وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الغاشية - تفسير الآية 17 الجمل والبعوضة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، في أواخر سورة الغاشِية وهي قوله تعالى:

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾

[ سورة الغاشية ]

 أوّل شيء الآيات التي في القرآن الكريم، والتي تتَحَدَّث عن الآيات الكَوْنِيَّة تَقْتَرِبُ من رُبع القرآن ؛ فهذه الآيات التي اخْتارها الله لنا موضوعات للتَّفَكُّر، كم هناك مِن الحيوانات ؟ هناك الملايين من أنواع الأسماك، وثلاثمائة ألف نوع من الطيور، والله عزَّ وجل اخْتار الإبِل، قال تعالى:

 

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾

 

[ سورة الغاشية ]

 لو أنَّ الإنسان بادئ ذي بدء اسْتَخْدم هذه الآيات القرآنِيَّة الكونِيَّة وفَكَّر فيها لَوَصَل إلى الله عز وجل، لذا هي مَنْهج، وعلى هذا الإنسان إذا فَكَّر، والتَّفَكُّر أعلى عِبادة على الإطلاق لأنَّه يزيدك معْرِفَةً بالله، وإذا عرَفْتَ الله تعالى عَرَفْتَ كُلَّ شيء، لذا طاعة مَن يعْرِف الله، ومَن لا يعرِف الله تعالى بينهما فرْقٌ كبير، فالذي لا يعرِفُ الله تعالى مُقاوَمَتُهُ هَشَّة، وتحت تأثير أيّ ضَغْط يخْرِقُ الاسْتِقامة، وتحت تأثير أيّ إغْراء يخرق الاسْتِقامة، بينما الذي يعرف الله تعالى لو قَطَّعْتَهُ إرْبًا إرْبًا لا يتَغَيَّر، قال تعالى:

 

﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾

 

[ سورة الأحزاب ]

 لو تساءَلْنا: رجلان مؤمنان، مِن أبوان مُسْلِمان، عاشا في بيئةٍ واحدَة، وفي مُعْطَياتٍ واحِدَة، فَلِما هذا يُطيعُ الله، وذاك يَعْصي الله تعالى ؟‍‍! لو أرَدْتَ جوابًا عِلْمِيًّا، فالذي يُطيعُ الله تَجِدُه انْطَلَق مِن معْرِفَة الله، والذي يعْصي الله انْطَلَقَ من ضَعْف معرِفَتِه بالله تعالى، فالإنسان ضِمْنَ الجَيْش، مهما كان مُسْتواه يعرف معنى لِواء، ويعرف معنى عصْيان أوامِر القادَة، كما أنَّه يعرِف معنى أنْ تُطيعَ أمْرًا فقَدْ ترْتَقي، وتترَفَّع إلى رُتْبة أعلى، فأنت ضِمْن هذا النِّطاق المَحْدود تعرفُ معنى الطاعة ومعنى المَعْصِيَة، أما الإنسان المَدَني والذي يبْعُد عن النِّطاق العَسْكري لا يُقَدِّر هذه الرُّتَب والصلاحِيَّات والإمْكانات، والعُقوبات، والمُكافئات، لذا أنت تُطيعُ الله تعالى بِقَدْر ما تعْرِفُه، والإنسان يَعْصي الله بِقَدْر ضَعْفِ إيمانه لذلك الإيمان المُنَجِّي هو الذي يحْمِلُك على طاعة الله تعالى، فإنْ لم يَحْمِلْك على طاعة الله، فلا قيمة لهذا الإيمان، إنَّهُ إيمان كما قال بعضهم إيمانٌ إبْليسي ‍! فإبْليسُ آمَنَ، وقال تعالى

 

﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)﴾

 

[ سورة الحجر ]

 يُخاطب الله تعالى بالرُّبوبِيَّة، ويحلف به تعالى، فالمُلَخَّص أنَّ الإيمان الذي لا يحْمِلُك على طاعة الله تعالى لا قيمة له، أما حينما تَسْتقيم على طاعة الله، فهذا الإيمان حقيقيّ، مِن أجْل أن يَزْداد إيماني قال تعالى:

 

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾

 

[ سورة الغاشية ]

