثمَّ قال تعالى:

﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾

[سورة الأعلى: 7]

 إلا إذا شاء الله لك أن تنسى، ولِحِكْمَةٍ بالِغَة، والإنسان أحْيانًا تنْحَلُّ مُشْكِلَةً له بالنِّسْيان، فالنِّسْيان من نِعَمِ الله الكبرى، فالله تعالى يُذَكِّرُكَ لِحِكْمَة ويُنْسيك لِحِكْمَة، ويُقَسِّي القلب ويُلَيِّنُهُ لِحِكْمَة، فإذا كنت أمام إنسان، علاقتك بالله، يُلَيِّن قلْبَهُ فَيَخْدُمُكَ، ويُقَسِّي قلبَهُ فَيُتْعِبُكَ، وإذا ذَكَّرَهُ قِصَّةً قديمة يُهْلِكُكَ، وإذا أنساه إيَّاها تمشي قَضِيَّتُك، فَعَلاقَتُكَ ليس مع الإنسان ولكن مع الواحِدِ الدَّيان، فَمُلَخَّص المُلَخَّص أنَّ هناك وُحوشاً كاسرَة مرْبوطة بإحْكام بِيَد إنسان عظيم، وحكيم، ونزيه، وكريم، فعلاقتك أنت ليس مع الوُحوش، ولكن بِمَن هي في يَدِهِ، فإذا أرْخى الزِّمام نَهَشوك، وإذا أحْكَمَه سَلِمْتَ منهم، والدليل قوله تعالى:

﴿ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِي ﴾

[سورة المرسلات: 39]

 فلو كنت تمشي بالطريق ورأيتَ كلْبًا بِيَدِ صاحِبِه، فهل علاقتك مع الكلب أم مع صاحب الكلب؟ مع صاحب الكلب، لأنَّه إن أرْخى الزِّمام نَهشَكَ، وهذا توحيد رائِع، وما تعَلَّمت العبيد أفضل من التوحيد.
 جاء توْجيهٌ لِوَالي البصْرة في عهْد الحسن البصري، وكان سيِّد التابعين، وهذا التَّوجيه مُزْعِج من الخليفة، ماذا يفْعل؟ إن لم يُنَفِّذ التَّوْجيه أبعَدَهُ الخليفة هذا إن لم يُعَذِّبْهُ، وإن نفذهُ غضب الله عليَّه، فاسْتحْق النار، فقال له الحسن رحمه الله: إنَّ الله يمْنعُك من يزيد ولكِنَّ يزيد لا يمْنعك من الله، فأنت إن أرْضَيْتَ الله عز وجل يمْنَعُ عنك يزيد، أما إن أغْضَبْتَ الله عز وجل فَمَن يمْنَعُهُ عنك؟ والله عز وجل مُهَيْمِن.

 

الله تعالى يعلم الجهر و ما يخفى :

 قال تعالى:

﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾

[سورة الأعلى: 7]

 فهو تعالى يعْلم الجَهْر وبالمُقابل السر، ويعْلَمُ ما تُعلنه وما خَفِيَ عنك، أربعة أشياء، لذلك علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
 شخص مثلاً على دَخْل مُعْتَدِل من البيْت إلى المسْجد؛ لو كان مع هذا ألف مليون ماذا سَيَفْعَل؟ لا يعْلم إلا الله ماذا سيَفْعَل، قد لا يسْتقيم على أمْر الله، لذلك ليس بالإمكان أبْدَعُ مِمَّا أعْطاك، لذلك الإنسان يوم القيامة يُلَخِّص علاقته بكلمة واحدة، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وحتَّى أهل النار تُكْشَفُ الحقائق، ورحْمة الله تعالى، وحِكْمَتُهُ، وعَدْلُهُ، وما ساق للإنسان مِن مصائِب، مِن أجل أن يرْتَدِع بها، ولا يوجد إلا أن يقول كل الخَلْق كلمة واحدة، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

 

قانون التيسير و التعسير :

 قال تعالى:

﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾

[سورة الأعلى: 8]

 أيها الأخوة؛ لا شيءَ أمْتَعَ من التيْسير، أحْيانًا في عَمَلك عقَبَة صغيرة المَشْروع فشل، ورقة صغيرة ذهب من جرَّائِها كل الملف، لا يوجد أصْعب من التَّعْسير، وهو يصنع في الإنسان خِبْرة حزينة صادِمَة، أما التَّيْسير فَهُوَ مُريح، قال تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[ سورة الليل : 8-10]

 بنى حياته على العطاء، واتَّقى أن يعْصي الله، فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرى في عمله، وعلاقاته، وصِحَّتِه، وترْبِيَة أولاده، وفي كلّ شؤون حياتِه.
 ثمَّ قال تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[ سورة الليل: 8-10 ]

 بنى حياته على البخل والأخذ، واسْتغْنى عن طاعة الله، وكذَّب بهذا الدِّين العظيم، فَسَنُيَسِّره للعُسْرى.
 فهذا رجل من الأغنياء؛ مصانع ومعامل وشركات، وحجْمُه المالي كبير جدًا، كان هناك قاطع كهربائي مُعَطَّل، فذهب ليُصْلِحَه، صعد الكرسي، فإذا به يسْقط على الأرض فوق هذه القطعة التي طولها ثمانية عشر سنتمتراً فدخلت في مِقعَدِه وقضيبِهِ، ذهب إلى المستشفى، فمات بهذا المرض وهو تَسَمُّم بالنُّسُج؛ ترك عشرين مليون دولار، فالإنسان قد تنتهي حياته على أتْفه سبب، وآخر مؤمن يحْفظه الله، لذلك كما قال تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[ سورة الليل: 8-10 ]

 فالتَّيْسير له قانون، وكذا التَّعْسير، ولا تقل لي: يدهُ خضْراء ؛ هذا كلام لا قيمة له، والدَّهْر معه، هذا كلام فارغ، هذا كذب، ولا تقل لي: القدَر قلب له ظهر المجنّ، أيُّ قدَرٍ؟ قُل لي: مُوَفَّق أم لا؟ أُمورُه مُيَسَّرة أم لا؟ فهي مُيَسَّرة لأنَّه أعطى واتَّقى وصَدَّق بالحسنى، ومُعسَّرة لأنَّه بخل واسْتغنى وكذَّب بالحسنى؛ هذا قانون إلهي، فإذا كنت مِمَّن يرْجو أن تتيَسَّر له تِجارته، وتربيَةُ أولاده؛ أعْطِ واتَّق وصَدِّق بالحُسنى، والحياة جنَّة أو نار، فهي جنَّة بِطاعة الله، ونارٌ بِمَعْصِيَتِه، وهي تيْسير أو تعْسير، ولا يُحَقَّقُ شيء إلا بِتَوفيق الله، قال تعالى:

﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ﴾

[ سورة هود :88 ]

 أحْيانًا ربُّنا عز وجل لأتْفَه سبب يُعَسِّر لك أمْرك، والله تعالى يمْكنه أن يُضَيِّع لك عشرين ساعة من دون فائدة، وقَّفتْ آلة وتحتاج إلى قطْعة، قمتَ بِفاكس وبريد واتِّصالات، ولمَّا وصلَت بعد هذه الأيام إذا بها أكبر حجْمًا من التي طلَبْتَها، فإذا الواحد بَخِل أن يُصلي، أو اسْتثْقل أن يحضر مجْلس علم جوزِيَ.
ذكر لي أحد الإخوة - وهو الآن قد تُوُفِّي رحمه الله - أنَّه ذهب يوم جمعة إلى التنزه ولم يُصلِّ، قال لي: ونحن في النُّزْهة قال لي أحد الأطفال هناك- وقد أحْببتُه لِحُسن مُعامَلَتِه- هل أمْلأُ لك من ماء بقين؟! فقلتُ: نعم، لمَّا ركِبْنا السيَّارة، ومشَيْنا نصف الطريق إذا بي أفْقِدُ جزداني، فيه ميكانيك السيارة، وشهادة سواقة، وبقيت ستَّة أشْهر مِن فرْع لآخر حتنَّى اسْتَكْمَلْتُ الأوراق، زكاة الوقت الصلوات، وحضور مجالس العلم، حتى يُزَكِّي الله لك وقْتَك.

 

تحميل النص

إخفاء الصور