وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الإنسان - تفسير الآيتان 23 - 24 أسْماء الله تعالى كُلُّها حُسْنى وفُضْلى.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، الآيات الثالثة والعشرون والتي بعدها من سورة الإنسان، وهي قوله تعالى:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا(23)﴾

[سورة الإنسان]

 قد يُعَبّر عن ذات الله عز وجل في القرآن الكريم بِكَلِمَة أنا قال تعالى:

 

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14)﴾

 

[سورة طه]

 وقد يُعَبَّر عن لفْظ الجلالة في القرآن الكريم بالضَّمير نحن، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا(23)﴾

 

[سورة الإنسان]

 فهل هناك فرْق بين التَّعْبيريَن ؟ متى يقول الله عن ذاته العَلِيَّة:

 

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14)﴾

 

[سورة طه]

﴿ومتى يقول الله عز وجل عن ذاته العَلِيَّة: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا(23)﴾

[سورة الإنسان]

 قال علماء التَّفْسير، إذا كان المُراد ذات الله عز وجل جاء التَّعْبير إنَّني أنا الله أما إذا كان المَقْود أفعاله وأسْماؤُهُ فَكُلُّ أفعاله تَدْخُل فيها كُلُّ أسْمائِهِ، فَفِعْلُهُ رَحْمَةٌ وفِعْلُهُ حِكْمَةٌ وعَدْلٌ وقُوَّةٌ وَهَيْمَنة فإذا عَبَّر عن أفْعاله يقول: إنَّا نحن، فهذا القرآن رحْمة وعَدْل كما قال العلماء ؛ الشَّريعة عَدْلٌ كُلُّها، ورَحْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ كُلُّها، لا يليق بِشَريعة الله تعالى إلا أن تكون كذلك فأيَّةُ قَضِيَّة خَرَجَت من العَدْل إلى الجَوْر أو من الرَّحْمة إلى خِلافِها أو من المَصْلحة إلى المَفْسَدَة فليسَتْ من الشريعة ولو أُدْخِلَت عليها بألْف تأويل وتأويل، هل تُصَدَّق أن يذْهب مليون حاج أو أكثر إلى الدِّيار المُقَدَّسَة وأن يذْبحوا الخرفان ويُلقونها في العَراء فَيُصْبِحُ الجوُّ نَتِنا لِعِدَّةِ أشْهر ! هل هذه هي الشَّريعة ؟! لا، الآن تُذْبح في مَسالِخ وتُبَرَّد وتُرْسَل إلى الفقراء، هذه هي الشَّريعة، أما أن نذْبَح مليون خروف وتذْهب هباءً والناس يموتون بالجوع ! ليْسَت هذه الشَّريعة، فلابدّ أن تكون الشريعة رحْمةً وحِكْمَةً ومَصْلَحة، فإذا ورد في قوله تعالى: إنَّا نحن، فأسْماء الله تعالى كُلُّها حُسْنى وفُضْلى وأفعاله كُلُّها حكيمة فإذا كان التعبير عن أفْعاله يأتي ضمير الجَمْع، لأنَّ هذا الفِعْل تدْخل فيه أسْماؤُهُ كُلُّها، وإذا كان التعبير عن ذاته يقول: إنَّني أنا الله، أحْياناً الإنسان لا تتَّضِحُ له الصورة، لو دَخَلْنا إلى أكبر مَكْتبة بالعالم، ورأيْنا فيها فَرَضاً مليون مُجَلّد، أو أكثر وكانت كُلُّ هذه الكُتب في كَفَّة، وكتاب الله تعالى في كَفَّة هذا كلام خالق الكَوْن، دَخَل مُغَنِّي بريطاني في إيطاليا إلى مَكْتبة وهو مُغَنِّي شَهير جداً وتُباع أشْرِطَتُهُ بِمئات الملايين، ورأى في هذه المكتبة القرآن مُتَرْجَم، فسأل صاحب المَكْتبة من مُؤَلِّف هذا الكتاب ظن فأشار صاحب المَكْتبة إلى السَّماء فَسَخِرَ هذا المُغَنِّي أشَدَّ السُّخْرِيَة واشْترى الكتاب ليَنْتَقِدَهُ ويدْحض هذا الادِّعاء فآمَنَ بالله تعالى ! وتاب تَوْبَةً نصوحَة وكُلُّ دَخْلِهِ من الأغاني تَصَدَّق به، وكان يشْتري تسْجيلاته وأسْطُواناتِه ويُتْلِفُها لأن لا يرْتَكِب مَعْصِيَةً، وهو الآن من أكبر الدُّعاة إلى الله اسمهُ يوسف إسلام، لذلك فَضْلُ كلام الله على فضْل كلام خَلْقِهِ كَفَضْل الله على خلْقِه، وازِن بين خالق الكون وبين إنْسان ! بين عِلْمٍ مُطْلَقٍ وبين جَهْلٍ، وحِكْمَةٌ وغباوَة ! المسافة التي بين الله وبين خلْقِه هي نفْسها بين كلام الله وكلام خلْقِه، فإذا قرأ الإنسان القرآن فهذا كلام الواحِد الدَّيان، قال تعالى:

 

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا(23)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا(24)﴾

 

[سورة الإنسان]

 فالله عز وجل قَضى أن تكون ذا دَخْلٍ مَحْدود فهذا قضاء الله عز وجل ويوم القيامة يكْشِفُ لك الحِكْمة فَتَذوب كالشَّمْعَة مَحَبَّةً لله عز وجل وقضى أن تكون أباً لِبَناتٍ فقط، فهذه هي حِكْمَتُهُ، وقضى أن تكون أباً لأوْلاد، وقضى أن تكون عقيماً أو صحيحاً أو مريضاً فهذه مشيئة الله وعلامة إيمانك بالله أن تحْتَرِم مشيئته وأن ترْضى بقَضائِه وقَدَرِه ولكن هذا متى ؟! بعد اسْتِنفاذ الجُهْد، فإذا كنت كَسول ولا أدْرس ثمَّ أقول حَسْبِيَ الله ونِعْم والوَكيل، هذا كلام باطِل، الأصْل أن أقول هذا بعد الاجْتِهاد وبذْل كُلّ ما في الوُسْع لِتَحْسين مَعيشَتي ونَيْل الدَّرَجات العُلْيا فإذا انتهى بك السَّعْي إلى هذا المكان فهذا قضاء الله تعالى وقدره.
إذاً قال تعالى:

 

﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا(24)﴾

 

[سورة الإنسان]

 لو أنَّ أحدكم ذَهَب إلى طبيب أسْنان وقال له: أنت لك مُشْكلة في القلب والبنج لا يُناسِبك، ولا بدّ من أن تُقلع الضرْس من دون بنْج، واقْتَنَعْتَ أنت، فَمِن أجل قناعَتِك بالسَّبب تتَحَمَّل الألم وتصْبِر، وهذا الصبْر لا يحْتاج إلى جُهْد إطْلاقاً، ولكن متى يكون الأجْر على الصَّبْر عالياً ؟ إذا لم تكن الحِكْمة غير واضِحَة لك ! يا ترى ألا يسْتحق الله عز وجل أن تُسَلِّم له الأمْر ولو لم تتَّضِح لك الحِكْمة ؟ فأنت مع طبيب تُسَلِّم الأمْر فكيف مع الخالق، فالله عز وجل يمْتَحِنُ عُبودِيَّتك له، ويبْعث لك مشكلة غير معْقولة، وليس معها مُبَرِّر، ولو أنَّك في أعلى درجة من الاسْتِقامة تأتي مُشْكلة فلا تقل والله أنا المفروض لا تأتيني مثل هذه المصائب ! وأعلى امتحان عُبودِيَّة أن يقول الله عز وجل لِنَبِيٍّ كريم اِذْبَح ابنك، قال تعالى:

 

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ﴾

 

[سورة الصافات]

 وكلمَّا كان أمر الإلهي واضِح كلَّما كانت العبودِيَّة قليلة وكلَّما كان الأمر الإلهي غير واضِح كانت العبودِيَّة فيه أعلى، أبٌ قال لابنه نَظِّف أسْنانك وآخر قال لابنه أنت معك اِلْتِهاب أمْعاء ما عليك إلا أن تأكل الشاي واللَّبَن فقط كُلُّ هذا لِمَصْلحة الولد، أما إن كان الابن جائِعاً والطعام موجود وأراد أن يأكل ثمَّ يقول له الأب لا تأكل ! فهنا تظْهر طاعة الابن لأبيه لأنَّ الأمر معْقول وهذا اسْمه اِمْتِحان عُبودِيَّة، فالله تعالى يمْتَحِننا إمْتِحان عُبودِيَّة، فهذا سيِّدُ الخلق وحبيب الحق في الطائِف كَذَّبوه وسَخِروا منه واسْتَخَفوا بِدَعْوَتِه، وفي روايةٍ ضَربوه، قال عليه الصلاة والسلام: يا ربّ إن لم يكن بِكَ عليَّ غَضَبٌ فلا أُبالي ولك العُتْبَة حتى ترْضى ولَكِنَّ عافِيَتَك أوْسِعُ لي، وامْرأةٌ في مَعْرَكة أُحُد والله مليون رجل لا يُساوي قلامة ظفرها، رأَتْ زَوْجَها قتيلاً، فقالت: ما فعل رسول الله، ورأتْ ابنها قَتيلاً فقالتْ: ما فعل رسول الله، ورأتْ أخاها قتيلاً، فقالت: ما فعل رسول الله، ورَأَتْ أباها قتيلاً، إلى أن رأَتْهُ فقالتْ: يا رسول الله، كُلُّ مصيبةٍ بعدك تهون ‍! فنحن لِضَعْف إيماننا لا نُمْتَحَنُ هذه الامتحانات، هناك صحابي فقَدَ بَصَرَهُ، فقال: اُدْعو الله أن يردَّ لك بصرَك، فقال: والله إنَّني أسْتحي من الله، هو اخْتار لي هذا وأنا أرْفُضُه ! فالإيمان له مُسْتَوَيات، لما قال لنَبِيِّه اِذْبح ابنك، هل ذُبِحَ الابن ؟ لا، الله تعالى رحيم إلا أنَّهُ امْتحنَك، إذاً هناك امتحانات عُبودِيَّة، والواضِحَة لا تحتاج إلى صبْر، كَحال الذي يؤلِمُه ضِرْسه ولكن متى تحْتاج إلى الصبْر، إذا لم يكن الأمر واضِحاً، تجد شاباً مُسْتَقيماً فقَدَ عمله فجْأةً ! وما أكل مال الحرام، فأصْبَحَ يَدَّيَن أوَّل الشَّهْر وثانيه وثالثه ؛ هذا امتحان عُبوديَّة فإذا قال: يارب لك الحمْد، مَن أحَبَّنا أحْبَبْناه، ومن طلب منَّا أعْطَيْناه، ومن اكْتفى عمَّا لنا كُنَّا له وما لنا تأتي الدنيا وهي راغِمَة، ما ترك عبد شيئاً لله إلا عَوَّضَهُ الله تعالى خيراً منه، في دينه ودُنْياه، ولا يوجد واحِدٌ مِنَّا ليس له قائِمَة مُزْعِجات بِحَياتِه ونقائِص ومُشْكِلات، فإذا قلتَ أنت: يا ربّ أنا راضٍ حَدَّثونا عن رجل معه ورم خبيث بأمْعائِه، فَدَخَل إلى المُسْتشْفى، فأحد إخْواننا الأطِبَّاء قال: ما دخل عليه إنسان إلا بادَرَهُ بهذه الكلمة ؛ اِشْهَد أنَّني راضٍ عن الله ! وكانت به آلام لا يعلمها إلا الله تعالى وكان يُغْمِضُ عيْناه ويسْتَغْفِر، وكان يُكْثِرُ الحمْد، ثلاثة أيام تُوفِّي، ولِحِكْمةٍ بالغة بالغة بالغة جاء بعده مريض مُصاب بِنَفْس المرض، ما تَرَكَ نَبِيًّا ما سَبَّهُ فذاك المؤمن يحْمد وذاك يشْتم ! قال تعالى:

 

﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(127)﴾

 

[سورة النحل]

 اسْتَعِن بالله على الصبْر، وفي آيةٍ ثانِيَة:

 

﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7)﴾

 

[سورة المدثر]

 هناك شَخْص ينْقهِر فَيَصْبر، فهذا ليس لله، ولكنَّهُ مَقْهور، أما المؤمن وهو في أعلى درجات القوَّة يصْبر لله، فاصْبِر وصابِر، وكان سيِّدنا عمر إذا أصابته مُصيبةٌ قال: الحمد لله ثلاثاً: الحمد لله إذْ لم تكن في ديني، والحمْد لله إذْ لم تكن أكبر منها، والحمد لله أَنَّني أُلْهِمْتُ الصَّبْر عليها.
قال تعالى:

 

﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا(24)﴾

 

[سورة الإنسان]

 فلا شيء يقعُ لك إلا والله تعالى هو الذي سمح فيه، والله تعالى حكيم وعادِل، وفَسِّر كُلَّ أفْعاله بالرَّحْمة والعَدْل واللُّطْف، فما دام الشيء وَقَع فهذا قرار ربِّك فاصْبِر والصَّبْر مُريح، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

 

[سورة الزمر]

 كأنَّ لك شيك مَفْتوح، فهذه الصَّحابيَّة أُمُّ سَلَمة تُوُفِّي زوْجها ومن ألْمَع الصحابة والنبي علَّمَنا أن إذا أصابتْنا أن نقول: اللهمّ اخْلُفني خيراً منها فإذا بالنَّبي صلى الله عليه وسلَّم هو الذي خَطَبها.
فإذا صَبَرْتَ ورضيت بِقَضاء الله فالله تعالى يُحِبُّك ويُعَوِّضك أحْسن منه.

تحميل النص

إخفاء الصور