- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (075) سورة القيامة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، لا زلنا في سورة القيامة، ومع الآية العاشرة وهي قوله تعالى:
﴿ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾
أيها الإخوة الكرام، إنسان يحمل دكتوراه، هل تُصَدِّقون أنَّهُ نالها وهو نائِم ؟ نالها في ليلة واحِدة وفي ساعَةٍ واحِدة ! قَدَّم طلباً للجامعة قائِلاً: يُرْجى مَنْحي دكتوراه، وهو لا يقرأو لا يكتب ! فَمُنِحَ هذه الشهادة لأنَّها مرْتبة عِلْمِيَّة، فهل مَرْتبة الإيمان هَيِّنَة على الناس إلى هذه الدَّرَجة ؟ لا لِطَلَبِ العلم، ولا يحضر مجالس العِلْم، وما قرأ القرآن، وما فَهِمَ كلام ربِّه، وما سأل عن حُكْمِ الشَّرْع في قَضِيَّاته، ثمَّ يقول لك: أنا مؤمن ! الإيمان يُبْنى عليه عَمَلاً فمن لم يعْمل عَمَلاً وِفْق إيمانِه فليس مؤمناً، لو أنَّ أحداً من الناس بأشَدِّ الحاجة إلى المال وقلتَ له في الجِهَة الفلانِيَّة تُعْطى لك حاجتك التَّامَّة، ولكن بِكَلِمَة، فلو أنَّ هذا الأخير ما تَحَرَّك كان دليلاً على أنَّ فيه خَلَلاً، قال تعالى:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)﴾
هنا الإيمان باليوم الآخر يقوله الناس بألْسِنَتِهم إلا أنَّك تفاجئ أنَّ معظَمَ الناس يأكلون أموال بعضهم بعْضاً وكأنَّهم لا يُحاسَبون ويعْتدون على أعْراض بعضهم بعْضاً وكأنَّهم لا يُحاسبون، حركة المسلم والمؤمن المُعاصِر الآن تدلّ وكأنَّه لا قِيامة، اِغْتِصاب أموال وغيبة ونَميمة، وطَعْن، وحُضوض النَّفْس في أعلى درجة، وكأنَّ الله تعالى لن يُحاسِبَهم، تجد شَخْص بِسِنٍّ مُتَقَدِّن يريد أن يفْعل شيئاً الشباب لا يجرأ أن يفعله ! ألا يوجد موت ؟! دائِماً وراء هذه المُلْهِيات، ساعة النزول للقبر ماذا تقول لله عز وجل ؟ أين المَفَرّ ؟! لو أنَّ سارِقاً ارْتَكَب جريمة، حين يسْرق المال يتنعَّم ويزْني ويُسافِر، ثمَّ أُلْقِيَ القبْض عليه وسيقَ للمُحاسَبَة، قُبَيْل أن يُشْنَق يمكن أن ينْسى كُلَّ اللَّذائذ التي اسْتَمْتَع بها، فالإنسان حينما يدْنو أجله ويقرب من مُغادرة الدنيا يقول: لم أرَ خيراً قطّ ! في هذه اللَّحْظة تظْهر بُطولة الإنسان يُنَبَّؤ الإنسان ويقول أين المفَرّ ؟ أنا أقول للإخوة إياك ثمَّ إياك أن تَصِل مع الله تعالى إلى طريق مَسْدود، قال تعالى:
﴿ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)﴾
وقال تعالى:
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107)قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِي(108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)﴾
إياك أن تَصِل مع الله تعالى إلى طريق مَسْدود، كما أنَّ المَشْنوق قُبَيل أن يُشْنق يُحِبّ أن يبكي أو يضْحك المُهِمّ ؛ اِفْعَل ما شئْتَ سَيُشْنَق، لذا نحن الآن في بَحبوحة والتوبة مقبولة، والباب مَفْتوح، قال تعالى:
﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)﴾
لا أهْل ولا مال ولا جماعة ولا أتْباع، ولا أحد.
قال تعالى:
﴿كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)﴾
قال تعالى:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
وقال تعالى:
﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)﴾
كُلُّ شيءٍ تُقَدِّمُهُ سوف تُخْبَرُ به، وكل شيء تُؤَخِّرُه سوف تُخْبر به، ما معنى بِما قَدَّم ؟ قدَّم من عملٍ صالحٍ فَتَقَدَّم به إلى الله، وهذا أخَّر فتأخَّر عن اللُّحوق بِأهْل الإيمان، فهناك ما يُقَدِّمُك وهناك ما يؤَخِّرُك، فالإيمان يُقَدِّمُك وكذا الاسْتِقامة والإخلاص والصِّدْق والإحْسان للناس، إلا أنَّ الكذِب يُؤَخِّرُك، الحقيقة العُظْمى في الكون ولا حقيقة بعدها ؛ كُلُّ شيءٍ يُقَدِّمك منه هو عمل صالح، وكلُّ شيء يُبْعِدُك عنه هو عَمَل سيئ كان لي صديق بِبَلَدٍ أجْنبي وقال لي: كنت أتَصَفَّحُ مَجَلَّة، ووجَدْتُ دِعاية لِهاتِف فضائي، مَرْسوم رجل دين واضِع قُبَّعَة على رأسِه، والأنوار تَشِعُّ منها، وتَمُرُّ أمامه فتاةٌ مُتَبَذِّلَة فَيَنْظر إليها فإذا هذه الأنوار تنْطفىء ! فهم أدْرَكوا بِفِطَرِهم أنَّ إطْلاق البصر لهذه الفتاة يَحْجُبهم عن الله، فإطْلاق البصر يُبْعِدُك وغَضُّهُ يُقَرِّبُك، وكذا الصَّبْر والضَّجَر، وضَبْط اللِّسان يُقَدِّمك وتفْليت اللِّسان يُبْعِدُك، وإنفاق المال يُقَرِّبك وحبْسه يُبْعِدك زَوْج مِثالي يُقَدِّمك وزوْجٌ سيِّء يُؤَخِّرُك، يُنَبَّؤُ الإنسان بِما قَدَّم وأخَّر، والعِبْرة أن تقْترب من الله.
قال تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)﴾
أحْياناً رجل قَوِيّ ومَلِك من ملوك الأرض، ولك عنده حاجة، تجد أنَّ الطريق له صَعْب وليس لك أن تُقابلَهُ،ولكنَّ مَلِكَ المُلوك سبحانه وتعالى وَضَع لك ألف طريق إليه، فالطرائِق إلى الخالق بِعَدد أنْفاس الخلائِق، فأنت بِبَيْتك إذا كنت زوْج صالح كان هذا طريقاً إليه تعالى، وكذا إذا كنت ابناً صالحاً، وممكن أن تخْدم زوْجَتَك بِالبيْت طريق إلى الله، وإذا صَدَقْت بِعَمَلِك كان هذا طريقاً إلى الله، فأنت تُصَلِّي باليوم خمْس صلوات أما إذا كنت ماشِياً بالطريق فكلَّما غَضَضْتَ بصرك عن محارِم ترْقى دَرَجة والآية الواضِحة جداً، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾
خَلَقنا لِيَرْحَمنا ولِيَتوب علينا، ولِيَسْتجيب لنا، فالمُشْكلة إذا جاء مَلَك الموت انتهى كلُّ شيء، كنت البارِحة مع طبيب قلب، وأنا شَخْصِياً لا أعْرِف قُطْر الشريان القلب التاجي الذي يشْغل الأرض كلَّها الآن، فَكُلُّ إنسان يضيق شِرْيانه التاجي يحْتاج إلى قصْطَرة، فالقُطْر ملم واحِد، فَكُلُّ آمالك وقوَّتِك وجَبَروتِك على هذا الطريق الواحد، فإذا انغلق أصْبحت الحياة جحيماً، فهل يُعْقل أن تكون كلَّ آمالك ومُنْجَزاتِك وكلّ سَيْطَرَتِك على ملم واحِد مَفْتوح، فهم خَمْسُ شرايين كُلُّ شِرْيان قُطْره ملم واحِد، والقَضِيَّة الثانِيَة أنَّ كلَّ آمالك مَبنِيَة على سُيولَة دمك، ومتى تَجَلَّط الدم أصْبحت مُشْكِلة، فما عليك إلا أن تتوب قبل تَجَمُّد الدَّم وتَضَيُّق الشريان، يُمْكِن أن تَكْذِب على كلّ أهل الأرض وتفوقهم بِحِيَلِك إلا نفْسَك فَمُسْتَحيل قال تعالى:
﴿ بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)﴾
مهما كانت عندك طلاقة لِسان وذكاء ونصوص وتُغطِّي اِنْحِرافاتك كُلِّها بالمنْطق، أما يوم القيامة فكما قال تعالى:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65)﴾
لا تقل يوم القيامة أنا قَصْدي كذا ونَوَيْتُ كذا، إنَّما أعْمالك هي التي تنْطق، قال تعالى:
﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)﴾
فهذه الآية:
﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾
واحِد سرق فَسيق لِسَيِّدنا عمر كي يقْطع يده، فقال السارق هذه أوَّل مَرَّة، فقال له عمر: كَذَبْت إنَّ الله لا يفْضح من أوَّل مَرَّة، وهذا الذي أرْجوه من الله عز وجل أنْ نصْطَلِح معه قبل فوات الأوان، البارِحَة قرأت مقالة بِمَجَلَّة خليجِيَّة أنَّ الأمر القَلْبِيَّة تكون بالخمْسين والسِتِّين، أما الآن بالأربعينات أو الخمسينات، شيء ليس بِالحُسْبان وتَجِدُه بِكَامل قِواه ونشاطِه، في ثانِيَة انتهى، كان شَخْصاً وصار خَبَراً على الجُدْران اِعْلموا أنَّ ملك الموت قد تَخَطَّانا إلى غَيْرنا وسيتَخَطى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذْرنا، فكُلُّ البطولة أنْ نَعُدَّ العِدَّة لِهذا اليوم إذا نُبِّئْت بأعْمالك لم فَعلْتَ كذا ؟ وإذا لم تسْتحِ فاصْنَع ما شئْت.