وضع داكن
19-04-2024
Logo
سيرة التابعين : 04 - التابعي الربيع بن خثيم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

قف عند معنى هذا القول :

 أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الرابع من حياة التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم، وتابعيّ اليوم هو الربيع بن خثَيم .
 قال هلال لضيفه منذر الثوري: (ألا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ، لعلَّنا نؤمن ساعة؟) نقف عند هذا القول قليلاً .
 كلّ شيءٍ له منابعُهُ، وكلّ شيءٍ له معدنهُ، فإن أردْت العلم فعليك بِدُور العلم، وإن أردت التجارة فعليك بالأسواق، وإن أردت السِّياحة فعليك بالمتنزَّهات، فالذي يريد العلم الشَّرعي، أو يريد القرب من الله عز وجل, فلا بدّ أن يجلس مع أهل العلم، ولا بدّ أن يرتاد المساجد، ألم يقل أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لأخيه: (اجْلس بنا نؤمن ساعة؟ بلى) فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ, يَقُولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً, فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ: فَغَضِبَ الرَّجُلُ, فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تَرَى إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ يُرَغِّبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ, إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تُبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ السَّلَام) .
 أيها الأخوة، عند أهل الأذواق ما من ساعة أمْتعُ على وجه الإطلاق من مُذاكرة العلم، أو من طلب العلم، أو من تعليم العلم، إذا كان هناك معلِّم ومُتَعلِّم فهذا تعليم، إذا هناك متعلِّم ومعلِّم فهذا تعلّم، وإذا كان هناك مؤمنون بِمُستوى واحد, نقول: مذاكرة العِلم، لكنَّ الذي أريد أن أقوله لكم:
 لا يوجد مَن ليس له جَلسات، الإنسان له عمل، وله وقت فراغ، وإن كان وقت الفراغ يقِلّ مع عِظَم التَّبِعات، وقِلَّة الموارد، ولا أريد أن أخرج عن مضمون الدرس، فالذي ليس عنده وقت فراغ لا يَحيا، وإذا أُلغِيَ وقت فراغ الإنسان فقد أُلْغِيَت حياته، لأنّ الإنسان يحيا بِمَبادئه، ويحْيا باتِّجاهاته، ويحيا بِتَأْدِيَة رسالتهِ، فإذا ألغَيْنا في الإنسان وقْت الفراغ, فقد ألغيْنا الوقت الذي يُمضيهِ كما يحبّ، فالوقت الذي تكسب به المال ربما لا تحِبّه، وهذا عمل رتيب، وعمل ربما لا يكون ممْتِعًا، ولكنَّ الوقت الذي تسْعدُ به, هو الوقت الذي تنفقهُ فيما تُحبّ .
 فالمؤمن أثْمنُ شيءٍ في حياتهِ هو وقت الفراغ، لأنَّه في هذا الوقت يطلب فيه العلم، وفي وقت الفراغ يلتقي مع أهل العلم، ويدعو إلى الله، ويُحَقِّق رسالته، ويؤكِّد ذاته، ويصِلُ إلى ربِّه، وقد يكسبُ جنَّة الآخرة، المشكلة الآن: أنَّ الإنسان يبحث عن عملٍ إضافي، وأنا معكم في هذا، ولكن هذا العمل الإضافي إذا امْتصَّ كلّ وقت فراغك، وتمكَّنْت أن تُضاعف دَخْلكَ، وتُنْفق هذا الدخل الزائد على ما زاد عن حاجتك, فو الله لأنت الخاسر، أنا أقول كلامًا، وأعني ما أقول: حينما يُلغى وقت الفراغ في حياة الإنسان, فقد أُلغِيَ وُجودهُ الإنساني، وبقيَ وُجودهُ الحيواني، كائنٌ يتحرَّك ويكسب المال، ويأكل ويستريح، ويستيقظ ويعمل, ويكسب المال، ثم يستريح إلى أن يأتيَهُ الأجَل، ولكن لا بدّ من وقتِ فراغٍ تحضرُ فيه مجالس العلم، أو تُعلِّم، أو تلتقي مع من تُحبّ، أو تدعو إلى الله، أو تُطالع .
 أيها الأخوة الكرام، المقصود من هذا الكلام أنَّه إذا كان لك دخْلٌ يكفيك، أو يكفيك مع بعض المشقَّة، وبإمكانك أن تُمضي وقتًا طويلاً في معرفة الله، والعمل الصالح، فإيَّاك أن تتورَّط في إلغاء وقت فراغك، لأنَّ هناك أُناسًا كثيرين يقولون: واللهِ لا يوجد وقت, فنحن ندخل إلى بيوتنا بعد نوم أولادنا، ونخرج من بيوتنا قبل اسْتيقاظ أولادنا, وهو يظنّ أنَّه يُحْسنُ صُنعًا، وهو في الحقيقة ألغى وُجودهُ الإنساني، ودقِّقُوا في هذا الكلمة:
 الذي يُلغي وقت فراغه يُلغي وُجوده الإنساني، لا ترضى بِعَملٍ يشتريك به صاحبُ العمل من شروق الشمس إلى نصف الليل, لو أعطاك مائة ألف بالشَّهر فأنت الخاسر الأكبر، ولا تقبل عملاً يُلغي وقْت فراغك، إنَّ الآخرة تحتاج إلى وقتٍ، وبالمناسبة أجْمل ما قرأتُ عن الصلاة، وأنّ الصلاة فيها من كلّ أنواع العبادات، الصلاة فيها من الحجّ التَّوَجُّهُ إلى القبلة، وفيها من الصِّيام ترْكُ الطَّعام والشَّراب، وترْكُ الكلام فيما هو بعيد عن الصلاة، وفي الصلاة معنى الزكاة، لأنَّ أصْل كسْب المال هو الوقت، وأنت تقْتطعُ منه لِتُصَلِّي، وفي الصَّلاة معنى التَّشهّد، الأركان الأرْبَعُة للإسلام تدخل في الصَّلاة، ولذلك هي الفرْض المتكَرِّر الذي لا يُلغى بِحَال .

 

ما الحوار الذي دار بين الهلال بن إساف وبين منذر الثوري ؟

 قال له: (أنا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ لعلَّنا نؤمن, قال منذر: بلى، فو الله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم، والحنين في العَيْش ساعة في رِحاب إيمانه, -نسأل الله أن يجمعنا مع أهل الحق، فالإنسان المؤمن الصادق المُتَّصِل والصافي والمخلص، اللِّقاء معه جميل، وجنَّة الله في الأرض أن تلتقي مع أهل الإيمان، هؤلاء كما قيل عنهم: كالكبريت الأحمر؛ نادر- قال له: فو الله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم، والحنين في العَيْش ساعة في رِحاب إيمانه، ولكن هل اسْتأذنْت لنا عليه؟ فقد قيل لي: إنَّهُ منذ أُصيب بالفالج لزِمَ بيتهُ، وانْصرفَ إلى ربّه، وعزفَ عن لقاء الناس .
 -تصوّر إنسانًا أُصيب بالفالج، فهو بعيدٌ عن الله تعالى، وقد ينتحر، وقد ينهار، وتصوَّر إنسانًا مؤمنًا أُصيب بالفالج، وهو قريب من الله، لقد صار هذا المرض خَلْوَةً له، وهذا ما قاله أحد العارفين: ما يصْنعُ أعدائي بي؟ جنَّتي في صدري، إن أبْعَدوني فإبعادي سِياحة، وإن قتلوني فقتْلي شهادة، وإن حبسُوني فحَبْسي خلوة، أجْمَلُ ما في حياة المؤمن أنَّ سعادتهُ تنْبعُ من داخلهِ، ولا يأخذها من الخارج، ولكنَّ عامَّة الناس سعادتهُ من بيتهِ، فإذا حُرِمَ بيتهُ اخْتلَّ توازنهُ، وسعادتهُ من مرْكبته، وسعادتهُ من زوجته، ومن أولاده، ومن مكانتهِ، فإذا حُرمَ هذه الشروط انْهارَ نفْسِيًّا، والمؤمن سعادتهُ من داخلهِ، أيْنمَا ذهبْت به يسْتغني عن أيِّ شرْط مادِّيٍ لِسعادته- .
 قال هلال: إنّه لكذلك منذ عرفَتْهُ الكوفة، لم يُغيِّر منه المرض شيئًا، -الذَّهَب ذهَب، فأنا هذه الحقيقة أعرفها، ولكنَّني ما شعرْتُ بها، مرَّةً قرأْتُ مقالة: عثَرُوا على باخرة غرقَتْ في عام 1910، وكانت تحْمل كمِّيَة كبيرة جدًّا من الذَّهَب من أمريكا إلى بريطانيا، أو العكس، غرقَت في عرْض المحيط الأطلسي، والآن هناك شركات تبْحث في التاريخ القديم عن غرَق هذه البواخر العِملاقة التي تحمل من الثَّرَوات ما لا سبيل إلى وصْفه، وكوَّنوا فريق بحث عن طريق غوَّاصات مُسطَّحة, ووصَلوا إلى قاع المحيط، وعَثَروا على هذه السفينة، ورأيْتُ في المجلَّة صُوَرًا لِسَبائِكِ الذَّهَب اللاَّمِعَة التي اسْتُخْرِجَت من المحيط، طبْعًا الفكرة واضحةٌ سابقًا، ولكن أنا عِشْتُ هذه الحقيقة فالذَّهَب ذهَب، وكانت تلك السبائك بِمَنظرها، وكأنَّها صُبَّتْ قبل ساعة، بقِيَت في أعمـاق المحيط منذ 1910، واسْتُخْرِجَتْ قبـل سنة، أيْ بقيَتْ ثمانين عامًا في المياه المالحة, والعوامل الطبيعية، فالذَّهَب يبقى ذهَبًا، ولن يتغيَّر اللَّمَعان والبريق والصَّفار ، فلذلك المؤمن ذهب أربعة وعشرين، وهناك ثمانية عشر، وهناك ستَّة عشر، وهناك من هو مَطليٌّ بالذَّهَب، أما المؤمن الصادق فلن يتغيَّر- .
 قال له: لا بأس، ولكِنَّك تعلم أنَّ لِهَؤلاء الأشياخ أمْزِجَةً رقيقة، فهَلْ ترى أن نُبادِر الشَّيْخ فنسْألهُ عمَّا نريد, أم نلْتزمُ الصَّمْت فنَسْمعُ منه ما يريد؟ -والحقيقة: كلّ شخْصٍ يُعاني هذه المشكلة، إذا زارَ أخًا يُحبُّه ويثقُ به، يا ترى يسأل أم يسْمع؟ والله كلاهما خير، فإذا أنْصَتَ فأنا متأكِّد أنَّك إذا ذهبْت إلى رجلٍ تثق بِدِينه وإخلاصِهِ وعلمه، فإذا صمَتَّ فالله تعالى إكرامًا لإخلاصك لطلب العلم، وإكرامًا لإخلاصهِ في تعليم العِلْم, يُلْهِمُه ما أنت بِحاجةٍ إليه، وإذا سألْتهُ فلا مانع، فَمِفتاح العلم السؤال، كلاهما جائز، فإما أن تسأل، وإما أن تستمع- .
 فقال هلال: لكنَّ هذا الشيخ لو جلسْتَ معه عامًا بأكملهِ, فإنَّه لا يُكلِّمك إذا لم تكلِّمْه، حضرني حديث وردَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا, إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ))

