وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 9 - سورة الرحمن - تفسير الآيات 1-4 ، تطبيق منهج الله تعالى والسَّيْر عليه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، في سورة الرحمن، الآية الأولى قال تعالى:

﴿ الرَّحْمَانُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الإنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4﴾

[الرحمن: الآية 1-4 ]

 ترتيب الآيات الآيات يتَّضِحُ أنَّ الله تعالى عَلَّم القرآن ثمَّ خلق الإنسان وهذا الترْتيبُ لا يسْتقيمُ عَقْلاً، يُعَلَّم القرآن ثمَّ يُخلق أم يُخْلق ثمَّ يُعَلَّم القرآن ؟ قال علماء التفْسير ليس هذا الترتيب تَرْتيباً زَمَنِياً بل هو تَرْتيبٌ رُتَبيّ بِمَعْنى أنَّ وُجود الإنسان من دون منْهَجٍ يسير عليه لا معنى له، وحينما يطَّلعُ الإنسان على المُجْتمعات الأُخْرى التي لا منْهج لها ولا قلْبَ يُقَيِّدُها حُرِّيَّةٌ مُطْلقة تُؤدي إلى الكآبة والأمراض النَّفْسيَّة إنَّ القُيود التي يُقَيِّدُنا بها الشَّرْع هي ضمانٌ لنا، وليسَت حداً لِحُرِّيَّتنا ضمانٌ لِسَلامتنا، نحن في حياتنا لنا الحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز هذا يُرْضي الله وهذا لا يُرْضي الله، مادام هناك منْظومة قِيَم نسير من خِلالها إذاً هناك ضمانات لِسلامتنا، الأسرة تسْتَمِرّ إلى نهاية الحياة، أما الأُسَر في المُجتمعات التي لم تُؤمن بِمَنْهَجٍ تسير عليه بل آمنتْ بِحُرِيَّة الإنسان المُطْلقة لا تسْتَمِرُّ أكثر من سَنَتَيْن ! ثمَّ تتفرَّق، نِصْفُ نِساء هذه الدُّوَل يَعِشْنَ وحْدَهُنّ لأنَّ الحُرِيَّة المُطْلقة التي نالَتْها المرأة أصبحت لا تُحْتمل والحُرِيَّة المُطلقة التي نالها الشاب أصبح لا يُحْتملُ بها لذلك لم يبق شابٌ مع والِدَيْه، ولا امرأةٌ مع زَوْجِها ! ولا نعرفُ قيمة مُجْتمعاتنا الدِّينيَّة والإسلامِيَّة التي فيها ضوابط وخُطوط حمْراء، وفيها أشْياء ممنوعة والأخرى مسْموحة، وأشياء تجوز وأخرى لا تجوز لأنَّ هذا المنهج من عند الخالق الخبير، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

 

[فاطر: الآية 14]

