وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الغاشية - تفسير الآية 18 التَّفَكُّر أعلى عِبادة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، تَحَدَّثْتُ في الدرس الماضي عن قوله تعالى:

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾

[ سورة الغاشية ]

 كلُّ ما علاك فَهُوَ سماء، وفي السَّماء مَجَرَّات يُقَدِّرُها بعض العلماء مليون مليون مجَرَّة، والمجَرَّة مجْموعة نُجوم، وكُلّ هذه الأرقام في حُدود ما عرفهُ العلماء الآن، والمسْتقبل يكشِف عن حقائق مُذْهلَة، والكَون ما سِوى الله، ونَظَرِيًّا الكون مَحْدود، لأنَّ ما سوى الله حادِث، والحادِث يسْبِقُهُ عَدَم وينتهي إلى عدم، إذًا مَحْدود، ويبْدو لنا أنَّ ما غير سِوى الله مَحْدود وكُلَّما تقَدَّم العِلْم كشَفَ عن حقائق في الفَلَك يصْعُبُ تَصَوُّرها، فَمَجَرَّةً تَبْعُدُ عنَّا ثلاثمائة ألف بليون سنة ضَوْئِيَّة ؛ هذه مِن سنَتَيْن أرْسَلوا مَرْكَبَة إلى المُشْتَري بِسُرْعَة أربعين ألف ميل بالساعة ‍، وهي أعلى سرعةٍ وصَلَها الإنسان، وأربعين ألف ميل تعني سِتِّين ألف كيلومتر بالساعة ؛ فالطائرة النَّفاثة تسعة مائة كيلومتر، والتي تسْبق جدار الصَّوْت ألف ومائتان أو أكثر؛ هنا سِتِّين ألف كيلومتر بالساعة، وبَقِيَتْ هذه المركبة تمْشي نحو المشْتري ستَّة سنوات، والمُشْتري كوكب في المجموعة الشَّمْسِيَّة، والمجموعة الشَّمْسِيَّة قطْرها الضَّوئي ثلاثة عشرة ساعة يعني الضوء يقْطعُها مِن أوَّلِها إلى آخرِها في ثلاثة عشر ساعة، والقمر ثانية ضَوْئِيَّة، وقطعهُ الإنسان بأربعة أيَّام، والشَّمْسُ تبْعُد عنَّا ثمانِيَة دقائق ضَوْئِيَّة، أمَّا المسافة فمائة مائة وستُّ وخمسون مليون كيلومتر ‍! فَسِتَّةُ سنوات إلى أن وَصَلوا إلى المُشْتري، في المركبة يوجد مرْصَد عِمْلاق، وهذا المرْصد، وقد رصَدَ أبْعَد جرَّة كُشِفَت حتى الآن ؛ ثلاثمائة ألف بليون سنة ضَوْئِيَّة، والبليون هو ألف مليون والسَّنة الضَّوْئِيَّة بالثانية ثلاثمائة ألف كيلومتر، وبالدقيقة ضرْب ستِّين، وباليوم ضرب أربعًا وعشرون ساعة وبالسنة ضرب ثلاثمائة وخمس وستون ؛ هذا ما يقطَعُهُ الضَّوْء في سنة واحِدَة، قال تعالى:

 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾

 

[ سورة الواقعة ]

 فقوله تعالى:

 

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾

 

[ سورة الغاشية ]

 دخلنا الآن في صُلْب الآية كيف رُفِعَت ؟ هناك تجاذب بين الكواكب، والتَّجاذب يقتضي التجاذب، لمَ لا تنجذب الكواكب كلُّها إلى أكبر كتلة في الكون ؟! نَظَرِيًّا ينبغي أن يجْتمع الكون كلّه وِفْق نِظام الجاذِبِيَّة في كتلةٍ واحِدَة، فلماذا كما هو عليه ؟ حركة مع توازن، قال: الحركة عند العوام فيها بركَة ! والحركة في الكواكب ينشأ عنها قوَّة نابذة تكافئ القوة الجاذِبَة، فما دام الكوكب يدور فهو إذًا في وَضْعهِ المِثالي، فإذا تَوَقَّف انْجَذَب، فالله عز وجل قال:

 

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11)﴾

 

[ سورة الطارق ]