 قال العلماء: الله جلَّ جلاله زوَّدَ الإبِل بِعَيْنَيْن تُشْبِهان الميكروسْكوب والتيليسْكوب بِآنٍ واحِد ! فالثاني يُقَرِّب البعيد، والأوَّل يُكَبِّر الصغير، فَعَيْنُ الجَمَل تُريهِ البعيد قريبًا، والصغير كبيرًا، وقد يأتي غُبار في الصَّحْراء يُعيق الرؤيا، فَلِلْجَمَل جَفْنٌ خاصّ يمْنعُ هذا الغُبار الدقيق جدًا الذي يُؤذي العَيْن، والجَمَل يستطيع أن يعيش بلا ماء ثلاثة أشْهر ! إذْ أجْهزة الجَمَل قادِرَة أن تأخذ ماء الخلايا، فالخَلِيَّة فيها ماء، وهذا السَّنام الذي تراه في الجَمَل هذه مُدَّخَرة غِذائِيَّة حتَّى هذا التاريخ، هناك دُوَل عُظْمى تسْتعين بالجَمَل على اجْتِياز الصَّحْراء، إذْ هناك عقَبات ورِمال وجبال من الرِّمال لا يستطيع اجْتِيازَها إلا الجَمَل ؛ مُصَمَّم للصَّحْراء، وهناك أكثر من خَمْسة عشرة مليون جمل بالأرض الآن، والجِمال لها طِباع عجيبة إلى درَجَة غير مَعْقولة، فالجَمَل لو أراد أن يسْتريح على جَنْبِهِ لبَطَلَتْ قيمته كُلِيًّا ! كيف تُحَمِّل عليه ؟ فلو أرَدْتَ أن تُحَمِّل عليه وهو واقِف لاحْتَجْتَ إلى سُلَّم، ولو تَحَرَّك أثناء التَّحْميل لسَقَط صاحبه مَغْشِيًّا عليه فهذه حِكْمَةٌ رائِعَة أنَّه يجْلس جلسةً نِظاميَّة، وهو مُنْخَفِض ؛ تَضَعُ عليه الأحْمال كُلَّها ثمّ ينْهَض وكأنَّ شيئًا لم يكن، إذاً اله تعالى هيَّأ له سفينة في بطنه، وسفينتان في يَدَيه، وسفينتان في رجليه فإذا جلس ارْتاح بطنه.
ثمَّ لماذا هذه الرَّقَبة الطويلة ؟ لأنَّه لو وقفَ لَوَقَعَ الحِمْل مِن عَلى ظَهْره هذه الرَّقَبَة الطويلة تُمَثِّل زراع القَبَّان الطويلة، وبها يتوازن حينما يقف ولأنَّ الجَمَل يعيش في الصَّحْراء، والتي فيها الشَّوْك، فإنَّ أطْيَبُ طعامٍ يأكله هو الشَّوك، كيف أنَّ ألَذَّ الطعام لدَيْك اللُّحوم مع الرزّ مثَلاً فإنَّ الله تعالى رَكَّبَ طَبْعَ الجَمَل على حُبِّ الشَّوْك، يأكل الشَّوْك وكأنَّهُ يأكل الحَلَوِيَّات الفاخِرَة، وفيه لُعاب سميك جدًا، لأنَّ هذه صَحْراء قاسِيَة، ولابدّ أن يستهلك الجَمَل أقلّ قَدَر مِن الماء، ولذلك بَوْل الجَمَل لَزِج، لأنَّهُ مُرَكَّز ترْكيزًا شديداً، وأقَلّ كَمِيَّة من الماء تَجْمع حمض اللَّبَن بِدَمِه فإذا بال الجمَل كان بوْله سميكًا ولَزِجًا لاسْتِهْلاك أقلّ كَمِيَّة ماء في جسمه، وحَتى فَمُه لكي لا يستهلك كمِيَّة من الماء فإنَّ شَفَتاهُ مُبَطَّنَتَان تَلْتَقِمان اللُّقْمة وتُغْلِقُهما، الجمَل مُعَمِّر، ويعيش زمنًا وثَمَنُه الآن بِبَلَدِنا تقريبًا مائة وخمسون ألفاً، فَسَيِّدُنا عثمان رضي الله عنه جاءَهُ في تِجارتِه ستُّ مائة جَمَل مُحَمَّلة بالبَضائِع، وعَرَضَها للبَيْع مِثل شاحنة وزنها عشرين طنًا في عصرنا، ربُّنا عزَّ وجل كيف أنَّ هذا الحيوان مُصَمَّم للصَّحراء في حركته، اُنْظر خُفَّ الجَمَل مُصَمَّم للرِّمال فلو أنَّ خُفَّ الجَمَل كَأرْجُل الحِصان لانتهى ولانْغَرَسَت رجلاه، ولسَبَّب هذا عرقلة الحَرَكة، وبِإمكانِهِ أن يُغْلِقَ أُذُنَه كي لا تؤْذيها الرِّمال هذا كُلُّه مِن خلق الله عز وجل.
صَنْعَةُ الله عز وجل مُتْقَنَة، وحينما قال الله عز وجل:

 

﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(3)﴾

 

[ سورة الملك ]

 يعني النَّمْلة والبعوضة، لا يوجد مَخلوق هَيِّن على الإنسان كالبَعُوضَة، فلو أنَّه قَتَل بعوضَةً أحْرَجَتْهُ بالصَّلاة لارْتاح منها، ولا يُفَكِّر نِهائِيًّا أنَّه قَتَل نفْسًا ‍! هذه البَعُوضة لها ثلاثة قُلوب ؛ قَلْب مركزي، وقلب لِكُلِّ جناح، وجناح البَعُوضَة يرِفّ أرْبعة آلاف مرَّة في الثانيَة ! والبَعوضة لها جِهاز رادار، فهي تَتَّجِه لِجَبين الإنسان في الظلام الدامس دون أن تتَّجِه إلى الوِسادة، لأنَّها تحمل جِهاز رادار فَهِيَ تَتَّجِهه إلى الهَدَف مِن دون رؤْيا أو بِأشِعَّةٍ تحت الحمراء، ولها جِهاز تَخْدير فإذا وَقَعَت على جبين إنسان فهِيَ تُخدِّر هذا الموقِع لكي لا يقتلَها ! والبَعوضة لها جِهاز تَمْييع، فالدَّم لا يدخل في خُرطومِها، فلا بدّ أن تُمَيِّعَهُ، ولها جهازٌ تَحْليلي، هناك دَمٌ يُناسبها وآخر لا يُناسِبُها، ولها مخالِب لِتَقِفَ على سَطْحٍ خَشِن، ولها محاجِم تعتَمِد تَفْريغ الهواء لِتَقِفَ على سَطْحٍ أمْلَس، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ(26)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 إذاً أيُّها الإخوة، لو تَفَكَّرْنا في موضوعات التي وَرَدَت في القرآن عن الكَوْن لكان هذا مَنْهَجًا للتَّفَكُّر لنا.

تحميل النص

إخفاء الصور