لذلك الإمام الشافعي قال: من لم يُعْهَد منه سَفَرٌ، لم يُعْهَد منه عِلْمٌ فالإنسان لا يعْلمُ إيجابِيات حياته ومَيِّزات حياته ومنهجه الإسْلامي إلا إذا رأى منْهجاً آخر وتَفَلُّتاً شديداً.
 أيها الإخوة الكرام، الشيء الذي ينبغي أنْ يُقال هو أنَّ منهج الإسلام منهج عِلْمي بِمَعنى أنَّ كُلَّ مُقَدِّماته تُؤدي بالضرورة إلى نتائِجِه، كيف أنَّك إنْ أمْسَكْتَ النار تحْتَرِقُ أُصبعُك ؟! فاحْتِراق الأصبع نتيجةٌ لِسَبب حَتْمي وهو مَسُّ النار، فَمَنْهَجُ الإسْلام - والله أعلم - منهجٌ عِلْمي، فأيَّةُ جِهَةٍ في الأرض لو أخَذَتْ بهذا المنهَج قَطَفَتْ ثِمارها، وأيُّ جِهَةٍ في الأرض ولو والَتْ هذا المنهَج، ولم تأخذ به تدفَعُ الثَّمَن باهِظاً ؛ منهَجٌ عِلْمي لو أنَّ عَدُوَّ هذا المنْهج أخذ به لَقَطَفَ ثِمارَهُ، ولو أنَّ أصْحاب هذا المنهج قَصَّروا في تطْبيقِهِ لَدَفَعوا الثَّمَن، هذا كلامٌ دقيق، أيْ أنَّ كُلَّ الإيجابِيات التي يُمْكن أنْ توجد في المُجْتمعات الأُخرى، هذه الإيجابيات أساسها آيةٌ أو حديث اُكْتُشِف لا عن طريق الوَحْي ولا عن طريق طاعة الله عز وجل، ولكن عن طريق العَقْل وَحْدَهُ ؛ العَقْلُ هداهُم إلى قاعِدَة إذا طَبَّقوها قطفوا ثِمارَ جُهْدِهم وهي تُمَثِّلُها آيةٌ أو حديث، لذلك المُسلمون مُقَصِّرون في معْرفة قيمة منْهَجِهم، شيءٌ لَفَت نَظَري أنَّ صناعَةً مُتأخِّرة عن صناعة اليابان هناك فأرْسلوا وُفود إلى اليابان لِيَبْحثوا عن سِرِّ تَقَدُّم السيارات عندهم ؛ درسوا واجتمعوا وحَلَّلوا ووازنوا وقرَّروا فَوَجدوا أنَّ الأمر لا علاقة له بالتِّكْنولوجْيا ولا بِمُسْتوى الخِبْرة، إنما له علاقة بالنواحي الاجتماعية، فالعامل في اليابان يأكل مع مُديرهِ، ومُديرهُ يعيشُ مع العُمال، ليس هناك حُدود وفواصل بين هذا وذاك، فهذا الانْدِماج، وهذه المَعْنَوِيات العالِيَة للعُمال جَعَلَهُم يُتْقِنون صناعتهم، وهذا الأخير رَوَّج بِضاعَتَهُم فَسَبَق البِضاعة الأُخرى، فلما النبي عليه الصلاة والسلام قاتل: وعليَّ جمْعُ الحطب وكان بين أصْحابِهِ كواحدٍ منهم لم يتميَّز عليهم إطْلاقاً، فلما قالوا له: نَكْفيك ذلك قال: أعلم أنَّكم تكْفونني ذلك ولكنَّ الله يكْرهُ أنْ يرى عَبْدَهُ مُتَمَيِّزاً على أقْرانه ؛ فهذا من ديننا أنْ يعيشَ ربُّ العَمَل مع عُمالهِ، وأنْ يُزيل الفوارق بينهم، وأنْ يعيشَ معهم وكأنَّهُ واحِدٌ منهم، يرْفَعُ معْنَوِياتِهم، ويبُثُّ فيهم الطمأنينة فيهم، هذا ينْعَكِسُ إتْقاناً في عملِهِم، وإتْقانهم ينْعكِسُ رواجاً للبضاعة، فحينما يأخذون هذه القاعدة ويُطَبِّقونها على صناعاتهم من أجْل رواج بِضاعتِهم، هذه قاعِدَة إسْلاميَّة، لما كان عليه الصلاة والسلام قُبَيل معركة بدْر، الرواحل ثلاث مائة والأصْحاب ألف، فقال: كُلُّ ثلاثة على راحِلَة، وأنا وعليٌّ وأبو لُبابة على راحِلَةٍ واحدة، فلما جاءَ دَوْرُه في المَشْي صلى الله عليه وسلَّم تَوَسلاه صاحِباهُ أن يبْقى راكِباً فقال: لا، ما أنتم بِأقْوى منِّي على السَّيْر، ولا أنا بأغنى منكم على الأجر، ما رأيْتُ إيجابِيَّة في هذه المُجْتمعات تلْفِتُ النَّظر إلا أساسها آيةٌ أو حديث، فكأنَّهُم حاربوا منْهَجَنا وطبَّقوه فقَطَفوا ثِمارهُ، ونحن دَعَوْنا إليه وقَصَّرْنا في تطْبيقِهِ فَدَفَعْنا الثَّمن باهِظا لأنَّ منْهج الإسلام منهجٌ موْضوعي، وكُلُّ من أخذ به يقطفُ ثِمارَهُ، ولو أخذ به العَدُوّ، فآنَ للمسلمين أن ينتبِهوا لهذا المنهَج الذي بين أيْديهم، ولهذا القرآن العظيم الذي فَتَحوا به أطْراف الدنيا، آن لهم أن يتعاوَنوا لا أن يتنافسوا، الشيء الذي يُؤْلِمُ كثيراً أنَّ أعْداء المسلمين يتعاونون على خمسةٍ بالمائة على القواسِم المُشْتركة، بينما المُسلمون ومَعَهُم الحقّ وكتاب الله وسُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعهم خمسةٌ وتسْعون بالمائة من القواسِم المُشْتركة، فلا بدَّ من أن نعود غلى هذا المنهج وإلى ينابيعِهِ الأصيلة، اُنظر إلى نَبع بردى، كم مياهُهُ صافِيَة، وعَذْبة وحُلْوةٌ وانْظُر إلى مَصَبِّه كم هي المياهُ آسِنَةٌ وسَوْداء، الإسْلام له ينابيع وله مصبات، الأوْلى أن نعود إلى ينابيعِه لِنَنْهَل من ينابيعه الماء العَذْب.