 -هناك مؤمن يميل إلى الصَّمت، ومؤمن يميل إلى الكلام، وهناك من يميل إلى اللِّقاء مع الناس، ومؤمن يميل إلى الخَلْوَة، كلّهم على العَين والرأس، وهناك مؤمن يعتني بِمَظهره كثيرًا، ومؤمن أقلّ اعْتِناءً بِمَظهره من الآخر، فهذه طِباع تختلف من مؤمن لآخر، وهناك من هو هادئ الطَّبع، وآخر حادّ الطَّبْع، وهناك إنسان كالحمامة، وآخر كالصَّخرة، أو بالتعبير الإسلامي هناك إنسان عُمَري، وإنسان بَكْري، كسَيِّدنا الصدّيق، هذه الطِّباع كلّها مقبولة، يُطبع المؤمن على الخلال كلّها إلا خيانة والكذب، فإذا فعلهما فليس مؤمنًا، لماذا الربيع بن خثيم لا يُكلِّمُكَ إلا إذا كلَّمْتهُ، ولا يُبادِرُك إلا أن تسْألهُ؟ فهو قد جعل كلامه ذِكْرًا، وصَمْتهُ فِكْرًا، ومن أدقّ الأحاديث الشريفة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام:

((أمرني ربِّي بِتِسْع؛ خشيَة الله في السرّ والعلانِيَّة، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصِلَ من قطعني، وأن أعْفُوَ عمَّن ظلمني، وأن أُعْطِيَ مَن حرمني، وأن يكون صمتي فكْرًا، ونطقي ذِكْرًا, ونظري عبرةً))

 مرَّةً مصباح كهربائي علَّمني درسًا لا أنساه، هذا المصباح يُشْحن بالكهرباء، لمَّا أنسى شحنه، وأضطرّ لاستعماله أجد الضوء خافتًا، ومرَّةً نسيتهُ في الشَّحن يومين دون أن أنتبه، فلمَّا استعملتهُ كان كالشَّمس, وهكذا المؤمـن، كلَّمـا اعتنى بِشَحْنِهِ كلَّما تألَّق، وكلّما أهْمل شَحْنهُ عن طريق الذِّكر والعبادة وتلاوة القرآن كلَّما خَفَتَ ضوءُه، فالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام:

((أُمرتُ أن يكون صمتي فِكْرًا، ونطقي ذِكْرًا، ونظَري عِبْرةً))

 قال: فلْنَمْضِ إذًا على بركة الله تعالى) .

 

إليكم ثمرة اللقاء التي تمت بين الربيع بن خثيم وبين ضيفيه :

 قال: (ثمَّ مضيَا إلى الشيخ، فلمَّا صارا عنده سلَّمَا، وقالا: كيف أصْبحَ الشيخ؟ -الآن هيِّئوا أنفسكم إلى كلام ربما لا تقبلونه، ولكنَّ التواضع هكذا، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ, وهو أحدُ التابعين: (أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ, مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) والإنسان كلّما ارْتقى يتَّهِمُ نفسهُ، قال الإمام الشافعي :

أُحبّ الصالحين ولسْتُ منهم   لعلِّي أن أنال بهم شفاعـة
وكرهُ من بضاعتهُ المعاصي  ولو كنَّا سواءً في البضاعة