أي أنَّ كل كوكب في السماء ينطلق ويرجع إلى مكان انْطِلاقِهِ، فَكُلُّ كواكب الكون إذًا تدور في مسارات مُغْلَقَة.
 الآن هناك سؤال أدَقّ ! إذا كان لدينا كتْلتان مغناطيسيتان بِحَجْمٍ واحِد ووضَعْناهما على سطْحٍ مُسْتوي، وجئْنا بِكُرة حديديَّة ثقيلة، فهل نستطيع أن نضَعها بين الكتلتين في الوسَك الهندسي تمامًا بِحَيث لا تنجذب لا إلى هنا ولا إلى هنا ؟ نَظَرِيًّا ممكن أما عَمَلِيًّا فهذا مُسْتحيل لأنَّه لو انْجَذَبَتْ واحد بالمليار ميلي، لا يوجد أجْهزة دقيقة تضعُها في الوسط تمامًا !
 الآن لو أنَّ الكتلتين مُتفاوِتتان في الحجْم، هنا نحْتاج إلى حِسابات ! المسافات والقوى الجذْب والكتلة، ونحتاج إلى مختَصُّوا رياضيات وفيزياء، طيِّب لو كانت ثلاثة كُتَل ! مِن سابع المستحيلات أن يضع إنسان كتلة في الهواء بِحَيث تبقى مُستَقِرَّة، فإذا كانت عشرون كتلة متفاوتة في الحجم والمسافات بِقُوَّة الجذب والفراغ وهي مُتَحَرِّكَة والمُحَصِّلة اسْتِقرار المُتَحَرِّك؛ وهذا شيء يَصْعُب تَصَوُّره، فالكون كُلُّه مَجَرَّات وحُجوم مُتفاوِتَة وأماكن مُتفاوِتَة والكون كلُّه يدور ومُحَصِّلة هذا الدَّوران توازن حرَكي ؛ حَرَكَة مع توازن بحيث لو أيّ كتلة زاد انْجذابها إلى كتلة ثانِيَة ارْتَطَمَت بها ؛ ولا يعرف هذا الكلام إلا أستاذ رياضيات مُتَعَمِّق بالهَنْدسَة الفراغِيَّة، وهذا معنى قوله تعالى

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)﴾

[ سورة الرعد ]

 من يستطيع أن يُعَمِّرَ جامِعًا دون دعائِم ! ومن دون جدران ! هذا فوق طاقة البشر، لكن هذا هو وَضْعُ الكون، قال تعالى:

 

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾

 

[ سورة الغاشية ]

 وما الذي جعلها متوازنة ؟ فالقِطار باليابان إذا وصل متأخِّرًا ثلاثة دقائق يَدْفَع للرُّكاب تَعْويض، فلا بدّ أن ينطلق من توكيو إلى أوساكا وهناك حوالي ستُّ مائة كيلومتر، فيَلْزَم أن يصل بِفارِق أقلّ من ثلاثة دقائق، طيِّب أدَقُّ ساعَةٍ بالعالم ساعة بيكبِن ؛ كيف تُضْبط ؟ على مُرور نجْم، فهي حينما ترْصُد نجْمًا بِسَمْتٍ دقيق، يأتي في وقْتٍ مناسب لا يزيد ولا يتأخَّر ثانِيَة، فَحَركات النُّجوم بِمِعشار الثواني تنضبط، وتمْشي مسافات مُذْهِلَة، ولا أدَلَّ على ذلك، فالإنسان أحيانًا لا ينتبِه إذْ هناك تَقْويم، ففي اليوم التاسع عشر آب المغرب على الساعة السابعة وثلاثة عشر فرَضًا، فهل يُعْقَل أن نعرِف بعد سِتِّين يومٍ وبعد سنة وبعد ألف سنة، نعرف تَوْقيت المغرب مثلاً، فهذا التَّقْويم ماذا يعْني ؟ يعني أنَّ حركة الكواكب بِمِعْشار الثانِيَة، ونحن نتنبَّأ بِنِظام دقيق أنَّ الأرض دَوْرَتُها ثابتة، وكذا سرْعتها، وحركتها حول الشَّمْس ثابتة، وهذا التَّقْويم مأخوذ من دَوْرة الأرض حول نفسِها، ومن دورتِها حول الشَّمس، وكلّ هذه الدَّورات بِسُرْعاتٍ ثابتة لا تزيد ولا تنقص ! الأمر الثاني أنت عندك نهار وليل، فالأرض تدور ولو أنَّها واقفة لما كان هناك ليل ونهار، ولكان هناك نهار وليل سَرْمدي، فالنَّهار السَّرْمدي ثلاثمائة وخمسين درجة فوق الصِّفر ؛ حينها يموت كلّ شيء، الليل السرْمدي ومائتان وسبعون درجة تحت الصِّفْر، ولانْتَهَت الحياة حينها أما بِدَورَتِها ينشأ الليل والنهار.
 لو أنّ الأرض محورُها عمودي ؛ لكان هناك ليل ونهار ولكن فُصول ثابِتَة ! الصَّيْف أبدي والشِّتاء أبدي والرَّبيع أبدي، ولكن بِمَيْل المِحْوَر صار هناك صيف مُتَبَدِّل، وشتاء مُتَبَدِّل، وربيع مُتَبَدِّل، وخريف مُتَبَدِّل، وبِحَرَكَتِها حول نفْسِها نشأ الليل والنَّهار، فلو كان محورها متوازي مع مِحْوَر دورانِها لالْتَغى الليل والنَّهار ! فالميل دقيق جدًا في الأرض، فالله تعالى ذكَرَ الليل والنهار، وذَكر الشَّمس والقمر بِآيات كثيرة جدًا، وقال تعالى:

 

﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)﴾

 

[ سورة يس ]

 فالأرض شَكَّلَت حلزون في حركتها حول الشَّمس.
فالله عز وجل يأمرنا قائِلاً:

 

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾

 

[ سورة الغاشية ]

 أشِعَّةُ الشمْس في الصَّيْف لا تدْخل الغرف وفي الشِّتاء تَصِل إلى أقْصى مكان في الغرفة، ما معنى ذلك ؟ أنَّ الشَّمْس في الصَّيْف عمودِيَّة وفي الشِّتاء مائلة، فما هو الصَّيْف ؟ أن تكون أشِعَّةُ الشمْس عمودِيَّة على سطْح الأرض، فالأرض مِحْوَرُها مائِل.
طيِّب مَن جعل هذه الدَّوْرَة أثنى عشرة ساعة ؟ ليلاً ونهارًا ! تَصَوَّر لو كان الأمر ساعة ليل وساعة نهار، أو سنة ليل وسنة نهار، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)﴾

 

[ سورة القصص ]

 هذه آيَةٌ قُرْآنِيَّة، ونحن عندنا اخْتِلاف الليل والنهار، وعندنا اخْتِلاف طول اللَّيل والنَّهار ففي الصَّيْف تجد المغرب على الساعة الثامِنَة، وبالشِّتاء الرابعة وستُّ وثلاثون دقيقة، فاختِلاف الليل والنهار آية من آيات الله تعالى.
الإنسان إذا فكَّر في هذا الكون المُحْكَم، وصُنْعَ الله الذي أتْقَنَ كلّ شيء عرف الله، والتَّفَكُّر أعلى عِبادة، وقَضِيَّة الكوْن قَضِيَّة كبيرة جدًا في حل أن تسْتوْعِب حركة الأرض حول نفْسِها، والله عز وجل قال:

 

﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾

 

[ سورة الشعراء ]

 ومرَّةً قال:

 

﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ(17)﴾

 

[سورة الرحمن ]

 وذكر مرَّةً:

 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ(40)﴾

 

[ سورة المعارج ]

فمرَّة بالإفراد والأخرى بالتَّثْنِيَة وتلك بالجمْع !
 فما هذا ؟ فَرَبُّ المشرِق يعني ربُّ المشرِق إجْمالاً، أما ربُّ المَشرقين فهي النِّهاية العُظْمى في الشِّتاء، والعُظْمى في الصَّيْف، وفي الحقيقة كلّ يوم هناك مشرق ومغرب جديد ؛ ربُّ المشارق والمغارب فهذا كلام خالق الكون وليس كلام إنسان، وعِلْمُ الفلَك عِلْمٌ كبير جدًا، فالأرض تسير حول الشَّمْس بِمَسار إهْليلجي تسْتغرق حركتها حول الشَّمْس ثلاثمائة وخمس وسِتون يومًا وربْع ! وفي أثناء سَيْرِها تمُرُّ بالبُروج، وفي كل شهر تمرّ بِبُرْجٍ، ولذلك نُجوم السماء تختلف من شهر إلى شهر، فهناك نُجوم ثابتة مع الأرض وتدور معها، ومُتَحَرِّكَة تبْدو ثابتة، فالله تعالى قال: والسماء ذات البروج واليوم...مشهود " أبراج السماء بحْث قائِم بِذاتِه ؛ ضَرْب التَّبابِنَة، ففي أيام غِياب القمر الشديدة نام على السَّطْح يجد مثل الغبار في السماء ؛ وهذا هو ضَرْب التَّبابِنَة وهي مجَرَّتُنا، وهي تبْدو على شَكل عضَلة، والمجموعة الشَّمسيَّة بِأكْملها نقطة في هذه العضلة ! هذه نراها بالصَّيف أيام غياب القمر، كأنَّ سحابة مُمْتَدَّة، وهي مجَرَّة مُتَوَسِّطة جدًا، وأقرب نجْم فيها مُلْتَهِب بُعْدُهُ عنَّا أربعة سنوات ضَوْئِيَّة، ولو كانت هناك سيَّارة وطريق مُعَبَّد لاحْتَجْنا أنْ نصِلَ إليه خمسين مليون سنة، وهو أقرب نجْم مُلْتَهِب على الإطلاق، قال تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم..عظيم "

تحميل النص

إخفاء الصور