 أيها الإخوة الكرام، أوَّلُ شيءٍ يلْفِتُ النَّظر أنَّ الإنسان لا معنى لِوُجوده بلا منهَجٍ يسير عليه، ومن دون منْظومة قِيَم ؛ الحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز هذا يُرْضي الله وهذا لا يُرْضي الله، فالنقطة الدقيقة أنَّ القُيود تُفْضي إلى الحُرِيَّة، وأنَّ التفلُّت البهيمي يُفْضي إلى القَيْد، فالمُتَفَلِّت ينتهي بِمَرضٍ نفْسي أو السِّجْن، الذي يفعل ما يشاء من دون قَيْد ويرْتَكِبُ الموبِقات، ويَخْتَرِقُ كُلَّ الحُدود ينتَهِكُ كُلَّ الحُرُمات، هذا تَفَلُّت بهيمي وهذا رأيْتُهُ كثيراً في هذه المُجْتَمعات، إذْ نِسْبَةُ الشذوذ عالِيَةٌ جداً وتَصِلُ إلى سِتين بالمائة، نِسَبُ المُخَذِّرات عالِيَةٌ جداً، وكذا نِسَبُ الزنا وزنا المحارم هذه كُلُّها أمْراضٌ فتاكَةٌ تفْتِكُ بالمُجْتمع المُتَفَلِّت، ونحن والحمد لله في خيرٍ عميم، نحن في مُجْتمعاتنا الدِّينيَّة ومع أنَّنا مُقَصِّرون جداً في تطبيق قرارات منْهَجِنا إلا أنَّ الوَضْع العام سليمٌ ومُسْتَمِرَّة، أنا مرَّةً من مراتِ دُروس الأحد كُنْتُ أتَكَلَّم عن حالات الطلاق، وكان أمامي إحْصاء، فكان إحْصاء الطلاق بِأمْريكا خمسٌ وسِتون بالمائة من كُلِّ مائة من الزواج تنتهي بالطلاق من أقلّ من سنَتَيْن، ومعي إحْصاء آخر لِأمانيا فيه سبعةٌ وثلاثون بالمائة من كُلِّ زواج تنتهي إلى الطلاق، وكان حاضِر للدَّرْس أحدُ إخْواننا الكِرام وهو القاضي الشَّرْعي الأوَّل فسَألْتُهُ، كم نِسَبُ الطلاق عندنا، فقال لي وَقْتَها ثمانِيَة بالألف ! هذه نِسْبة رائِعة جداً، وهذا بِسَبب ديننا وأنَّ العلاقة الزَّوْجِيَّة فيها شيء حلال والآخر حرام، والنقْطة الدقيقة الدقيقة أنَّه في المُجْتمعات الإسْلامِيَّة هناك ميزةٌ كبيرة هو أنَّ الله تعالى بين كُلِّ اثنَيْن بِمَعنى أنَّك إذا عامَلتَ أخاك تخاف الله أن تؤْذِيَهُ وتخاف الله أن تظْلِمَهُ فالله بينك وبينهُ، وتَرْجو رحْمة الله في إكْرامِهِ، وفي الصَّفْح عنه فإذا كنت تخاف الله وترْجوهُ في علاقَتِكَ بِأخيك فهذه العلاقات تنْمو، لا بدّ من أن نعرف إيجابِيات مُجْتمعاتنا، والنواحي التي تُرْضي الله عز وجل في بُيوتنا نحن بِخَيْر إذا قِسْنا مُجتمعاتنا بالمُجْتمعات التي تفلَّتَتْ تَفَلُّتاً بهيمياً، الحياة فيها براقَةٌ لِهذه العَيْن، لكِنَّها مؤلِمَةٌ أشَدّ الألم بِالمُعايَنَة، فقد ترى الشيء فَتُعْجَبُ به، أما إذا عايَنْتَهُ تَمْقُتُه.
 فيا أيها الإخوة الكراك أنا أدْعوكم بِفَضْل الله عز وجل إلى التَّدْقيق في منهج الله عز وجل وتطْبيقِهِ لأنّ أعْداء المُسلمين يأخذون به دون أنْ يشْعُروا ويأخذون به وقد اهْتَدَوا به بِعَقْلِهِم فقط، وقَطَفوا ثِمارَهُ يانِعَةً مع أنَّهُم يُحارِبوه، ولم يؤمنوا بالله عز وجل الذي أنزله، لا عن دين ولا عن طاعة لله ولكن بِمَحْض مَصْلَحَتِهم بَحثوا عن حقائِق تقودُهم إلى النَّمُوّ وإلى الاسْتِقْرار، فَنَحْنُ أوْلى بِهذا المنهَج من أعْدائِنا، أوْلى أنْ نُطَبِّقَهُ في حياتنا اليَوْمِيَّة ؛ هذه العُجالة في هذه الكلمة هي انْطِباعٌ سريع عما شاهَدْتُهُ في بلاد الغَرْب من تَفَلُّت، ومن إيجابِيات، فالإيجابِيات أخَذوا منهَجَنا وطَبَّقوه فهُم يصْدُقون ولا يكْذِبون، ويُتْقِنون صِناعاتهم ولا يُخِلُّون بها فَنواحيهِم الصِّناعِيَّة عالِيَة جداً، أما نواحيهم الاجتِماعِيَّة فهي مُتَدَنِّيَة جداً، فهُم يحْتاجون إلى ألف عام كي يَصِلوا في علاقاتِهم إلى علاقاتنا الاجتماعِيَّة الإسْلامِيَّة والمَبْنِيَّة على المَحَبَّة والتواصل والمودَّة، ونحْتاجُ نحن كذلك إلى سنوات طويلة كي نصل إلى ما وصلوا إليه من قواعد الحياة العِلْمِيَّة والله وَلِيُّ التوفيق.

تحميل النص

إخفاء الصور