  قال: أصبح ضَعيفًا مذْنبًا، يأكل رزقهُ، وينتظر أجله، فقال هلال: لقد نزل بالكوفة طبيبٌ حاذق، أفتأذن بأَن أدْعُوَهُ إليك؟ فقال: يا هلال، إنِّي لأعلم أنَّ الدواء حق، تداوَوْا عباد الله ، -وكل إنسان يدع الدواء يقع في المعصِيَة، بل إنَّ الحكم الفقهي إذا غلبَ على يقينك أنَّ هناك مرضًا يحتاج إلى دواء، وهذا المرض يؤثِّر تأثيرًا بليغًا على جسمك، فعدَمُ أخْذ الدواء معْصِيَة ، والمبادرة إلى المعالجة فرْضٌ، وأبلغُ من واجب، لأنّ هذا الجسم له قوانين، أنت حينما تُنفِّذ تعليمات الطبيب المؤمن الحاذق الورِع، فأنت تنفِّذُ تعليمات الصانع، لأنَّ الطبيب عرف قواعد هذا الجسْم- قال يا هلال: إنِّي لأعلم أنَّ الدواء حقّ، ولكنِّي تأمَّلتُ عادًا وثمود وأصحاب الرسّ وقرونًا بين ذلك كثيرًا، ورأيت حرصهم على الدنيا، ورغبتهم في متاعها، وقد كانوا أشدَّ منَّا بأْسًا، وأعظمَ قدرةً، وقد كان فيهم أطبَّاء ومرضى، فلا بقِيَ المُداوي ولا المُدَاوَى، ثمَّ تنهَّدَ تنْهيدةً عميقةً، وقال: ولو كان هذا هو الداء لتداوَيْنا منه، فاسْتأذن منذر، وقال: فما الداء إذًا يا سيّدي الشيخ؟ قال: الداء الذنوب، قال منذر: وما الدواء؟ قال: الاستغفار، قال منذر: وكيف يكون الشفاء؟ قال: بأن تتوب، ثمّ لا تعود, -وهذا كلامٌ واضح كالشمس .
 أيها الأخوة، في الأثر الموقوف عن علي بن أبي طالب, قال: (عليكم بخمس, لو رحلتم فيهن المطي لأنضيتموهن قبل أن تدركوا مثلهن؛ لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحيي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحيي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، واعلموا أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان) .
 وهذه الفقرة من القصّة ذكَّرتني بكتاب قرأته، اسمه: قصص العرب، وهو من أمْتع الكتب، قصصٌ واقعيـّة من أربعة أجزاء، فلمَّا أنْهَيتُ قراءة هذا الكتاب, شعرْت أنَّ كلَّ مَن في الكتاب على وجه الإطلاق كبارًا وصِغارًا، أقوياء وضعفاء، أصِحَّاء ومرضى، أذكياء وحمْقى، ظلاَّمًا ومظلومين، حكَّامًا ومحكومين, كلُّهم الآن تحت أطباق الثَّرى، وهذه موعظة، فهذا المجلس بعد مائة عام ليس منَّا واحد إطلاقًا على وجه الأرض، كلّنا موزَّعون في الثُّرى التي حول دمشق، هذا في باب الصغير، وذاك في قاسيون، وذاك توُفِّيَ، وقد مضى عليه خمسون سنة، وكان يفعل كذا وكذا، وما دامت الحياة ظلاًّ فلا بد من أن تنتهي، إذًا لا بدّ من عملٍ صالح، والدنيا ساعة فاجْعلْها طاعة- .
 قال: ثمَّ حدَّق فينا، وقال: السرائر السرائر, عليكم بالسرائر التي تخفى على الناس، وهنّ على الله تعالى بَوادٍ، -كلّ واحد له سرّ، وله قلب، فقد نتشابه، كلّنا في مسجدٍ واحد، وكلّنا يصلِّي، وكلّنا يدفعُ زكاة ماله، وكلّنا يحجّ، ولكنّ هذه السرائر تتفاوُتُ فيما بينها، فالإخلاصَ الإخلاصَ، وعليكم بالسرائر التي تخفى على الناس، وهنّ على الله تعالى بَوادٍ، أي ظاهرة- الْتَمِسوا دواءهنّ، فقال منذر: وما دواؤهنّ؟ الشيخ: التوبة النصوح، ثمَّ بكى حتى بلَّلَتْ دُموعه لِحْيتهُ) وهذا هو الإخلاص، وفي الحديث:

((ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط))

 وعن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن:

((أوصني, قال: أخلص دينك يكفك القليل من العمل))

 درهمٌ أُنفِقَ في إخلاص خير من ألف مائة درهم أُنفقتْ في رياء، والإخلاص محصِّلة العلم، وبرأيِ الاقتصاديِّين سِعر العُملة هو محصِّلة القومي، الاقتصاد بأكملهِ، الميزان التجاري ، القدرة على الإنتاج, والقدرة على الاستهلاك، والاستيراد والتصدير، كلّ هذه العوامل الضَّخمة في اقتصاد الأمَّة مُؤدَّاها سِعْر العملة، مُحصِّلة كلّ إيمانك هو الإخلاص، فكلمَّا ارْتقى إيمانك ارتقى إخلاصك، الأدقّ من ذلك؛ كلّما ارتقى توحيدك ارتقى إخلاصك، فالإخلاص مرتبط بالتوحيد، فالأكثر توحيدًا هو الأكثر إخلاصًا، والأقلّ توحيدًا هو الأقلّ إخلاصًا .

السؤال الذي طرحه منذر الثوري على الربيع بن خثيم :

 ثمّ قال له منذر: (أَتبكي وأنت أنت؟ قال: هيهات لِمَ لا أبكي؟ وقد أدْركتُ قومًا نحن في جنبهم لُصوص, -فإذا شعر الواحد منَّا أنَّه متميِّز على المجتمع لا تميّز كِبْر, ولكن تميّز طاعة، فهو يرى معظم الناس يمتّعون أبصارهم في النساء، وهو يغضّ بصره، ومعظم الناس يأكلون مالاً حرامًا، وهو ورعٌ جدًّا، فلا يقبض القرش إلا إذا كان حلالاً، وبيته إسلامي، وزوجته محجَّبة، صادق وأمين، فالواحد في هذا الزمان مع الفسق والفجور وشُيوع الفِتَن والشهوات والملذّات، فالذي يستقيم في هذه الحالة يشعر بِعِزَّة الاستقامة، ولكن نحن وُجِدنا في ظرْف عمَّ فيه الفسق، والمستقيم برز وتفوَّق، ولكنَّنا لو وجدنا في مجتمع آخر كمُجتمع التابعين لكنَّا مع المقصِّرين جدًّا، إن لم نقل مع المنافقين، تمامًا لو جئت بِطَالبٍ وسط، وتضعهُ في شعبة ضعيفة يصبح المتفوّقَ الأوَّلَ، هذه يعرفها وتلك يعرفها, ولكنَّك لو وضعته مع المتفوِّقين يصبح آخِرَ واحد، فنحن لعلَّ الله سبحانه وتعالى رحِمَنا إذْ جعلنا في آخر الزمان، لو كنَّا مع الرعيل الأوّل من أصحاب رسول الله لما كان لنا ذِكْرٌ إطلاقًا- .
 قال له: لقد أدركْت قومًا نحن في جَنبِهم لُصوص) يريد الصحابة رضوان الله عليهم، امرأة رأَتْ أباها مقتولا في أحد، وبعد قليل رأتْ أخاها مقتولا، ثم رأت زوجها مقتولا، ثم ابنها ‍‍, وتقول: ما فعلَ رسول الله؟ إلى أن بحثتْ عنه، واطْمأنَّت على سلامته، فقالت: يا رسول! كلّ مصيبة بعدك جلَل, نحن في هذا الزمان لا يوجد عندنا نساء بهذا المستوى، فإذا كان هناك ثلاثة جرْحى، وثلاثة آخرون على وشَكِ الموت، والجريح يتمنَّى قطْرة ماء بِمِليون ليرة، هذا الجريح يطلب الماء، فيأتي الساقي ليَسْقيَهُ، فيكون أخوه الذي إلى جنبه يئنّ، فقال: أعْطِ أخي, فلمَّا قُدِّم الماء لأخيه، فقال الثاني: أعطِ الماء لأخي، فلما ذهب ليُعطِيَه وجده فارق الحياة، وذهب إلى الثاني فوجدهُ فارق الحياة، وكذا الثالث, هل عندنا مثل هذا النوع؟ نحن بالحج في المطار مائتا مقعد لمائتي راكب، لو تقف بعد مائتي متر، ويدخل كلّهم الطائرة لوجدت مكانك ، لكنَّك تجدهم يتقاتلون من أجل الأمكنة، شيء عجيب ! هناك فرق نوعي .
 أنا مرَّةً في الحجَّة الثانيَة التي أكرمني الله بها, بقيتُ بِمَكَّة عشرة أيام بعد انتهاء الحجّ ، وآخر يوم تمنَّيْت أن أُقبِّل الحجر الأسود، وجئتُ في وقت لا تحتمل فيه الحرارة، فقد بلغتْ ستًّا وخمسين درجة, ومعي مظلّة، ووجدْتُ خمسين شخْصًا يزمعون تقبيل الحجر، واللهِ لو وقفوا بانتظام لقبَّلوه جميعًا في عَشْر دقائق، رأيتُ الضَّرب والشدّ والدَّفْع، هؤلاء المسلمون الذين سيفْتحون العالم, أين النظام؟ أمَا قال له: أدْركتُ قومًا نحن بِجَنبهم لُصوص, فانظرْ إلى تدافع الناس على المركبة، وهم حجاج، وطائرة، ولكلٍّ مكانه، لكنْ لا بدّ أن نتدافع، ونشاتم ويشدّ بعضنا ثياب بعض, لشيءٍ لا قيمة له إطلاقًا .

