وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الغاشية - تفسير الآيات 21 - 26 الإنسان مُخَيَّر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، آخر آيات سورة الغاشية هي قوله تعالى

﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾

[ سورة الغاشية ]

 الإنسان مُخَيَّر ولا يستطيع أحَدٌ أن يُجْبرَهُ على شيء، والدليل قوله تعالى:

 

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 وقال تعالى:

 

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56)﴾

 

[ سورة القصص ]

 قال تعالى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ

 

[ سورة الشورى ]

 فإنسانٌ لإنسان ينْصَحُه، أما أن يجْبره فلا يمكن والأبلَغُ من ذلك، قوله تعالى:

 

 

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)﴾

 

[ سورة إبراهيم ]

 فَحَتَّى الشيطان الذي يسْعى جُهْدهُ لإغْواء بني آدم ليس له على الإنسان سُلطان بل كما قال: إلا أني دعوتكم فاستَجَبْتُم لي ! فالإنسان في الأصل مُخَيَّر، وجاء إلى الدنيا وفْق هذا الشَّرط، ولولا أنَّهُ مُخَيَّر لما كان هناك معنى للتَّكْليف، ولا لِحَمْل الأمانة ولا للجنَّة ولا للنار، ولا لثَّواب ولا للعِقاب ؛ كُلُّ هذا يُلْغى لو أنَّهُ مُجْبر، فالله تعالى لو أجْبر على الطاعة لبَطَل الثَّواب، ولو أنَّه أجْبرهم على النعْصِيَة لبَطَل العِقاب، فَتَخْيير الإنسان هو سبب رُقِيِّهِ، قال تعالى: فذَكِّر إنما أنت مذكر...مسيطر " لذلك الذين رأَوا النبي عليه الصلاة والسلام وكماله وعلْمَهُ ورحْمَتَهُ وبلاغَتَهُ، وسَمِعوا الوَحْي من فَمِهِ الشريف، ولم يؤمنوا به ! عَمُّه أبو لهب وأبو جهل وأبو طالب ؛ كُلُّهم كفروا به ! قال تعالى:

 

﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾

 

[ سورة الغاشية ]

 فالإنسان إذا أراد الحقيقة كلّ شيء يدلُّه عليه، ولو رفضَها لو الْتَقى بِاكْبر الأنبياء ولو رأى المعجِزات، فبنو إسرائيل رأَوا البحر أصبحَ يابِسًا وساروا فيه فلمَّا خرجوا مِن ضَفَّتِه الثانِيَة دخل فرعون فعاد البحر بحْرًا فَغَرِقَ، وهل من آيَةٍ أبْلَغُ من هذه الآية ؟! ومع ذلك لمَّا رأَول أناسًا يعْكِفون على أصْنامٍ يعْبُدونها من دون الله قالوا:

 

﴿ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)﴾

 

[ سورة الأعراف ]

 كلامٌ دقيق ؛ فالإنسان إذا أراد الحقيقة كلّ شيء يدلُّه عليه،ويستفيد من أيّ نصّ ومن أيّ كتاب ومقولة ودرس، ولو رفضَها لو الْتَقى بِاكْبر الأنبياء ولو رأى المعجِزات ؛ لا يؤمن بك، قالوا: لن نؤمن بك يا صالح جتَّى تخرج ناقَةٌ من هذا الجبل !قال تعالى:

 

﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا(14)وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا(15)﴾

 

[ سورة الشمس ]

 توضيحٌ لهذه الحقيقة: أرْخَص آلة تَصْوير إذا فيها فيلم تأخذ صورة، وأغْلى آلة تَصْوير إذا لم يكن فيها فيلم لا تأخذ أيَّة صورة ! فالفيلم هو سبب الحقيقة، فالإنسان إذا أراد الحقيقة وصل إليها، وإن رفضها فهو يرفضها حَتْمًا، والدليل أنَّ أحداث الدنيا لو درسْتها دراسة دقيقة مِن زاوية القرآن الكريم لوَجَدْتها تنطق بِوُجود الله وقدرته ووحْدانِيَّتِه، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)﴾

 

[ سورة الأنعام ]

 والآية الثانية قوله تعالى:

 

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾

 

[ سورة النحل ]

 إذًا كما قال تعالى:

 

﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)﴾

 

(سورة الغاشية )

 توَلَّى ؛ اعرض عن الله وكذَّب هذا الدِّين، ولم يعْبأ بِهذا المنهج، فهذا يُعَذِّبُه الله العذاب الأكبر فعَذاب الدنيا أصغر ؛ الأمراض العُضالة، والقَهْر، وفَقْد الحُرِيَّة، والفقْر الشديد، والذلّ والعذاب المُهين والأليم ؛ كل هذا أصْغر قال تعالى: ولنذيقنَّهم من العذاب الأدنى..." فالعذاب في النار عذابٌ أكبر والسَّعيد مَن نجى من هذا العذاب، قال تعالى: فمن زحزح عن النار..." لو وَصَلْتَ إلى قِمَّة المالي أو الإداري أو العلمي ؛ يأتي الموت يُنْهي هذا النَّجاح ويبْقى الحِساب.
 ثمَّ قال تعالى: إنَّ إلينا إيابهم...حسابهم " أوَّل ليلة يوضَعُ فيها المَيِّت في قبْره يقول له الله عز وجل: عَبْدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دَفَنوك، ولو بَقُوا معك ما نفعوك، ولم يبْقَ لك إلا أنا، وأنا الحيّ الذي لا يموت، أنْصَحُ كلّ أخ أن يتَّبِعَ جنازة كلّ ميِّت ولو لم يعْرِفْهُ، كنتُ قبل يومَين في تشْييع جنازة أحد إخواننا، فقُلْتُ كلمَةً فيها سطْرين وذلك لِشِدَّة الحرّ، فَخِفْتُ على الحاضرين: اِعْلموا أنَّ ملَكَ الموت قد تَخَطَّانا إلى غَيرنا وسيتَخَطَّى غيرنا إلينا، فلا بدّ أن يأتي يوم ويكون مَحَلّ هذا المَيِّت الذي أنتم أمامه نحن ! فهذا الذي يعيش في بيْتٍ أنيق ورفاهة سَيُوضَع في قبْرٍ ويُرْمى عليه التراب ؛ اِعْلموا أنَّ ملَكَ الموت قد تَخَطَّانا إلى غَيرنا وسيتَخَطَّى غيرنا إلينا، فلْنَتَّخِذ حِذْرنا، الكيِّس من ذان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني ؛ وهذا حال المسلمين الآن، غارقين بالمعاصي سهرات فاجرة، وتِجارة فاسدة، ورِبْح حرام، ونساؤُهُ كاسِيات عاريات، ثمَّ يقول: تسَعُنا رحْمةُ الله، أعطى نفسَهُ هواها وتمنى على الله الأماني.
 العاقل كلّ العاقل، والذكِيّ كل الذَكيّ، والفالِح كلّ الفالِح، والمُتَفَوِّق كلّ المُتَفَوِّق مَن يُعِدُّ لِهذه الساعة التي لا بدّ منها، يُعِدُّ لها بالتوبة والاسْتِقامة والعمل الصالِح، وطلب العِلم وتعْليمه، لذلك كما قال تعالى: " إنَّا إلينا إيابهم..." يوضَع بالقَبْر، وسَيُعامَل إلى الأبَد وِفْقَ ما سَلَك في الدنيا، فقد ينجح الواحد من الصف الحادي عشر إلى الباكالوريا وقد تكون علامته تعيسة أو جيِّدة ؛ المُهِمّ نَجَح أما للارْتِقاء إلى الجامعة لا بدّ من علامات تخْتَلِف من فرْعٍ لآخر، هناك علامات هنْدسة وعلامات للطبّ، وأخرى كليَّة علوم، ومعهد مُتَوَسِّط، فَمَجْموع علاماته يُحَدِّد مصيرَهُ، أما النَّجاح الآلي في الصُّفوف الأخرى هو نجاح لا اعْتِبار له ‍! فكذلك يوم القيامة اسْتِقامتنا تُحَدِّدُ مصيرَنا الأبدي، ومتى يُحَدَّدُ هذا ؟ عند الموت، فَكُلُّنا يموت ولا يبْقى إلا ذو العِزَّة والجبروت، والليل مهما طال فلا بدّ من طلوع الفجْر، والعُمْر مهما طال فلا بدّ مِن نزول القَبْر.

 

وكل ابن أنثى وإن طالتْ سلامتُهُ  يوْمًا على آلَةٍ حَدْباء محمول
فإذا حَمَلْتَ إلى القُبور جنازَةً  فاعْلَم بأنَّك بعدَها مَحْمول

 كان عندي شريط قديم سَمِعْتُه، فإذا ثمانيَة أشخاص في هذا الشريط قد ماتوا ! فقُلْتُ ياتي وقت ويكون كلّ مَن في الشريط قد ماتوا ! هذه الدنيا ! هي ساعةٌ فاجْعَلْها طاعة، والنَّفْسُ طمَّاعة فَعَوِّدْها القناعة.

 

تحميل النص

إخفاء الصور