وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الشمس - تفسير الآيتان 09 - 10 الفلاحُ هو النَّجاح.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، في سورة الشمس، قوله تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾

[ سورة الشمس ]

 لو تتبَّعْنا فِعْلَ أفلح في القرآن الكريم نَجِدُهُ في عِدَّة آيات فقط قال تعالى

 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 وقال تعالى:

 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14)﴾

 

[ سورة الأعلى ]

 الفلاحُ هو النَّجاح، لكن بِنَظَر الناس ؛ ما هو الفلاح ؟ لو سألتَ ألف إنسانٍ ما هو الفلاح ؟ قد يقول بعضهم: أن تكون غَنِيًّا، وقد يقول بعضهم: أن تكون قَوِيًّا، وقد يقول بعضهم: أن تكون وسيمًا، وقد يقول بعضهم: أن تُمارِسَ كلّ الشَّهوات، إلا أنَّ مِقْياس الفلاح في القرآن ؛ قد أفلح مَن زكَّاها ! لأنَّ الإنسان يحبّ ثلاثة أشياء في أصْل فِطْرَتِهِ: يُحِبّ الكمال، ويحبّ الجمال، ويحبّ النَّوال ؛ العطاء فلو أعْطاك إنسانٌ ذميم مليون تُحِبُّهُ مِن أعْماقِك.
الكمال كلُّهُ عند الله تعالى، قال تعالى:

 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾

 

[ سورة الأعراف ]

 فإن كنتَ تُحِبُّ الكمال، فالله تعالى مَنْبع الكمال، وإن كنتَ تحبّ الجمال فالله أصل الجمال، وكل ما في الكَون مِن جَمال مَسْحَةٌ مِن جمال الله عز وجل ؛ وإنَّ الله جميل، وأقرب دليل أنَّ الإنسان إذا شَعَرَ أنَّ الله تعالى يُحِبُّه يمْتلأُ قلبُهُ سعادَةً لو وُزِّعَت على أهل الأرض لَكَفَتْهُم، النَّشْوَةُ الجمالِيَّة، هناك تعْبيرات فلْسَفِيَّة في كُتب الفلْسَفَة ؛ النَّشْوَةُ الجمالِيَّة! وهي التي يُحْدِثُها القُرْب من الله تعالى تَفوق كُلَّ نَشْوَة، وأنت قد تذْهب إلى مَصْيَف حوله خمسون سيَّارة بعد الساعة العاشرة ليلاً ؛ ماذا يفْعَلُ هؤلاء هنا ؟ يجْلسون على طاولات ويأكلون ويُمْتِعون نظرهم بامْرأة شِبْه عارِيَة ترْقُص أو تُغَنِّي ؛ هؤلاء رُوَّاد المَلاهي والحانات والأماكن التي تُرْتَكَبُ فيها المعاصي، فلو عرفوا ما عند الله تعالى مِن سعادة لكانوا أوَّل سابِقٍ إلى باب الله عز وجل إلا أنَّ الأزْمَة أزْمَةُ عِلْم، ولو يعْلم المُلوك ما نحن عليه لقاتَلونا عليه بالسُّيوف، وفي الدنيا جنَّة من لم يدْخُلْها لم يدْخُل جنَّة الآخرة ! ما يفْعلُ أعْدائي بي ؛ بُسْتاني في صدْري، إن أبْعَدوني فإبْعادي سِياحة، وإن حَبَسوني فَحَبْسي خَلْوَة، وإن قتلوني فقَتْلي شَهادة.
 الإيمان مَرْتَبَة عِلْمِيَّة، ومرْتَبَة جمالِيَّة، ومرْتَبَة خُلُقِيَّة، فهي عِلْمِيَّة إذْ أنَّ المؤمن عرف الحقيقة، والحقيقة المطْلقة هي الله عز وجل، هل هناك فلاح ونجاح عِلْمي يفوق أن تعرِفَ الحقيقة المُطْلَقَة ؟ فهذا أنْشْتايْن عرف نَظَرِيَّةً نِسْبِيَّة، وعرف قوانين فيزْيائِيَّة، وأرْخَميدِس عرف قانون السوائل والضَغْط، ونيوتن عرف قاون الجاذِبِيَّة، وبوتال عرف ثُقْب بوتال بالقلب، فَكُلّ عالِم عرف شيئًا من مَخْلوقات الله، أما المؤمن الصادِق عرف الله! دَقِّقوا ؛ هذا القرآن اُدْخُل لأيِّ مكْتَبَةٍ في العالم مَن صاحب هذا القرآن ؟! هو الواحد الدَّيان، فَضْلُ القرآن على أيِّ كتابٍ مُؤَلَّفٍ في الأرض كَفَضْل الله تعالى على خَلْقِهِ، وبين القرآن وبين أيِّ كتاب كما بين الله تعالى وبين عبادِهِ.
طيِّب ؛ بين المؤمن الذي عرف الحقيقة المطلقة وهي الله، وبين أيِّ عالِمٍ كما بين الله وعباده ‍! الإيمان درَجَة عِلْمِيَّة لأنَّهُ عرف الله، والإيمان درجة خُلُقِيَّة لأنَّ سلوك المؤمن مَحْكوم بِمَنظوم قِيَم أخْلاقِيَّة دقيقة جدًا.
حدَّثني أخٌ كان بِمَسْمَكِة ؛ اشْترى سَمَكًا، فالعامِل مباشرة أراد قطع السَّمك وهو يتحرَّك، وذلك لِيُنَظِّفَهُ ! وهذا لا يجوز، حتَّى يموت قال تعالى:

 

﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36)﴾

 

[ سورة الحج ]

 فأنت إن نَزَعْتَ أحْشاءها وهي تتحَرَّك فهذا تعْذيب ! فقال له: لم يقُل لي أحَدٌ هذا الكلام، وأنا لي الآن ثلاث سنوات ! الجواب: لأنَّكم شارِدون، أما المؤمن فلهُ مَنْهَج ولا يستطيع أن يُعَذِّب مَخْلوقًا، ولذلك مُعَلِّمُ الناس الخير تُصَلِّي عليه الملائكة، وحتَّى الحيتان في البحر، والمؤمن منْضَبط، وقال عليه الصلاة والسلام:

 

((عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ* ))

 

[ رواه مسلم ]

إذا قتلتم فأحسِنوا القتْلة..." فالإيمان درَجَة خُلُقِيَّة.
 والإيمان درجَة جمالِيَّة، لأنَّ المؤمن يسْتَمْتِعُ بالقُرْب من الله تعالى وهي مُتْعَةٌ تفوق أيَّ مُتْعَة، لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام:

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُوَاصِلُوا قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ قَالَ فَوَاصَلَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ *))

[ رواه البخاري ]

 وأسْعَدُ الخلق قاطِبَةً هو النبي عليه الصلاة والسلام، ولأنّه أقرب الخلق إلى الله، فالإنسان يُحِبُّ الجمال والله منْبَعُ الجمال، ويحبُّ الكمال والله مَنْبه الكمال، ويُحِبُّ النَّوال وهو العَطاء، فَكُلُّ عطاءات الأرض هي من الله، فإذا الأب قبَل ابنَهُ ما معنى ذلك ؟ لولا أنَّ الله تعالى أوْدَعَ في قلْب هذا الأب هذه الرَّحْمة ما قبَّل ابنهُ ‍! مرَّ سيِّدنا موسى - وهذه قِصَّة رمْزِيَّة - على امْرأة تخْبز على التَّنور وابنُها تضَعُه على جانب التَّنور، وكلَّما وضَعَتْ رغيفًا في التَّنور قبَّلَت ابنها وضَمَّتْهُ فَعَجِبَ سيِّدُنا موسى من هذه الرَّحْمة التي أودِعَت في هذه المرأة، فرَبُّنا عز وجل أراد أن يُعَرِّفَهُ بالله فنزَعَ منها الرَّحْمة، ولما بكى ابنُها ألْقَتْهُ في التَّنور ! فالنَّوال هو العَطاء، أرْقى إنسان له دَخْل يكْسب منها قوتًا، إذا تجَمَّدتْ نقطة دم أدَّتْ به إلى الجنون، وأقرب الناس إليه ؛ ابنه يُرْسِلُهُ إلى مَشْفى الجنون ‍! فأين هي مكانتُك ؟ وقيمتك ؟! ما معنى جنّ ؟ يعني أنَّ نقطة دم تجَلَّطَت في شرْيان فرْعي من الدِّماغ ! وسَدَّت مكان الذاكرة ففَقَدَ كُلَّ ما عرفهُ !
صَيْدَلي مَشْهور جاء ابنُه من أمْريكا، فقال الأب لابنه: من أنت ؟! أُصيب بِفَقْد الذاكرة، قال تعالى:

 

﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ(67)﴾

 

[ سورة يس ]

 أخٌ من إخواننا الكرام توفَّاهُ الله عز وجل، وقبل أن يموت بِشَهْر خرج من معْمَلِهِ فلم يعرف مكان بيْتِه ! وظَلَّ ساعَةً يمشي يبْحث عن بيْتِه، وهو يمْشي تذَكَّر بيْتَ ابنِه، فذَهَب إليه وقال له: دُلَّني على بيْتي ! فالإنسان كُلُّه عطاءٌ من الله، وإذا وصَلْتَ إلى بيْتِك فهذا من الله، وإن رأَيْتَ ابنك هذا مِن الله تعالى، وإذا مكَّنَكَ الله من مَصْلَحِةٍ فهذا مِن الله تعالى؛ كهربائي أو صناعي أو مهندس أو كاتب هي كلُّها من الله فالله عز وجل مصْدر النَّوال والكمال والجمال، فما هو الفلاح ؟ قال تعالى:

 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾

 

[ سورة الشمس ]

 من عرَّف نفْسَهُ بِرَبِّها، وحمَلَها على طاعتِه فأقْبَلَت عليه فتَزَكَّتْ، وزكاة النَّفْس في الدنيا ثَمَنُ الجنَّة إلى أبَدِ الآبِدين.
والله تعالى قال:

 

﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

 

[ سورة الشمس ]

 هو مَن حَمَل نفْسَهُ على الغفْلة ؛ غافِلٌ و شارِدٌ ولم يتقَيَّد بِمَنْهَج، فعَلَ ما يُريد وأكل ما يشاء، وذهب إلى مكان يُحِبّ، وأطْلق بصرَهُ بالحرام، وخان الأمانة، فأنت لن تكون فالِحًا إلى أن ينْطبق مِقْياس الفلاح عندك على مِقْياس الفلاح في القرآن، ومِقياس الفلاح في القرآن كما قال تعالى:

 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾

 

[ سورة الشمس ]

 ومِقياس الفلاح عندك المال، ولكن عند الموت لا يوجد المال، فأَحَد أكبر أغنياء العالم عنده صندوق حديد على شَكل غرفة كبيرة، كان يُقْرِض الحكومة البريطانِيَّة، فأحد المرَّات دخل إلى صندوقه الحديدي، وأُغْلِقَ عليه الباب فبات يصيح أيَّامًا، وقد ظنَّ أهله أنَّه سافر، جرح أصبُعه وكتب في الحائط: أغنى رجل في العالم يموت جوعًا وعطَشًا !!
 وكان هناك ثريٌّ بِلُبْنان قبْر جميل جدًا ومُطِلّ على البحر بأعلى منطقة، وعنده طائرة خاصَّة، فوَقَعَتْ ؛ زَوْجَتُهُ دفَعَت الملايين كي تُنْقِذَهُ فَعَثَروا على الطَّيار ولم يعْثُروا على صاحب القبر !! لن تُفْلِح إلا إذا انْطبق مِقْياس الفلاح عندك على مِقْياس الفلاح في القرآن، تكون فالِحًا وناجِحًا وعاقِلاً ومُتَفَوِّقًا إذا عرفْتَ الله وأطَعْتَهُ وتقَرَّبْتَ إليه، زكاة هذه النفس ثمن الجنَّة ؛ ثمنُ جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، قال تعالى:

 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾

 

(سورة آل عمران )

 متاع الغرور، عِشْ ما شئْتَ فإنَّك ميِّت، ولذائذ الدنيا لا بدّ مِن أن تتْرُكَها أو تتْرُكَكَ، فالموتُ يحْرِمُك مِن كلّ شيء، وأحْيانًا وهو حيّ يفقد بصره، وحركتَهُ.
فهذه الحظوظ ؛ الصَّحة والوَسامة والذَّكاء إما أن تفْقِدَها وإما أن تفْقِدَك أما في الجنَّة قال تعالى

 

﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)﴾

 

[ سورة ق ]

 فَمُلَخَّص الدرس يجب أن ينْطبق مِقْياس الفلاح عندك على مِقْياس الفلاح في القرآن، ففي القرآن قال تعالى:

 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾

 

[ سورة الشمس ]

تحميل النص

إخفاء الصور