وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الضحى - تفسير الآيتان 04 - 05 الدنيا مَحْدودة وسَنَواتها مَعْدودة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، مِن سورة الضُّحى قوله تعالى:

﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾

[سورة الضحى]

هذه الآية مُوَجَّهة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك قاعِدَةٌ في التَّفْسير أنَّ كُلَّ آيَةٍ مُوَجَّهَةٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام هي مُوَجَّهَةٌ حُكْمًا إلى المؤمنين، ما لم تَقُمْ قرينَةٌ تَدُلّ على عَكْس ذلك.
 النبي عليه الصَّلاة والسلام لهُ خُصوصِيَّات، فإذا قامَتْ قَرينَة في الآية تَدُلّ على عَكْس ذلك انْصَرَفَت الآية إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم، أما إن لم تَقُم هذه القرينة فَكُلّ خِطابٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو حُكْمًا خِطابٌ إلى المؤمنين.
فالله عز وجل وهو الخبير، وهو العليم، وهو الرحمن الرحيم قال:

﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾

[سورة الضحى]

 فالذي يرى أنَّ الأولى خير من الآخرة يُكَذِّب هذه الآية، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا(27)﴾

 

[سورة الإنسان]

 هذه السيارة رُبْع ساعة، وبين أن تتملَّك هذه الدَّراجة الناريَّة فأَيُّهُما تَخْتار ؟ الدَّراجَّى لأنَّها سَتُصْبح مُلْكًا لك ! الآن تَخْيير ثانٍ خيَّرْناك بين سيَّارتَيْن ؛ أن تركَب الأولى رُبع ساعة، وأن تتمَلَّك الثانِيَة فماذا تَخْتار ؟! طبْعًا الثانِيَة مِن دون تَرَدُّد، طيِّب فلو خَيَّرْناك بين أن تركبَ هذه الدَّراجة رُبع ساعة وبين أن تتمَلَّكَ هذه السيَّارة ! هنا لو تَرَدَّد الإنسان ثانية في عدم أخْذ السيارة فهُوَ مَجْنون.
 الدنيا مَحْدودة ؛ وهي سَنَوات مَعْدودة، يقول الإمام علي رضي الله عنه: يا بُنَيّ، العِلْم خَيْرٌ من المال، لأنَّ العِلْم يَحْرُسك، وأنت تَحْرس المال، والمال تُنْقِصُهُ النَّفَقَة، والعلم يَزْكو على الإنْفاق، مات خُزَّان المال وهم أحْياء، وهم أحْياء مانوا ميِّتين:

 

ليس مَن مات فاسْتَراح بِمَيِّتٍ  إنَّما الميِّتُ ميِّتُ الأحْياء

 وقال تعالى:

 

 

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)﴾

 

[سورة النحل]

 إنسانٌ بلا هَدَف، وبلا قِيَم، وبلا آخرة ولا منْهج، كائِنٌ شارِد وكائِنٌ يبْحَث عن شَهَواتِه، ويريدُ كلّ بلا ثَمَن، ويبيعُ دينه وآخِرَتَهُ بِعَرَضٍ من الدنيا قليل ! ويَسُبُّ الإله لأَدْنى انْزِعاج؛ وهذا حال الناس، لذلك قال تعالى

 

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18)﴾

 

[سورة الإسراء]

 ذَكَرْتُ لكم مثلاً كثيرًا إلا أنَّ ما كانه مُلائِم جدًا في هذا الدرس ؛ أَحَدُ سيَّارات ا لنَّقْل العام كانت واقفَة في المَرْجة باتِّجاه الشَّرْق مُتَّجِهَةً من جِهةَ المُهاجِرين، في أيَّام الصَّيْف الحارَّة تَصْعد إليها، تَجِدُ على اليمين شمْس، وعلى اليَسار ظلّ، الراكب العاقل يَجْلس في الشَّمْس لأنَّ هذه السيارة مُتَّجِهَة نحو المُهاجرين فإذا دارَت فَخِلال أقلّ من دقيقة يُصبح المكان المُظلَّل مُشْمِسًا، لذا الراكب يُمْتَحَن عَقلُهُ في مكان جُلوسِهِ، فالذي عطَّل عَقْلَهُ يجْلس في الظلّ، وبعد دقيقة تلْدغه الشَّمْس إلى نِهاية الطريق، والذي اسْتَخْدَمَ عَقْلَهُ يجْلس في الشَّمْس ويتحمَّلُها دقيقة، وينْعُمُ بالظل عشرين دقيقة، فهذا المَثَل يُعَبِّرُ عن الدنيا والآخرة، فالذي اسْتَعْجل الطَّيِّبات في الدنيا خَسِر الآخرة.
الآية دقيقة جدًا، قال تعالى:

 

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾

 

[سورة الضحى]

 أحْيانًا يأتي الابن المدْرسة جائِعًا، وهي تَطْبخ ألَذَّ الطَّعام فإذا به يأكل زيتون وخبر وزَعْتر، تقول الأم: اِصْبِر ! فإذا به يأكل أخْشَن طعام، ويُضَيِّع أطْيَب طعام، فَرَبُّنا عز وجل خَلَقَنا لِجَنَّةٍ عرْضُها السَّماوات والأرض، والإنسان لِجَهْلِهِ ولِطَيْشِهِ اسْتَعْجل الحياة الدنيا:

 

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾

 

[سورة الضحى]

 وللآخرة خير لك من الأولى، وربنا عز وجل يقول:

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾

 

[سورة التوبة]

 الدنيا متاعُها قليل، وهي تَضُرّ وتَهُرَ وتَمُر، وهي دارُ مَن لا دارَ له ولها يَسْعى مَن لا عَقْل له، والدنيا جيفَة طُلابُها كِلابُها.
مرَّ النبي عليه الصلاة والسلام مع أصْحابِهِ بِشَاةٍ ميِّتَة أُلْقِيَت في الطريق جيفة، ولها رائحة لا تُحْتَمَل،

((فقال عليه الصلاة والسلام: اُنْظروا كم هي هَيِّنة على أهلها حتى ألْقَوها في الطريق: والذي بعث محمَّدا بالحق لا الدنيا أهْوَن على الله من هذه الشاة على أهلها..))

 والحديث المَعْروف:

((لو أنَّ الدنيا تَعْدل عند الله جناح بَعوضَة....))

  هل تَقْبَلوا هذه النَّصيحة من العلي الكبير ؟ والعليم الخبير ؟ ومن رب العالمين ؟ ومِمَّن بِيَدِهِ ملكوت السماوات والأرض:

 

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾

 

[سورة الضحى]

 قد يوعَدُ الطالب حين ذهابِهِ إلى أحَدِ الدُّول ؛ أمريكا أو فرنسا أنَّهُ إن تَحَصَّل على دكْتوراه سيَحْصَل على أكبر منْصب، ودَخْل كبير ومنزِل و... إلا أنَّ هذا الطالب قد يَغْتَرّ فَيَنْغَمِسُ في الشَّهوات واللَّذائِذ والموبِقات، ويُضَيِّع مُسْتَقْبَلَهُ كُلَّهُ، ويُصْبِحُ في مَزْبَلَة المُجْتَمَع، لذا :

 

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾

 

[سورة الضحى]

 الدِّينُ قِيَمٌ وحُدود، ومَنْهَج، هذا حلال وذاك حرام، هذه تَجوز وتِلك لا تَجوز، فالله تعالى قال لك:

 

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾

 

[سورة الضحى]

 ليْسَت هذه الدنيا دار عطاء، بل هي دار ابْتِلاء، وليْسَت دار جزاء بل دار عَمل، وليْسَت دار تَشْريف، بل دار تَكْليف، فَهَل يُعْقل أن نَضَع للطالب مَقْعَد اسْفَنْجي من النَّوع الرفيع ؟‍ مُسْتحيل هذا، بل نَضَعُ له مَقْعَد خَشَب حتَّى لا ينام، وهل يُعْقَل أثناء الدَّرس نأتي له بالمُكَسَّرات والموالِح وشراب و... هذه مَدْرسَة الجوُّ المُريح غير مَوْجود فيها فَطَبيعة المَدْرَسة تَقْتضي أن يكون هناك سبُّورة ومُحاضِر، وانتهى الأمر.
هذه الدار تتناقَض مع النَّعيم، يقول عليه الصلاة والسلام: إيَّاك عبْد الله والتَّنَعُّم فإنَّ عباد الله ليْسوا بالمُتَنَعِّمين...." وإيَّاك أن تَقْصِد التَّنَعُّم لِذاته فإنَّ عباد الله ليْسوا بالمُتَنَعِّمين.
دَرْسُنا اليوم:

 

﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾

 

[سورة الضحى]

بين المؤمن والكافر سَوْفَ، فالكافر اسْتَعْجل، وأراد النتائج مُباشَرة، أما المؤمن صبَرَ، وانْتَظَر وَعْد الله عز وجل.
 أحدهم يطوف حول الكعبة ويقول: يا رب، هل أنت راضٍ عَنِّي ؟ وكان ورائِه الإمام الشافعي فقال له: يا هذا، وهل أنت راضٍ عنه حَتَّى يرْضى عنك ؟ فقال له: يا سبحان الله ‍! مَن أنت ؟ فقال له: أنا محمَّد ابن إدْريس، قال: كيْفَ أرْضى عن الله، وأنا أتَمَنَّى رِضاه ؟ فقال الإمام الشافِعي: إذا كان سُرورُكَ بالنِّقْمة كَسُرورِكَ بالنِّعْمَة، فقد رضيتَ عن الله.
لذا أيها الإخوة، مَن أحَبَّ دُنْياه أضَرَّ بآخِرَتِه، فَحُبُّ الدنيا والآخرة لا يَجْتَمِعان، فلا بدّمن أن تُؤثر الآخرة على الدنيا، وربُّنا عز وجل قال:

﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ(30)﴾

[سورة إبراهيم]

وقال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)﴾

[سورة إبراهيم]

 هناك أخٌ يَصْنع غُرَف نوم، وله صالة فخْرة جِدًّا، قال لي: أتى أحد الأصدقاء عندي، وقد جاء معه شَخْص فطلب منِّي أن أصْنع له غرفة نوم، فما ارْتاح إلا أن أحْضَرْنا خشَبًا وبقي هذا الخشب يجف أكثر فأكثر من الرطوبة لِمُدَّة سنَة، ثمّ لمَّا جفَّ بدأ طلب هذا الزَّبون بالكتالوك وأنواع الغُرَف فقد بقِيَ ستَّة أشْهر حتَّى اسْتَقَرَّ على نَوْع من هذه الأنواع، ثمّ بدأ باخْتِيار اللَّون فبَقِيَ مُدَّة طويلة وهو يبْحث عن أفضلها، لمَّا انْتَهَيْنا، وذلك بعد سنَتَيْن، طَلَبْناه فقال: أنا أدْهن الغرفة فأَمْهَلْناهُ مُدَّةً، ثمَّ أصْبح هناك طلب على هذه الغرفة، فهَدَّدْتُهُ مرَّةً أن إذا لم تأت بِعْتُها، فقال لي: ساءتِ يوم الخميس، في ذلك اليوم انْتَظَرْتُهُ فلم يأتِ، فَذَهَبْتُ إلى دارِهِ فإذا بي أسْمَعُ ضَجيجًا في البيت، فطَرَقْتُ الباب وقلتُ: قولوا له أن يأتي يأخذ غرفتَهُ، فقالوا لي: لقد مات صاحِبُها !!!
هذه هي الدنيا، وهناك آلاف القِصص من هذا النوع ؛ اشْترى بيْتًا وما سكنَهُ، وأخَذَ شهادة وما تعيَّن فيها، قال تعالى:

 

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾

 

[سورة الضحى]

 وهنيئًا لِمَن نَقَل اهْتِمامتهُ إلى الدار الآخرة، وعاش في الدنيا مؤمِنًا وطائِعًا لله تعالى، قال تعالى:

 

﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾

 

[سورة الضحى]

تحميل النص

إخفاء الصور