إليكم هذه العبرة من قول الربيع لابنه :

 قال: (وإذْ نحن كذلك, دخل علينا ابن الشيخ فحَيَّانا, وقال: يا أبتِ, إنَّ أمِّي قد صنَعَت لك خبيصًا وجوَّدَتهُ، -نوعٌ من الحلْوَة- وإنَّه ليَجْبر قلبها أن تأكل منه، فهل آتيك به؟ فقال: هاتِهِ ، فلمَّا خرج لِيُحضرهُ, طرق سائلٌ, فقال: أدْخلوه، ولمَّا صار بِصَحن الدار: نظرتُ إليه، فإذا هو رجل كهْلٌ, مُمَزَّق الثِّياب، قد سال لُعابهُ على ذقنه، وبدا من ملامح وجهه أنَّه معتوه، فما كِدْتُ أرفعُ بصري عنه, حتى أقبل ابن الشيخ, ومعه الخبيص، فأشار إليه أبوه أن ضَعها بين يدي السائل، فوضَعَه بين يديه، فأقبل عليها الرجل، وجعل يلتهم ما فيها الْتِهامًا، ولعابهُ يسيل فوقها، فما زال يأكل حتى أتى على ما في الصَّحفة كلّها، فقال له ابنه: رحمك الله يا أبي، لقد تكلَّفَت أُمِّي، وصنعت لك هذا الخبيص، فأطْعمْتَهُ هذا الرجل الذي لا يدري ما أكل، اسمعوا الجواب .
 قال له: يا بنيّ، إذا كان هو لا يدري ما أكل, فإنّ الله يدري ماذا أكل؟ -وهذه ذكَّرتني بِرَسول جاء من معركة نهاوند إلى سيّدنا عمر، قال له: حدّثني عما جرى في هذه المعركة، فقال: فلان قُتِل، وفلان قتل، قال له: تابع, فقال: هناك أناسٌ لا تعرفهم بأسمائهم، بل تعرفهم بوُجوههم؟ فبكى عمر، وقال: ما ضرَّهم إذْ أنّي لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم .
 إنسان كريم جواد أعطى امرأة فقيرةً عطاءً كبيرًا، قال له مَن كان جنبَه: لقد كان يرضيها القليل، وهي لا تعرفك، فأجاب وقال: إنْ كان يرضيها القليل، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني, فأنا أعرف نفسي، لذلك اصْنَع المعروف مع أهله، ومع غير أهله، فإن أصبْت أهلَهُ فقد أصبْت أهله، وإن لم تصِب أهله فأنت أهله، هذا هو الإخلاص، فالمخلص لا يعنيه إطلاقًا ردُّ الفعل، قدّر الفعل، أو لم يقدّره، أساء أو لم يسئْ، فأنت تعاملت مع الله، وما عرف من أتى له بالهديّة، كلّ هذا غير مهمّ، وما عرف من دفع المبلغ، المهم أنّ الله علِم مَن دفع، وهذا هو الإخلاص، وكلَّما نما توحيدك نما إخلاصك، لذا غير المخلص يقع في مطبّ مزْعج، يستجدي المديح، لأنّ إخلاصه ضعيف، حتى يُعَوِّض عن الجهد الذي بذَلَه، فإذا أقام وليمة, قال: ربّما لم يعْجبكم الأكل, لقد قال هذا من أجل أن يسْمع المديح، فاسْتجداء المديح دليل ضعف الإخلاص، وكلّما نما توحيدك نما إخلاصك- .
 قال له: يا بنيّ، إذا كان لا يدري ماذا يأكل, فإنَّ الله يدري ماذا يأكل، ثمَّ تلا قوله تعالى:

 

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[ سورة آل عمران الآية: 92]

 سمعتُ قصَّة أُسرة سامحها الله، عندهم خادمة في البيت، وعندهم وليمة، والطعام مِمَّا يسيل له اللُّعاب، فربَّة البيت عندها عدّة صحون قديمة في الثلاجة، وألْزَمَت هذه الخادمة أن تأكل هذه الأطعمة التي مضى عليها أيّام، وحرمتها أن تأكل لُقْمة من الطعام الجديد, قال تعالى:

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[ سورة آل عمران الآية: 92]

خطب جلل :

 وفيما هو كذلك إذْ دخل عليه رجل من ذوي قُرْبة، وقال:

((يا أبا يزيد, قُتِلَ الحُسَيْن بن عليّ كرّم الله وجهه، وابن فاطمة عليها وعليه السلام، فقال الربيع: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثمّ تلا قوله تعالى:

﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾

[ سورة الزمر الآية: 46]

 ولكنَّ الرجل لم يشْفه كلامه، فقال له: ما تقول في قتله؟ قال: أقول: إلى الله إِيّابهم، وعلى الله حسابهم))

 أنا أُرِيحُكُم من أشياء كثيرة، تقييمُ الأشخاص ليس من شأن البشر، ولكنه من شأن خالق البشر، ولا يعلم الحقائق إلا الله، والماضي كلّه تغطِّيه آية:

 

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة البقرة الآية: 134]

 الغ التاريخ بآية واحدة، والغ عِبء تقييم الأشخاص بكلمة واحدة، وأنا قبل يومين كنت في تعْزِيَة، والمُتَوَفَّى أعرفهُ، وهو إنسانٌ صالح، ولا أزكِّي على الله أحدًا، ولكن قيل عنه كلامٌ قطعي: إنَّه من أهل الجنَّة, هذا كلام قطعي، فذكرْتُ قَول النبي عليه الصلاة والسلام:

((أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ, بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً, فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ, فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا, فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ, فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ, دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ, فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ, وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ, وَاللَّهِ مَا أَدْرِي, وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي, قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا))

 لذا نحن نقول: نرجو الله أن يكرمهُ، ونرجو الله أن يُدخلهُ فسيح جنانه، فإذا قلت: نرجو، فلا إشكال عليك إطلاقًا، أما إذا قلتَ: هو من أهل الجنَّة, فهذا تألٍّ على الله تعالى، ولا يدخل الجنَّة فيما نعلم على وجْه اليقين إلا العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وما سواهم نرجو لهم دخول الجنة، لأنَّ تقييم الأشخاص ليس من شأن البشر، بل هو من شأن خالق البشر، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾

[ سورة الغاشية الآية: 25-26]

من وصايا الربيع لضيفيه حينما نزلا عنده :

 قال: (ثمَّ إنِّي رأيتُ وقتَ الظهر قد اقترب، فقلتُ للشيخ: أوْصِني؟ قال: لا يَغُرَّنَك يا هلال كثرةُ ثناء الناس عليك، فإنَّ الناس لا يعلمون منك إلا ظاهرك، واعْلم أنَّك صائرٌ إلى عملك، وأنَّ كلّ عملٍ لا يُبْتغى به وجْهُ الله يضْمحِلّ، فقال المنذر: وأوْصني أنا أيضًا جُزيت خيرًا؟ قال: يا منذر, اتَّق الله فيما علمْت، وما اسْتأثر عليك بعلمه, فَكِلْهُ إلى عالمه، لا تقل فيما لا تعلم يا منذر، لا يقل أحدكم: اللهمّ إني أتوب إليك، ثمّ لا يتوب، ثمّ تكون كِذْبة، ولكن قلْ: اللهمّ تُب عليّ، فيكون دُعاءً، فاجْعل التوبة دعاءً, ولا تجعلها خبرًا، واعْلم يا منذر, أنَّه لا خَير في كلامٍ إلا في تهليل الله، أي التوحيد، وتحميد الله، أي الحمْد، وتسبيح الله، أيْ التنزيه، وسؤالك من الخير، وتعوُّذك من الشرّ، وأمرِكَ بالمعروف، ونَهْيِكَ عن المنكر, وقراءة القرآن ، فقال المنذر: قد جالسْناك فما سمعناك تتمثَّل بالشِّعر، وقد رأينا بعض أصحابك يتمثَّلون به؟ فقال: ما من شيءٍ تقوله هناك إلا كتِبَ، وقُرِئ عليك هناك يوم القيامة، -النبي عليه الصلاة والسلام, قال: شطر بيت, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه,ُ قَال:َ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِل ٌ وَكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ

 فنعيم أهل الجنَّة لا يزول، لذلك لم يذكُره النبي صلى الله عليه وسلم، أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:
 أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ........................
 ولا يكْمل الكلام، أما الواحد منَّا فتجِدُه يروي مائة كلمة كلها غلط، ونحن مُحاسبون بما نقول- .
 قال: فأنا أكرهُ أن أجد في كتابي بيت شِعْر يُقرأُ عليَّ يوم يقوم الحساب، ثمّ الْتفتَ إلينا جميعًا، وقال: أكْثروا من ذِكْر الموت، فهو غائبكم المُرتقب، وإنّ الغائب إذا طالتْ غَيبَتُه أوْشكَتْ أوْبَتُه, ثمَّ اسْتعْبَر, أيْ بكى، وقـال: ماذا نصْنعُ غدًا إذا دُكَّت الأرض دكًّا دكًّا، وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا، وجيء يومئذٍ بِجَهَنَّم؟ قال هلال: وما كاد الربيع أن ينتهي من كلامه حتى أُذِّن للظُّهر، فأقْبل إلى ابنه، وقال: هيَّا نُجِبْ داعيَ الله, فقال ابنهُ: أعينوني على حَمْلهِ إلى المسجد جُزيتُم خيرًا؟ فرفعناهُ ووضعَ يمناهُ على كتف ابنه، ويُسْراه على كتفي، وجعل يتهادى بيننا، فقال المنذر: يا أبا يزيد, لقد رخَّص الله لك، فلو صلَّيْت في بيتك, فقال: إنَّه كما تقول: ولكنَّني سمعتُ المنادي ينادي: حيّ على الفلاح، فمَن سَمِع منكم المنادي ينادي إلى الفلاح, فلْيُجِبْهُ ولو حَبْوًا) قال عليه الصلاة والسلام:

((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا))

 أي زحفًا، من شدَّة الخير الذي في صلاة الفجر .

 

لمحة عن حياة الربيع بن خثيم من حيث؛ نسبه, وعبادته :

 الربيع بن خثيم عَلَمٌ من أعلام التابعين، وأحدُ الثمانيَة الذين انتهى إليهم الزهد في عصره، عربيّ الأصل، مُضَرِيّ الأرومة، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جدَّيْه ، ونشأ منذ نعومة أظفاره في طاعة الله، وفطم نفسه منذ حداثته على تقواه، وكانت أُمّه تنام في الليل، ثمَّ تصْحو فَتجِدُ ابنها اليافع ما زال صافًّا في محرابه، سابحًا في مناجاته، مُستغرقًا في صلاته، فتقول له: (يا ربيع ألا تنام؟ فيقول: كيف يستطيعُ النوم من جنَّ عليه الليلُ، وهو يخشى البيات؟ -مَن لم تكن له بدايةٌ محْرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة- فتتحدَّر الدموع على خدَّي الشيخة العجوز، وتدعو له بالخير، ولمَّا شبّ الربيع ونما، شبَّ معه ورعُه، ونمَت بِنُمُوِّه خشيتُهُ من الله تعالى، ولقد أرَّق أمَّهُ كثرةُ تضرّعه، وشدَّةُ نحيبه في عتمات الليل، والناسُ نيام، حتى ظنَّت به الظنون، وكانت تقول له: يا بنيّ, ما الذي أصابك؟ لعلَّك أتَيْتَ جُرْمًا، لعلَّك قتلْت نفسًا، فقال: يا أُمَاهُ, لقد قتلت نفسًا, فقالت في لهْفة: ومن هذا القتيل حتى نجعل الناس يسْعَون إلى أهله حتى نجعل أهله يعفون عنك؟ واللِه لو علم أهلُ القتيل ما تعانيه من البكاء، وما تُكابده من السَّهر لرحِموِك، فقال: لا تكلِّمي أحدًا، فإنَّما قتلتُ نفسي, لقد قتلتها بالذنوب) .
 لقد تتَلْمذَ الربيع بن خثيم على عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأقرب الصحابة هدْيًا وسمْتًا من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد تعلَّق الربيع بأُستاذه تعلّق الوليد بأُمِّه، وأحبّ الأستاذُ تلميذَه حُبَّ الأب لوحيده .

إليكم هاتان القصتان اللتان يرويهما من صاحب الربيع :

 قال أحدهم:

((بتُّ عند الربيع ليلةً، فلمَّا أيْقن أنِّي دخلتُ في النوم, قام يُصلِّي, فقرأ قوله تعالى:

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾

[ سورة الجاثية الآية: 21]

 فمكثَ ليلته يُصلِّي بها، يبدؤها ويعيدها، حتى طلع عليه الفجر، وعَيناه تسُحَّان بالدُّموع سحًّا)

 وقال بعض أصحابه:

((خرجنا يومًا لصُحبة عبد الله بن مسعود، ومعنا الربيعُ بن خثيم، فلمَّا صرنا على شاطئ الفرات, مررْنا بأتون كبير قد صُعِّرَت نارهُ، فتطايَر شررها، وتصاعدَت ألسنةُ لهيبها، وسُمِعَ زفيرها، وقد ألقي في الأتون الحجارة, لتَحْترِق حتى تصبحَ كلْسا، فلمَّا رأى الربيعُ النارَ, توقَّف في مكانه, وعَرتْهُ رِعدةٌ شديدةٌ، وتلا قوله تعالى:

﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾

 

[ سورة الفرقان الآية: 12-13]

 ثمّ سقط مغشِيًّا عليه، فربطْنا معه حتى أفاق من خشْيتِهِ، ومِلْنَا به إلى بيته) .

ما هو الشيء الذي يلفت النظر في حياة الربيع ؟

 الشيء الذي لفتُ النظر في حياة الربيع؛ أنَّه يذكر الموت كلّ يوم اسْتعدادًا له، والمؤمن العاقل لا تغيب عنه هذه الساعة التي لا بدَّ منها، وكان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ كلّ يوم, يقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي, وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي, وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ) .
 فلمَّا احْتضرَ جعَلَت ابنتهُ تبكي، فقال لها: (ما يُبْكيكِ يا بنيّتي, وقد أقبلَ على أبيكِ الخيرُ ؟ ثمَّ أسْلم روحهُ إلى بارئها) .

ما قيل عن الموت :

 أيها الأخوة, يولد الطفلُ وكلّ من حوله يضحك، إلا هو فيبكي، وحينما يموت الإنسان كلّ من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً عندها فلْيَضْحكْ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ:

((لَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ مَا وَجَدَ, قَالَتْ فَاطِمَةُ: واكَرْبَ أَبَتَاهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ, إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))

 وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف, قال: سمعت عمار بن ياسر بصفين في اليوم الذي مات فيه, وهو ينادي: (إني لقيتُ الجبار، وتزوجتُ الحور العين، اليوم نلقى الأحبة محمداً وحِزبه، عَهِدَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ آخر زادك من الدنيا ضباحٌ من لَبَن) .
 لقد أعطانا ربُّنا ميزانًا دقيقًا، قال تعالى:

 

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾

[ سورة الجمعة الآية: 6-7]

 إذا لاح للإنسان شبح الموت، وارْتعدَت فرائسُه، فهذه علامة خطيرة، أما إذا لاح له شبح الموت، وقال: مرحبًا بلِقاء الله، فهذه علامة على أنَّه محِبّ لله، ومستقيم على أمره، وهذا مقياس المؤمن .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور