وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0878 - إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا... - خطبة قاضي دمشق محي الدين القرشي عند فتح القدس .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

تلمس المسلم الصادق التحليل القرآني و التفسير النبوي للأحداث :

 أيها الأخوة الكرام: أخ محب سألني البارحة مشفقاً عليّ: ماذا سوف تقول غداً للناس بعد الذي حدث في بغداد؟ قلت له: أنا طالب علم، و طالب العلم يجري في دمه تصديق لما في القرآن، و لما في سنة النبي صلى الله عليه و سلم، إن أردنا تفسير الأحداث فلنعد إلى القرآن و إلى السنة، و إن أردنا تلمس طريق الخلاص فلنعد إلى ما في القرآن و ما في السنة، و إن أردنا رصد المستقبل فلنعد إلى ما في كتاب الله و ما في سنة رسول الله، هذا شأن الدعاة إلى الله، هويتنا نحن الدعاة - و نرجو الله سبحانه و تعالى أن يقبل العمل - أن نبين للناس ما في الكتاب و السنة، ففي هذه الخطبة إن شاء الله سأضع بين أيديكم ما في الكتاب و ما في السنة من آيات و سنن لا تبدل و لا تغير.
 أيها الأخوة الأكارم: المسلم الذي تحقق لديه الحد الأدنى من الغيرة على هذا الدين، و من الإحساس و التفاعل مع ما يصيب المسلمين في مشارق الأرض و مغاربه ليشعر بالمرارة و الحزن و القهر لما يجري حوله من تآمر و كيد و تكالب و تداع على الإسلام و أهله من جانب أعداء الدين و هو الأصل فيهم، و لما يجده من تخلف و تضييع و انهزام و تخاذل وعجز من جانب المسلمين، و كل إنسان حينما يحاول أن يجد تفسيراً و تعليلاً و تحليلاً لمشكلة يقع فيها لابد من أن ينطلق في هذه المحاولة من المنطلقات النظرية، أو من فلسفته، أو من عقيدته، أما المسلم فينبغي أن ينطلق في تحليله للواقع وتشخيصه للمشكلة وتلمسه للحلول الممكنة والسعي لتطبيقها عليه أن ينطلق من حيث كونه مسلماً، رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، و بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، عليه أن ينطلق من الإسلام الذي هو دين الله الموحى به إلى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قرآناً وسنة، لابد أن يكون للمسلم تميزه أقول تميزه في تحليله للأحداث، و مناقشته لها، و التعامل معها بما ميزه الله به من منهج رباني، هناك ملايين التحليلات، هناك عدد لا يحصى من التحليلات، المسلم الصادق يتلمس التحليل القرآني و التفسير النبوي، قال تعالى:

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾

[ سورة المائدة: 3]

 أيها الأخوة الكرام: إنها محاولة لقراءة الأحداث، و لقراءة طريقة التعامل معها اعتماداً على نصوص الوحيين الكتاب والسنة، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

على المسلم مراجعة تدينه عند إصابته بمصيبة ما :

 أيها الأخوة: الأصل في المسلم حينما يصاب بمصيبة على الصعيد الشخصي، أو العام أن يبادر إلى مراجعة تدينه، واتهام نفسه بالتقصير والتفريط الذي استوجب هذه العقوبة، و عليه أن يسارع إلى اكتشاف مواطن الخلل، وإصلاحها، وتلافيها مباشرة على المستويين الفردي و الجماعي:

﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾

[ سورة آل عمران: 165]

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[ سورة الشورى: الآية 30]

 و حينما يفهم المسلمون فلسفة المصيبة، ويتفاعلون معها ذاك التفاعل الذي أشرت إليه تكون هذه المصيبة قد حققت دورها الذي من أجله قدرها الله عليهم، قال تعالى:

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾

[ سورة السجدة: 21]

 و قال تعالى:

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

[ سورة الروم: 41]

 و عندما يغيب التعامل الشرعي الصحيح مع المصيبة فإن المرء يخشى من مصائب أكبر و أكبر تتوالى على الأمة حتى تتنبه وتؤوب إلى رشدها وصوابها، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ...))

[ أبو داود عن ابن عمر ]

 كناية عن التفلت من منهج الله في كسب المال، و كناية عن الخلود إلى النعيم:

((وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ))

[ أبو داود عن ابن عمر]

 وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))

[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]

 وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ))

[ ابن ماجه عن ابن عمر]

 وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لكم ))

[ الترمذي عن حذيفة بن اليمان]

الأسباب التي وصلت بالأمة إلى الذلّ والضعف :

 أيها الأخوة الكرام: إن المتأمل في هذه النصوص يجد فيها الأسباب التي وصلت بالأمة أفراداً وجماعات إلى ما وصلت إليه من ذلّ وضعف وتخاذل وتكالب الأمم الكافرة عليها من كل حدب وصوب، لتستبيح حرماتها، وتنتهب خيراتها، وتذيقها الخسف والهوان.
 إجمال سريع لهذه الأسباب: نقض الأمة لعهد الله، وعهد رسوله، وهو الالتزام الكامل والشامل والتام بدين الإسلام؛ عقيدة، وشريعة، وعبادة، وأحكاماً، وأخلاقاً، وسلوكاً، وتعاملاً، ودعوة، تعطيل فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ترك الجهاد في سبيل الله بمفهومه الواسع جهاد اللسان، وجهاد السنان، وجهاد القوة، و جهاد النفس والهوى، الخلود والركون إلى الدنيا، واتباع الشهوات، والاهتمام بالحياة الاقتصادية والرفاهية في العيش دون تمييز بحلال أو حرام أو ربا، الإعراض عن الآخرة والاستعداد لها مما يؤدي إلى حب الحياة وكراهية الموت.
 أيها الأخوة الكرام: لابد للمسلم أن يدرك أن سنن الله في الكون لا تحابي أحداً كائناً من كان، ارفع من الشعارات ما شئت، سنن الله في خلقه لا تتبدل و لا تتغير و لا تحابي أحداً.
 ارفع أي لافتة، سمِ اسمك بأي اسم، انتمِ إلى أي دين، هذا الذي تفعله لا يقدم و لا يؤخر:

((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))

[متفق عليه عن أبي هريرة ]

﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾

[ سورة فاطر: 43]

 سيدنا عمر قال لسعد بن أبي وقاص الذي فداه النبي بأمه و أبيه و ما فدى النبي أحداً بأمه و أبيه إلا سعد بن أبي وقاص قال: " ارم سعد فداك أبي و أمي"، و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ))

[ الترمذي عن جابر]

 و مع ذلك قال له عمر: :يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل خال رسول الله فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه و بينهم قرابة إلا طاعتهم له."

 

نصر الله في الامتثال الكامل لدينه الذي ارتضاه لنا :

 أيها الأخوة الكرام: إن من تمام التدين الصحيح، وتوحيد الله التوحيد الكامل، والالتزام بهذه السنن التزاماً حرفياً ليحصل المسلم على ما يرجوه من النصر والعزة والتمكين، وقبل هذا كله رضوان الله، والفوز بجنته، والنجاة من النار، لابد للمسلم من أن يوقن بأن الدواء والحل الذي جاء في الوحي هو وحده الناجي والمفيد، ولا سبيل للنجاة والشفاء إلا به، فلا يضيع وقته و جهده في إيجاد حلول مخترعة:

((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وعليكم بالأمر العتيق ))

[ الدارمي عن ابن مسعود]

 أيها الأخوة: إلهنا العظيم يقول:

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾

[ سورة إبراهيم: 46]

 و هذا الذي ترونه وتسمعونه تزول منه الجبال لكن الله يقول:

﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾

[ سورة آل عمران: 120]

 فإن أضرنا كيدهم فنحن لا نصبر و لا نتقي، نريد الدنيا و نريد التفلت من منهج الله:

﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾

[ سورة آل عمران: 120]

 أيها الأخوة الكرام: لابد من الصبر والمداومة على الدواء حتى يؤتي هذا الدواء ثماره اليانعة بإذن الله.
 أيها الأخوة الكرام: أصيبت الأمة الإسلامية خلال السنوات القليلة الماضية بنكبات متتالية في مناطق متعددة من العالم الإسلامي، وتفاعل المسلمون بدرجات متفاوتة مع هذه النكبات، و ضجت المساجد، ورفعت الأكف تدعو الله بكشف الكرب، وإنزال النصر مستغلة الأوقات التي هي مظنة لاستجابة الدعاء، كالعشر الأواخر من رمضان، وجوف الليل، وليلة القدر، و العشر من ذي الحجة، ويوم عرفة، والدعاء هو العبادة، وهو واجب ومطلب شرعي، و لكن سنة الله ماضية:

((بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لكم ))

[ الترمذي عن حذيفة بن اليمان]

 و هذا الذي حصل، ما من مسجد في العالم الإسلامي إلا و هو يدعو دعاء القنوت عقب كل صلاة.
 أيها الأخوة الكرام: لابد من المباشرة الفورية، والاستجابة الحاسمة لمتطلبات الدواء فإن التسويف والمماطلة والتملص لن يزيدنا إلا ضعفاً وتخاذلاً، و الحل في كلمة واحدة هو التغيير:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الرعد: 11]

 لقد كلفنا الله سبحانه و تعالى ما نطيق، وهو تغيير الأنفس، وتكفل لنا بما لا نطيق، وهو تغيير الظروف العالمية من حولنا، إن غيرت فيما تطيق كفاك ما لا تطيق، لقد وعدنا وعداً لا يخلفه:

﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾

[ سورة محمد: 7]

 ونصر الله هو في الامتثال الكامل والتطبيق الشامل الدقيق لدينه الذي ارتضاه لنا.

 

خطوات النصر :

 أيها الأخوة الكرام: هذه بعض الخطوات، الرجوع إلى الدين رجوعاً مبنياً على العلم الصحيح و الفقه السديد تصفية وتربية، تعلماً وتعليماً، عبادة وشريعة، عقيدة وسلوكاً، جهاداً و دعوة.
 ثانياً: الدخول في الإسلام كافة، وعدم التهاون والتفريط بأي جزئية أو تفصيل أو فرع من هذا الدين المتين المحكم، فهو عهد و ميثاق فليس في دين الله أمر بسيط:

﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾

[ سورة المزمل: 5]

 و العمل الصالح سبيل التمكين:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾

[ سورة النور: 55]

 ثالثاً: إحياء شعيرة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بين كافة شرائح الأمة، وأفرادها بضوابطها و شروطها.
 إدراك الموازنة الصحيحة و التعامل السوي مع الدنيا و الآخرة:

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾

[ سورة القصص: 77]

 ومن ذلك إصلاح الحياة الاقتصادية بجميع مرافقها، وإقامتها وفق شرع الله، واجتناب المعاملات الربوية المحرمة بجميع صورها وأشكالها، و من ذلك إحياء عقيدة الولاء و البراء والتناصر بين المسلمين بكل صوره؛ بالدعاء والمساندة، والمساعدة والمشاركة.
 و لكن أيها الأخوة هذا الأمر يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة وصبر مع إخلاص النية و صدق التوجه:

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾

[ سورة العنكبوت: 69]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 200]

 و لكن هذا الأمر أيها الأخوة، يحتاج إلى مراجعة ومتابعة، وتقويم، فالدواء ناجع، والسبيل موصل إلى الله تعالى، ولكن أقول هذه الكلمة: لو أن كل الوقائع التي وقعت تبدو مخالفة لسنن الله عز وجل الجواب: صدق الله وكذب بطن أخيك. و لكن هو السبيل الوحيد لمعالجة واقع الأمة، ولمواجهة المصائب، والنوازل التي تحل بنا بتكوين وعي عميق مؤصل لما نحن فيه أسباباً ونتائجاً وحلولاً، معتمدين على ما شرف الله به هذه الأمة، وهو الوحي:( قل كل يعمل على شاكلته ).
 أيها الأخوة: النظرة هذه لن تعجب ذوي الأنفاس القصيرة، والعواطف المتأججة، والرؤى الضيقة، والهمم المستعجلة:

﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 44]

 أيها الأخ الكريم: نصوص الوحيين الكتاب والسنة تخاطبك أنت دون سواك، وتحملك مسؤولية ستسأل عنها وحدك يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وكل امرئ حجيج نفسه، فالمسارعة المسارعة إلى استعمال الدواء، و الحذر الحذرْ من اليأس والتعجل والقنوط، ولن ينفعنا التساهل والتأجيل، واختراع المشاجب لنعلق عليها مصائبنا فراراً من مواجهة المسؤولية و التصدي لها.
 أيها الأخوة الكرام: في خطبة قادمة إن شاء الله سأحدثكم بما في الكتاب و السنة عما ينتظر هؤلاء المعتدين الظالمين الكفرة المجرمين، في هذه الخطبة لعل الله سبحانه و تعالى يلهمكم أن تعودوا إلى رشدكم، وأن ترتبوا أوراقكم الداخلية، وأن تقيموا أمر الله فيما تملكون، وأن تغيروا فيما أنتم عليه قادرون حتى يغير الله فيما لا نقدر على تغييره، هذا البلاء ليس له من دون الله كاشف، أمم الأرض مجتمعة لا تستطيع أن تواجهه إلا إذا أراد الله ذلك.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، و اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، و العاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين و أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، و أشهد أن سيدنا محمداً عبده و رسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

خطبة قاضي دمشق محي الدين القرشي عند فتح القدس :

 أيها الأخوة الكرام: في زحمة الأخبار التي تذاع في هذه الأيام التقطت خبراً صغيراً هو أن بلدة اسمها تكريت تبعد مئة و خمسين كيلو متراً عن بغداد، هذه البلدة هي مسقط رأس البطل صلاح الدين الأيوبي، و الإنسان حينما يسحقه الواقع يعود إلى التاريخ، ماذا فعل هذا البطل ؟ كيف واجه جيوش الغرب مجتمعة ؟ كيف نصره الله عز وجل ؟
 أيها الأخوة: ننتقل بكم إلى مدينة القدس حيث المسجد الأقصى متعبد الأنبياء السابقين، و مسرى خاتم النبيين، نعود بكم القهقرى عبر الزمان إلى يوم الجمعة الواقع في السابع و العشرين من شهر رجب عام خمسمئة و ثلاثة و ثمانين للهجرة الموافق للثاني من تشرين الأول عام ألف و مئة و سبعة و ثمانين للميلاد، ففي هذا اليوم تمّ فتح مدينة القدس من قبل المسلمين و بقيادة البطل صلاح الدين، و تمّ تحريرها من أيدي الغزاة الطامعين، و ها نحن أولاء نرى القلوب قد امتلأت بالفرح، و الوجوه قد عمها البشر، و نسمع الألسنة و قد لهجت بالشكر، لقد علت الرايات و علقت القناديل و رفع الأذان بين قوسين.
 ماذا فعل الجنود المعتدون في البصرة ؟ وزعوا مجلات إباحية، وجاء في الخبر أنها خدشت حياء المسلمين، هذه رسالتهم، وها نحن أولاء نرى القلوب قد امتلأت بالفرح و الوجوه قد عمّها البشر، و نسمع الألسنة وقد لهجت بالشكر، لقد علت الرايات وعلقت القناديل، ورفع الأذان، وتلي القرآن، و صفت العبادات، و أقيمت الصلوات، و أديمت الدعوات، و تجلت البركات، و انجلت الكربات، و زال العبوس، و طابت النفوس، و فرح المؤمنون بنصر الله.
 ها نحن أولاء ندخل المسجد الأقصى فإذا المسلمون وفيهم صلاح الدين وجنده يجلسون على الأرض، لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن أحد منهم، قد خشعت جوارحهم، و سكنت حركاتهم، هؤلاء الذين كانوا فرساناً في أرض المعركة استحالوا رهباناً خشعاً كأن على رؤوسهم الطير في حرم المسجد، و هاهو ذا خطيب المسجد محي الدين القرشي قاضي دمشق يصعد المنبر، ويلقي خطبة لو ألقيت على رمال البيد لتحركت، وانقلبت فرساناً، و لو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة، لقد افتتحها بقوله تعالى ـ أرجو الله أن يعاد ذلك:

﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة الأنعام: 45]

 و ها نحن أولاء نستمع إلى فقرات من خطبته: أيها الناس أبشروا برضوان من الله تعالى الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، و ردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها من أيدي المعتدين الغاصبين قريباً من مئة عام، و تطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع و يذكر فيها اسمه من رجس الشرك و العدوان، ثم قال محذراً: إياكم عباد الله أن يستذلكم الشيطان فيخيل إليكم أن هذا النصر كان بسيوفكم الحداد وخيولكم الجياد، لا و الله و ما النصر إلا من عند الله، فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل أن تقترفوا كبيرة من مناهيه، انصروا الله ينصركم، خذوا في حسم الداء و قطع شأفة الأعداء، و ها نحن أولاء نخرج من المسجد الأقصى و نلتقي بأحد الفرنجة الذين شهدوا فتح القدس و هاهو ذا يحدثنا - وازنوا بين ما رأيتم عقب انتهاء المقاومة من فوضى وبين ما سيقول هذا الفرنجي عن المسلمين - إن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا مسالماً، ولا معاهداً، وإن من شاء منا خرج، وحمل معه ما شاء، وإنا بعنا للمسلمين ما فضل من أمتعتنا فاشتروها منا بأثمانها، وإننا نغدو و نروح آمين مطمئنين، لم نرَ منهم إلا الخير والمروءة فهم أهل حضارة و تمدن، و صدق من قال: ما عرف التاريخ أرحم من العرب المسلمين.

 

قوانين الله عز وجل و سننه ثابتة لا تتغير :

 أيها الأخوة الكرام: هذه ومضة من التاريخ، هذه ومضة حينما عاد المسلمون إلى ربهم، هذه ومضة حينما غيّر المسلمون غيّر الله ما بهم، هذه بارقة أمل، الإله موجود و قوانينه ثابتة و سننه لا تتبدل و لا تتغير، هذه الخطبة تضغط في كلمة التغيير:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الرعد: 11]

 قوانين الله عز وجل و سننه ثابتة لا تتغير و لا تتبدل، ليكن انتماؤك أي انتماء، و ليكن شعارك أي شعار، و لتكن رايتك أية راية، الله عز وجل له سنن وله قواعد، وله قوانين لا تتبدل ولا تتغير، إن الله لا ينظر إلى صوركم، ويقاس عليها: ولا إلى راياتكم، ولا إلى شعاراتكم، ولا إلى طروحاتكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، و المؤمنون الصادقون تنطبق عليهم الآية الكريمة:

﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾

[ سورة آل عمران: 173]

﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 173]

 أيها الأخوة الكرام: المسلمون جميعاً في بقاع الأرض قاطبة في محنة كبيرة، رأيتم ضعفهم؟ رأيتم عواطفهم التي لا تؤكدها أعمالهم؟ رأيتم تخاذلهم؟ رأيتم جيوب الخيانة فيهم ثم رأيتم جريمة الكفار و قسوة الكفار و كذب الكفار و لؤم الكفار، إنهم يقولون ما لا يفعلون، من هو الأعور الدجال؟ هو الذي يقول شيئاً و يفعل شيئاً، هو الذي ينظر بعين واحدة، ينظر إلى خدش نخدشه به، ولا ينظر إلى سكينه التي تريق الدماء هو أعور دجال، كافر محتال.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾

[ سورة آل عمران: 119]

 و قد صدق الله العظيم ما من عمل أجدى من أن نعود إلى الله فرادى و مجتمعين، علينا أن نغير حتى فيما تظنه تافهاً، غيّر كل شيء و انتظر من الله النصر.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، و عافنا فيمن عافيت، و تولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق و لا يقضى عليك، و إنه لا يذل من واليت، و لا يعز من عاديت، تباركت ربنا و تعاليت، و لك الحمد على ما قضيت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، و أصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، و اجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، و اجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، و بطاعتك عن معصيتك، و بفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، و لا تهتك عنا سترك، و لا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك و رحمتك أعل كلمة الحق و الدين، و انصر الإسلام و أعز المسلمين، و أذل الشرك و المشركين، أذل أعداءك أعداء الدين يا رب العالمين، شتت شملهم، فرق جمعهم، خالف فيما بينهم، اجعل الدائرة تدور عليهم، اجعل تدميرهم في تدبيرهم يا رب العالمين، أرنا قدرتك في تدميرهم يا أكرم الأكرمين، انصرنا على أنفسنا حتى ننتصر لك، حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها لما تحب و ترضى، و اجمع بينهم على خير، إنك على ما تشاء قدير و بالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور