وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0351 - كيف يحبك الله عز وجل ؟ - النفس اللوامة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخطبة الأولى:

 الحمد لله، ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنّا لنَهْـتَديَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصاميَ، ولا توكّلي ؛ إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إقرارًا بربوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدَنا محمّدًا، صلى الله عليه وسلّم رسولُ الله سيّد الخلق والبشر ؛ ما اتَّصَلَت عين بنظر، أو سمعت أذن بخَبر، اللَّهمّ صلِّ وسلّمْ وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللَّهمّ ارحمنا فإنّك بنا راحم، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر، والْطُفْ بنا فيما جرَتْ به المقادير، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير.
 اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علمًا، وأرِنا الحقّ حقاً وارزقنا اتّباعه وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادِك الصالحين.

ميزة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم:

 أيها الإخوة المؤمنون، لازلنا في القرآن الكريم، ولكنْ في طريقة جديدة ؛ إنَّها التـفسير الموضوعي، والتـفسير الموضوعي: أنْ تَتَتَبَّعَ موضوعًا واحدًا في القرآن كلّه. هذا نَمَطٌ يُعطيكَ شُمولاً واتِّساعًا في ملاحظة موضوعٍ ما، ورَدَ في القرآن الكريم.

 

الحب ُّغذاء القلب:

 يا أيها الإخوة المؤمنون، في الإنسان جانبٌ عَقْليّ، وفيه جانبٌ نَفْسيّ، وما الإنسان في حقيقته إلاعقلٌ يُدرك، وقلبٌ يحبّ، فإذا نما عقله على حِساب قلبهِ فقد اخْتلَّ توازنُه، وإذا نما قلبه على حساب عقلهِ، فقد اخْتلَّ توازنه. لا بدّ من أنْ ينْمُوَ القلب والعقل معًا، والعقل غذاؤُه العلم والقلب غذاؤُه الحبّ.

محبتك لله.. شطر الإيمان:

 لذلك: ألا لا إيمانَ لمَنْ لا محبّة له

 

 قال تعالى:

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ُ﴾

( سورة المائدة – آية 54)

 قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

( سورة البقرة – آية 165 )

(( لن تؤمنوا حتى تحابوا ))

(من حديث مرفوع صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، قال فيه الذهبي: صحيح، أخرجه الترمذي، والحاكم في مستدركه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه )

(( لا يؤمنُ أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده، وولده والناس أجمعين ))

( حديث صحيح مرفوع أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه)

 آياتٌ كثيرة، وأحاديثُ كثيرة، لا مجال لاسْتِقصائها، تؤكِّدُ أنّ الحبّ شطرُ الإيمان.
 الإيمان قناعةٌ وانْفِعال. الإيمان إدراكٌ وتأثُّر. لذلك ؛ أصحابُ النبي عليهم رِضوان الله تعالى ؛ إن الذي أعلى مقامهم، والذي جعلهم يستحقّون رِضوان الله تعالى ؛ أنَّهم أحبُّوا الله تعالى

 

الأصلُ أن تحبَّ اللهَ تعالى:

 يا أيها الإخوة الأكارم، الأصل أن تحبَّ الله تعالى، فالكون كلُّه مُسخّر من أجلك.
 أحبُّوا الله لما يغْذوكم به من نعَمه. الكون كلّه مُسخّر لك: أنت من نِعَم الله وُجوداً، واسْتِمداداً، واسْتِرشاداً.
 أسْبَغَ الله على الإنسان نعمة الإيجاد، وأسْبَغَ عليه نعمة الإمداد، وأسْبَغَ عليه نعمة الإرشاد، فالكون كلُّه ينطقُ بنعَمه.
 بقيَ أنْ يُحبَّـَك الله تعالى.. وموضوع الخطبة اليوم: " أن يحبّك الله عز وجل ".
 أنْ تُحبّه ؛ هذا هو الأصْل، لأنّك نعْمةٌ من نِعَمِ الله ؛ في وُجودك، وفي اسْتِمداد عناصر وُجودك، وفي هدايتك.. بقيَ عليك أن يحبّك الله تعالى، لأنّ الله عز وجل يقول:

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ُ﴾

( سورة المائدة – آية 54)

 قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ﴾

( سورة التوبة – آية 24

 أيْ انْتَظـروا.. الطريق إلى الله ليْسَتْ سالكة ما دام في الدنيا شيءٌ تحبّه أكثر من الله عز وجل.

 قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

( سورة التوبة – آية 24 )

 هذه كلّها مقدّمات، وبيت القصيد:

كيف يحبك الله عزّ وجلّ ؟

 أيها الإخوة الأكارم، أيّها الإخوة الأحباب:
 الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ذكرَ ثماني آيات تبيّنُ على وَجْه الوُضوح والقطْع ؛ مَنِ الذين يحبّهم الله عز وجل ؟ سنشرح بعضها..

 

ثماني صفات يحبها الله:

 ما عليك إلا أن تفْعلَ ما يحبُّ الله حتى تنالَ حبَّ الله عز وجل.

 

 يقول الله عز وجل:

﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 195 )

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 222 )

﴿ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 222 )

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾

( سورة آل عمران – آية 76 )

﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾

( سورة آل عمران – آية 146 )

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

( سورة آل عمران – آية159)

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾

( سورة المائدة – آية 42)

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾

( سورة الصف – آية 4 )

 ثمانيَةُ أبوابٍ تدخل منها إلى محبّة الله لك: الباب الأول:

1- { إن الله يحبُّ المحسنين }:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 195 )

 أن تكون محْسنًا، والإحسان ـ أيّها الإخوة ـ كلمةٌ مطلقة، إذا ذُكِرَت وأُطلقَتْ انْصرَفَتْ إلى كلّ شيء:
 إذا أحْسنْتَ عملَكَ فقد شملَك هذا الباب، إذا أحْسنْتَ علاقتك بِزَوجتك فقد شملَك هذا الباب، إذا أحسنْتَ إلى جيرانك فقد شملَك هذا الباب.

 الإحسان في كلّ شيء:

(( إنّ الله كتبَ الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحْسِنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيُحِدَّ أحدكم شفْرته، ولْيُرِحْ ذبيحته ))

 حديث صحيح مرفوع أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
 يجبُ أن تكون محسنًا، في البيت، في الطريق، إن رأيْتَ حاجةً مؤْذِيَةً ؛ أَمِطِ الأذى عن الطريق، مُرْ بالمعروف، اِنْهَ عن المنْكر، أصلِح بين اثنَيْن، أصلِح بين أخَوَين، أصلح بين زوْجَين..
 يجبُ أن تكون محْسنًا في بيتك، وفي الطريق، وفي عملك، وفي مهنتك، وفي حرْفتك وفي معملِك، وفي دكّانك، وفي تجارتك، وفي وظيفتك.. في كلّ المجالات، وفي كلّ الأزمان، وفي كلّ الأمْكنة، وفي كلّ النشاطات..
 يجبُ أن تكون مُحسنًا في معاملة الإنسان..وحتى في معاملة الحيوان الذي يستحقّ القتل يجبُ أن تقتله بطريقةٍ لا تعذّبه بها..
 هذا هو الإحسان: إتقان العمل من الإحسان، وحُسن الجوار من الإحسان، الأداء الصحيح من الإحسان، صِدْق الوعد من الإحسان..

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 195 )

 فإذا أردْت أن يحبّك الله عز وجل ؛ فكُنْ محسنًا، وإذا أحْسنْتَ شعرْتَ أنّ الله تعالى يحبّك.

مظاهر حبّ الله لك:

 وحُبّ الله لك يتجلّى بِمَظاهر كثيرة، من هذه المظاهر: أنّك تطمئِنّ، أو أنّ السكينة تتنزّل على قلبك..
 من هذه المظاهر أن يحبّك الناسُ جميعًا إذا أحبَّك الله ألقى حبّك في قلوب الناس، قال تعالى:

 

﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾

 

( سورة طه – آية 39 )

الإحسان.. في كل شيء:

 يا أيها الإخوة المؤمنون، الإحْسان في كلّ شيء، ولا سيما في المِهَن، في الأعمال، في المواعيد، وفي إتقان الصَّنْعة.. في النُّصْح، وفي عدم الغشّ، في عدم الكذب، في عدم التدليس، في عدم الاحتكار، في عدم الإيذاء.. باب الإحسان واسعٌ جدّاً، بل إنّ هناك مقاماً اسمُه ( مقام الإحسان )، يأتي بعد ( مقام الإسلام )، وبعد ( مقام الإيمان ).

 

 والإحسان في تعريف النبي عليه الصلاة والسلام:

(( أنْ تعبدَ الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك ))

(من حديث صحيح،أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)

 هذا هو الإحسان.. لذلك ؛ أصحاب الحِرَف ؛ إذا أحسنوا جذبوا الناس إلى دينهم وهم لا يشعرون، أصحاب الأعمال إذا أتقنوا ؛ والأطبّاء إذا نصحوا ؛ والمحامون إذا صدقوا ؛ المهندسون إذا أخْلصوا ؛ المدرِّسون إذا تعبوا ؛ أصحاب الحِرَف ؛ التّجارـ وإنّ أطْيَبَ الكسْب كسْبُ التّجارـ الذين إذا حدّثوا لمْ يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائْتمنوا لم يخونوا، وإذا باعوا لمْ يُطْروا، وإذا اشْتَروا لم يذمّوا، وإذا كان عليهم لمْ يُمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسِّروا هكذا الإحسان، فالقضيّة مقنّنة..

مَنْ لا يقبل الإحسان، يستعاذ منه:

 هناك أشخاصٌ لا تعلمُ كيف السبيل إليهم، تُحسِن إليهم ؛ لا يقبلون إحسانك..
 كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام حين قال:

(( ثلاثة من العواقر: إمام ؛ إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، وجار السوء ؛ إن رأى خيراً دفنه، وإن شراً أذاعه، وامرأة ؛ إن حضرت آذتك، وإن غبت عنها خانتك ))

((حديث مرفوع، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن فضالة بن عبيد، وفيه محمد بن عصام بن يزيد، ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات))

 ولكنّ حضرة الله عز وجل، والذات الكاملة، وضعَ أبواباً مفتَّحةً لِمَحَبَّته، وضعَ سُبلاً سالكةً إليه، وضعَ قوانين واضحةً في التعامل معه، قال تعالى:

﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 195 )

كيف يكون الإحسان:

 يكفي أن تحسن إلى أهلك، إلى أولادك، إلى جيرانك، إلى أقربائك، إلى زملائك، إلى مَن تتعاملُ معهم، مِمَّن هم دونك، إلى من تتعاملُ معهم، ممن هم فوقك، إلى كلّ إنسان، إلى كلّ مخلوق، إلى كلّ إنسانٍ كائنًا من كان..

(( من غشّنا فليس منَّا ))

 من حديث صحيح مرفوع، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عته وهناك حديث:

(( من غشَّ فليس مِنَّا ))

 حديث مرفوع، إسناده ضعيف، وقد صح معنى متنه، أخرجه مسدد بن مسرهد في مسنده، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه.
 كائنًا من كان ( فليس مِنَّا )..
 إذا أحسنْت إلى المخلوقات جميعاً، إذا أحسنْتَ إلى حيوانٍ يستحقّ أن تقتله، إيّاك أن تعذّبه، عندئذٍ دخلْتَ في باب حبّ الله عز وجل لك.

 

 الباب الثاني:

2- { إن الله يحبُّ التوابين }:

 شيءٌ آخر..

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 222 )

 المؤمن مُذْنبٌ توّاب..

(( المؤمن واهٍ راقع ))

 (من حديث مرفوع، أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط والبزار عن جابر ابن عبد الله، وقال الطبراني: فيه سعيد ابن خالد الخزاعي وهو ضعيف، ومعنى واه مذنب ومعنى راقع تائب)
 والله ُأفرحُ بتوبة عبده من الضالّ الواجِد، ومن العقيم الوالِد، والظمآن الوارد.
 التوبة تعني النّدم، والتوبة تعني تجديد العهْد مع الله تعالى..
 التوبة تعني أنّك تحبّ الله عز وجل، لا صبْرَ لك على جفوته، لا صبر لك مع القطيعة معه، لا صبْر لك عن البعْد عنه، لا صبْر لك على أن تفْعَلَ شيئًا لا يُرضيه..
 من هو التوّاب ؟ ـ " التواب " صيغة مبالغة لاسم الفاعل، فرْقٌ بين التائب والتوّاب، إذا تاب الإنسانُ مرَّةً، فهو تائب، أما كلّما شعر أنّه ابتعد، كلّما شعر أنّه انحرف، كلّما شعر أنّه أخطأ، كلّما شعر أنّه فعل شيئًا لا يرضي الله بادر إلى التوبة، أسْرع إلى التوبة كان كثير التوبة عددًا ونوْعًا، فهو تواب ـ { إنّ الله يحبّ التوابين }..

 

(( إنّ الله يقبل توبة عبده ما لمْ يغرْغرْ))

(من حديث صحيح الإسناد مرفوع أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما)

اب التوبة مفتوح:

 قال تعالى:

 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

 

( سورة الزمر – آية53 )

(( يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتـك بقرابها مغفرةً ))

 من حديث قدسي حسن مرفوع، أخرجه الترمذي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
 إذا قال العبد: يا رب، وهو راكع، قال الله تعالى: لبَّيْك يا عبدي.. إذا قال: يا رب وهو ساجد، قال الله تعالى: لبّيك يا عبدي.. إذا قال: يا رب، وهو عاصٍ، قال الله تعالى: لبّيك ثمّ لبّيك ثمّ لبّيك.
 أيها الإخوة الأكارم، إذا كنتَ كثير التوبة ؛ كلّما وقعْتَ فيما لا يرضيه بادرْت إلى السُّجود، ومرَّغْت جبهتك في عتبة بيته الكريم، وعاهدْته على الإقلاع عن هذا الذّنْب ؛ فأنت المؤمن.
 لاحظوا أنّ التوابين جمْع توّاب، والتواب كثير التوبة، والمؤمن مذنبٌ توّاب، و

((المؤمن واهٍ راقع ))

التوبة النصوح:

 ولكنّ بعض العلماء أشاروا إلى أنّ التوبة من الذّنْب نفسِهِ ؛ شيءٌ آخر..
 كلّما وقعْت في شيءٍ لا يرضي الله تعالى تُبْتَ منه.. أما الذي يقعُ في المعصيَة ويتوب منها، ويُعيدها ثانيَةً، ويتوب منها.. لعلّه يشعر أنّه ليس جادًّا في توبته، لذلك ربّنا عز وجل يقول:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ﴾

( سورة التحريم – آية 8 )

 التوبة النصوح: التي لا عوْدَةَ إلى الذّنب بعدها.

 الباب الثالث:

3- { ويحبُّ المتطهرين }:

 أيها الإخوة الأكارم،

 

﴿ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

 

( سورة البقرة – آية 222 )

 التّطهُّر: هذه الصّفة مطلقة، فالمؤمن طاهرٌ في جسده. طاهرٌ في ثوبه. طاهر في بيتِه طاهر في قلبه. طاهر في جوارحه..
 متى تكون العين طاهرةً ؟.. إذا نظرتْ إلى آيات الله، وكفّتْ عن محارم الله، إنّها طاهرة..
 متى تكون الأُذُن طاهرةً ؟.. إذا اسْتَمَعَتْ إلى ما يرضي الله، وكفَّت عمّا لا يرضي الله
 متى تكون اليد طاهرة ؟ .. إذا كانتْ محْسنةً، وكفَّتْ عن إيقاع الأذى بالناس..
 متى تكون الرِّجْل طاهرة ؟.. إذا ساقتْك إلى المساجد، وإلى بيوت الله، وإلى إصلاح ذات البَيْن..
 إذًا: طهارة الجوارح أنْ تسْتخدمها فيما أمر الله، وأن تبتعدَ بها عمّا نهى الله تعالى.. إذًا: جوارحك طاهرة ..

(( أن تحفظ الرأس وما وعى.. ))

من حديث حسن مرفوع، أخرجه الترمذي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

 متى تكون أحشـاؤُك طاهرة ؟.. إن لم تأكل مالاً حرامًا، إن لم تأكل طعامًا حرامًا..
 متى يكون لِسـانُك طاهرًا ؟ .. إنْ لم تُنَجِّسْه بالغيبـة، والنميمة، وقول الزور، والسّخريَة، والفحش، وما إلى ذلك..
 متى يكون هذا الأنف طاهرًا ؟.. إذا شممْت به الروائح الزكيّة، فإذا مرَّتْ امرأةٌ متعطِّرة انْصرفْتَ عنها، ولم تتقصَّ أن تشمَّ رائحتها العطِرَة..
 الأنْف له طهارة، والعَين لها طهارة، والأذن لها طهارة، واللّسان له طهارة..
 متى يكون القلب طاهرًا ؟.. إن لم يحمِل الحِقْد والحسَد والغلّ، إن لم يكن فيه ضغينة على المسلمين، إن لم يحْمل ما لا يرضي الله عز وجل..
 يقول الله عز وجل كما ورد في الأثر:

((عبدي طهّرْتَ منْظَرَ الخلْق سِنين، أَفَلاَ طهَّرْت منظري ساعة ؟))

 هذه هي الطهارة، طهارة الجوارح، طهارة الأعضاء، طهارة القلب، طهارة النّفْس، طهارة الجسد، طهارة الثوب..
 ما أرْوَعَ إطلاق القرآن ‍!.. إطلاق القرآن إطلاقٌ شُمولي..

 قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية222 )

النظافة هي الطهارة:

 قد يقولون في المصطلحات الحديثة: فلانٌ نظيف.. يعني: أخلاقُه عالِيَة، يدهُ طاهرة دخلُه مَشروع، موقفُه واضِح، علانيَتُه كَسَريرتِهِ..
 يُعبّرون عن كلّ هذا بِكلمة ( نظيف )..
 فلان نظيف: ليس عنده الْتِواءات، ليس عندهُ ظاهرٌ وباطن، ليس له ما يعلنُه، وما يُبطِنُه..
 فلان نظيف: دخْلُه حلال، يعملُ تحت ضَوء الشمس، لا يعملُ في الخفاء..
 هذه من المصطلحات الحديثة.

 

 قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

( سورة البقرة – آية 222 )

 كُنْ طاهرًا يحبّك الله عز وجل

الصلاة تطهّرك:

 والصلاة طَهُور..
 إذا أقبلْت على الله عز وجل، إذا اتَّصلْت به طهَّرَ قلبكَ مِمَّا سواه، طهَّرَ جوارحك عن معاصيه،

 قال تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

( سورة يوسف – آية33 )

 الباب الرابع:

4- { إن الله يحبُّ المتقين }:

 يا أيها الإخوة الأكارم،
 قال تعالى:

 

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾

 

( سورة آل عمران – آية 76 )

 من هو المتقي ؟.. هذا الذي يتقي غضَبَ الله تعالى، يتقي عقابَ الله تعالى، يتقي معصيَة الله تعالى، يتقي أن يخالف أمْرَ الله تعالى، يتقي أن يقع فيما لا يرضي الله تعالى، يتقي أن يكون على حالٍ لا يحبّها الله تعالى..
 المتقي هو الذي يتقي ما نهى الله عنه..
 إذًا: المؤمن الحقّ وقَّافٌ عند كلام الله.. يسألُ دائماً هذا السؤال: " ما حكم الله في هذا الموضوع ؟ "، " ما حكم الشرع في هذا ؟ "، " أَمُباحٌ هو ؟ أم واجبٌ ؟ أم حرامٌ ؟ أم مندوبٌ ؟ أم مكروهٌ ؟ "..
 دائمًا وأبدًا.. في كلّ حركاته، وفي كلّ سكناته، وفي كلّ نشاطاته ؛ يسأل هذا السؤال المستمرّ: " ما حكم الله في هذا الموضوع ؟ "..لأنّه يتمنى أن يتقيَ الله، أن يتقيَ غضبه، أن يتقيَ عقابه، أن يتقيَ النار، أن يتقيَ الجَفْوَة مع الله عز وجل، أن يتقيَ البعْد، أن يتقيَ اللّعْنة.

 الباب الخامس:

5- { والله يحبُّ الصابرين }:

 يا أيها الإخوة المؤمنون،

﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾

( سورة آل عمران – آية 146 )

 من هو الصابر ؟.. هو الذي عرف الله عز وجل.. صبَرَ على طاعة الله، وصبَر عن معصِيَة الله، وصبَر على أمر الله التكويني..
 أمرَكَ أن تصلِّيَ الفجْر.. صبرْتَ على ترك متْعَةِ النَّوْم، صبرْتَ على ترك لذّة الفراش في الشّتاء..
 أمرَكَ أن تكفّ لسانك عن الغيبة.. القصّة ممْتعة جدّاً، وإذا تلَوْتها على مَنْ حولكَ دبَّ في قلوبهم السّرور، وكنت ظريفاً أمامهم.. لكنّ الله نهاك عن الغيبة، فصبرْت..
 الصّبْر على طاعة الله تعالى، والصّبْر عن معصيَة الله تعالى..
 واختار الله لك أن تنْجبَ البنات فقط.. فصبرْت على أمر الله التكويني.. اختار الله لك أن تكون من أصحاب الدّخْل المحدود.. صبرْت على أمره التكويني.. ألمَّتْ بك ملِمَّة.. صبرْتَ عليها..

ثلاث معاني للصّبر:

 صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على فِعْل الله تعالى..
 قدَّر عليك كذا وكذا..

(( وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنّي فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قلْ: قدَّر الله وما شـاء فعل، فإنّ " لو" تفتحُ عمل الشيطان ))

( من حديث صحيح مرفوع، أخرجه مسلم، عن أبي هريرة )

 يجبُ أن تصبر في حقول ثلاثة، وفي قنواتٍ ثلاثة، في مجالات ثلاثة: أن تصبِرَ على تطبيق أمْر الله، وأن تصبر على اجتناب ما نهى الله عنه، وأن تصبر على فِعْل الله عز وجل فيك، وقضائه وقدره، نصيبك من الله عز وجل.. فإذا صبرْت فأنت مِمَّن يعرف الله تعالى.

 

الصبر نصف الإيمان:

   أيها الإخوة،

 

(( الصبر نصف الإيمان ))

( من حديث صحيح الإسناد موقوف، أخرجه الحاكم في مستدركه، عن عبد الله ابن مسعود، رضي الله عنه )

 بل ؛ إنّ الإيمان كلّه ـ كما ورد في الأثر ـ هو الصّبْر.
 فكلّ شيءٍ كلَّفك الله به ؛ ما سُمِّيَ تكليفًا إلا لأنّه ذو كُلفة، يعني تحتاجُ إلى جهْدٍ كي تفعله، لأنّ الله عز وجل ركَّبَك على جِبِلَّة خاصّة، جِبِلَّتك أن تأخذ المال، وأمرَكَ أن تعطيَ المال.. إذًا: حينما تنفق زكاة مالك فأنت صابِر على حبّك للمال..
 أوْدَعَ في قلبك حبّ النّساء، وأمرك أن تغضَّ البصرَ عمَّن لا تحلّ لك.. إذًا: غضُّ البصرِ صبرٌ..
 جعلك إنسانًا اجتماعيًّا، وأمرك أن تكفّ لسانك عن أعراض الناس، وعن قصصِهِم، وعمّا لا يعنيك..
 فإذا دقَّـقْت وجدْت أن كلّ أمْرِ الله ونهْيِهِ يحتاجُ إلى صبر.. لذلك ؛ الإيمان هو الصَّبْر
 والناس رجلان: رجلٌ انْساقَ وراء شهوته، ولم يُطِع ربَّه، ورجلٌ صابر.. يعني وضع نفسه تحت قدمِهِ.. وضَعَ حظوظ نفسهِ تحت قدمه، وصبر على تنفيذ أمْر الله، وعلى ترْك ما نهى الله عنه، وعلى الصّبْر على حُكْم الله تعالى.. { إنّ الله يحبّ الصابرين }..

لا يصبر إلا ذو عقل ورشد:

 الطّفل الصغير ؛ إذا جلس علــى كرسيّ طبيب الأسنان، وأراد هذا الطبيب أن يعطِيَه مخدّراً كي يقْلعَ ضرْسَه المؤلم.. هذا الطّفل الصغير لِضَعف إدراكه، وضعف معرفته بِحِكمة الطبيب، وبأنّ الراحة عنده ؛ يمنعه من أن يعطِيَه هذا المخدّر.. يصْرخ.. يبكي.. قد يشْتم.. قد يمسك يد الطبيب..
 ولكنّ الراشد العاقل البالغ ؛ إذا جلس على كرسيّ الطبيب وتألَّمَ ألماً شديداً ؛ إنَّه يسْكت، ويصبر.. لِيَقينِهِ أنّ فعل الطبيب لِمَصلحتِهِ..
 إذاً.. من هو الصابـِر ؟.. هو العالِم..
 إذا علمْتَ أنّ كلّ ما يسوق الله لك من شيءٍ لا يُعجبُك ؛ هو في الحقيقة لمصْلحتك، وأنّ هذا الذي ساقه إليك ما هو إلا نِعمةٌ باطنة ؛ صبرْتَ على أمر الله تعالى.

الشدائد رحمة للعباد:

 إذا رأيْت الله طبيبًا.. كما في الأثر:

 

(( إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ))

 إن رأيْت أنّ الله يُطَبِّبُ عباده العُصاة.. يسوق لهـم من الشدائد ما يدفعهم إلى بابه، ما يرْدعهم عن معصيَته، ما يسْمو بنُفوسهم، ما يرفعُ هِمَمهُم..
 إذا أيْقنْت أنّ الله طبيب، وأنّه حبيب ؛ صبرْت على أمر الله لذلك ؛ جاء قوله تعالى مخاطبًا النبي عليه الصلاة والسلام:

 

 

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾

( سورة الطور – آية 48 )

 فإذا ساق الله للإنسان بعض الشدّة، قال تعالى:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾

( سورة البقرة – 155-156)

 ورد في بعض الآثار:
 أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على بعض أصحابه، وكان مريضًا، قال: يا رسول الله: ادْع اللهَ أن يرْحمني، فاسْتجاب النبي، وقال: " يا ربّ ارحمه "، فَوَقعَ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم:

(( أنْ يا عبدي كيف أرْحمه مِمَّا أنا به أرحمه، هذه رحمتي، وعِزَّتي وجلالي لا أقبضُ عبدي المؤمن وأنا أحبّ أن أرحمه إلا ابتليته بكلّ سيئةٍ كان عملها ؛ سُقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه أو مصيبةً في ماله أو ولده، حتى أبلغَ منه مثل الذرّ، فإذا بقيَ عليه شيءٌ شدَّدْتُ عليه سكرات الموت، حتى يلقاني كيوم ولدتْه أمّه ))

 .. هذا هو الصّبْر..

 

الصبر على الابتلاء سببٌ للعوض:

 الصّبْر: أن تؤمن أنّ الله تعالى طبيب، وأنّه يُعالج، وأنّه يرْحم، وأنَّه يأخذ ليُعطي.. إذا أخذ بعض صِحَّتك ؛ فليُعطيك إيمانًا عظيمًا،

(( يا ابن آدم، مرضْتُ فلم تعُدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربّ العالمين ؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعُده ؟، أما علمتَ أنّك لو عُدْته لوجدتني عنده ؟ ))

( من حديث قدسي صحيح مرفوع، أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)

 إذا أخذ منك بعض صحّتك فلِيُعَوِّضَكَ أضعافًا مضاعفة، تجلِّياتٍ، ومعرفةً، ورقيّاً، ومرتبةً، ومقْعَدَ صِدْقٍ عندهُ.. لذلك لا تقل: الله ضارّ.. مِن أسمائه " الضارّ ".. هو الضارّ النافع، إنّه معطي ومانع، ومانعٌ لِيُعطي.. إنَّه الرافع والخافض، يخفض لِيَرفع.. والمعزّ المذِلّ يذلّ ليُعِزّ.. يأخذ ليُعطي.. قد جعلها الله دار بلْوى - الدنيا - وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لِعَطاء الآخرة سبباً، وجَعَل عطاء الآخرة من بلْوى الدنيا عِوَضاً، فيأخذ ليُعطي، ويبتلي لِيَجزي..
 هذا الذي شدّد عليه أبوه وضبط حركاته وسكناته، وألْزمه ُأن يدرس حتى صار في مرتبةٍ عالِيَةٍ جدّاً ؛ ألا يحمُد هذا الشاب الذي تسلَّم أعلى مرتبةٍ في الحياة الدنيا لِوَالِده الذي دفعه للدراسة دفْعاً ؟ بلى

 الباب السادس:

6- { والله يحبُّ المقسطين }:

 أيها الإخوة المؤمنون،

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾

( سورة المائدة – آية 42)

 

 إذا أنصفْتَ مع الناس، إذا عاملْت الناس كما تحبّ أن يُعاملوك، إذا عاملْت طفلاً في متْجرك كما تعامل ولدك.. فأنت مؤمن..
 أما إذا عاملْت ولدك بِمُنتهى الرحمة والرأفة، وعاملْتَ هذا الطّفل الغريب بِمُنتهى القَسْوَة والاسْتِغلال فلسْتَ مؤمنًا..
 يجبُ أن تكون منصفًا..
 يجب أن تعاملَ زوجة ابنك كما تحبّ أن يُعامل صهرك ابنتك..لا أن تقيسَ الناس بِمِقياسَيْن.. { إنّ الله يحبّ المقسطين }.. عامِل الناس كما تحبّ أن يُعاملوك..
 إذا كنت وراء طاولة، وجاءك مراجع.. تخيل أنك مكانه..
 أَتُحِبُّ أن تُماطَل ؟.. أتُحِبّ أن تُعَقَّد عليك الأمور؟.. أتُحبّ أن تُهوَّن عليك الأمور ؟.. أتُحبّ أن تُبتزّ ؟.. إذا كنت لا تحبّ كلّ ذلك فإيّاك أن تفعل ذلك مع الناس !..
 إذا كنت شارياً أتُحبّ أن تُغشّ ؟.. أتُحـبّ أن يُدلَّسَ عليك ؟..
 إذا كنت بائعاً ؛ لا تغشّ ولا تدلّسْ..
 هذا أرْوَع مِقياسٍ.. مِقياسٌ لا يخيب.. " عامل الناس كما تحبّ أن يُعاملوك "

 وفي الحديث: أن فتى من قريش أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

(( يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مه مه، فقال: " ادنه "، فدنا منه قريباً فقال: " أتحبه لأمك " ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم "، قال: " أفتحبه لابنتك " ؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: " ولا الناس يحبونه لبناتهم "، قال: " أفتحبه لأختك " ؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال: " ولا الناس يحبونه لأخواتهم "، قال: " أتحبه لعمتك " ؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: " ولا الناس يحبونه لعماتهم "، قال: " أتحبه لخالتك " ؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: " ولا الناس يحبونه لخالاتهم "، قال: فوضع يده عليه وقال: " اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه "،قال: فلم يكن بعدُ ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ))

(حديث مرفوع رجاله رجال الصحيح،أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والإمام أحمد في مسنده،عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه)

 يا أيها الإخوة الأكارم، هذا المبدأ البسيط: " عامِل الناس كما تحبّ أن يُعاملوك " ؛ لو طبَّقناه.. والله الذي لا إله إلا هو لأُغلق قصر العدل نهائيّاً.. تنتهي كلّ القضايا.. مِقياسٌ رائع: " عامِل الناس كما تحبّ أن يُعاملوك "..
 هذا المُقْسِط، هذا الذي يحبّه الله عز وجل.. { إنّ الله يحبّ المقسطين }..

القاسط غير المقسط:

 انتبهوا.. القاسِط هو الظالم، قال تعالى:

 

﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبا ﴾

 

( سورة الجن – آية15 )

 وأما المُقْسِط.. فهو العادِل، قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾

( سورة المائدة – آية 42 )

ما لا يحبه الله عز وجل:

 

 أيها الإخوة المؤمنون، قبل أن أُنْهِيَ هذا الموضوع ؛ أتْلو على مسامعِكم ما الذي لا يحبّه الله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾

 

( سورة البقرة – آية 190)

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾

( سورة البقرة – آية 205)

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾

( سورة آل عمران – آية 32 )

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾

( سورة آل عمران – آية 57 )

 قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورا ً﴾

( سورة النساء – آية 36 )

 قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ﴾

( سورة النساء – آية 107 )

 قال تعالى:

﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾

( سورة النساء – آية 148 )

 قال تعالى:

﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾

( سورة الأعراف – آية 31 )

 قال تعالى:

﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾

( سورة النحل – آية 23 )

 قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾

( سورة الأنفال – آية 58 )

 والله لا يحـبّ الفرحين في الدنيا.

قوانين.. لتفوز بمحبة الله لك:

 هذه قوانين.. إذا فعلْت ما يحبّ، وتركْت ما لا يحبّ ؛ أحبّك الله، وإذا أحبّك الله أحبّك كلّ شيء..
 إذا أحبّك الله ملكْتَ الدنيا وما فيها.. أنت ملكٌ من مُلوك الآخرة..
 إذا كان الله في عَلْيائِهِ يحبّك فأين أنت ؟.. أنت في أعلى مرتبة.. أعلى مرتبة ينالها الإنسان أن يحبّه الله..
 ثماني حالات يحبّها الله تعالى، واثنتا عشرة حالة لا يحبّها الله تعالى.. اجمعها، واجْعَلها في جَيْبِك، وكلّما أردْت أن تفعلَ شيئًا راجِع هذه القائمة.. أيُحِبّ الله أن أُدلِّسَ على الناس؟.. أن أكون ظالمًا لهم ؟.. أن أكون خوَّانًا لهم ؟.. أن أغشّهم ؟.. لا يحبّ ذلك.

 

وأخيراً:

 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَنَ عليكم، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذْ حذرنا..

 

(( الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله ))

 حديث صحيح مرفوع، ولم يخرجاه، أخرجه الحاكم في مستدركه، عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
 والحمد لله رب العالمين.

 

* * *

 الخطبة الثانية:
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم..
 اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تدبّر القرآن:

 أيها الإخوة الأكارم، قراءة القرآن مع التدبّر، هذا الذي يريده الله مِنَّا..
 يعني أن تقرأ هذه الآيات، وأن توازن بينها وبين ما تفعل في مهنتك، وفي حِرْفتك، وفي بيتِك، مع زوجتك..
 هذا الذي يفصِل الدِّين عن الحياة ؛ إنسانٌ يجهل الدِّين.. الدِّين هو الحياة..
 الدِّين لا يتبدَّى في صلاتك فحَسْب، ولكنّه يتبدَّى في معاملاتك..
 هذه الآيات أين أنت منها ؟.. هل أنت مُتَمثِّلٌ لما يحبّ الله عز وجل ؟.. هل أنت تاركٌ لما لا يحبّ ؟..

كن من أصحاب النفس اللوامة:

 اِسأل نفسكَ، وحاسب نفسك، دائمًا كُنْ مُتَّهِمًا لنفسِكَ، قال تعالى:

 

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (*) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

 

( سورة القيامة – 1-2 )

 من هي النفس اللَّوامة ؟..
 هناك النفس الأمارة بالسوء، وهناك النّفسُ المطمئِنّة، وهناك النفس اللوامة.
 الله عز وجل أثنى على النفس اللّوامة.. هذه التي تُحاسبُ ذاتها.. دائماً في سُؤالٍ وجواب.. دائماً في مماحكة دائماً في حِسابٍ دقيق..
 مَن حاسبَ نفسه في الدنيا حِساباً عسيراً كان حِسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسبَ نفسه في الدنيا حِساباً يسيراً، كان حسابُه يوم القيامة عسيراًَ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا..

حاسب نفسك:

 هذه الآيات، وهذا موضوع هذا الأسبوع..
 كلّما فعلْت فِعلاً، كلّما أقْدَمْتَ على شيء، كلّما تكلّمْت بِكَلمة، اسأل نفسك: هل فيها كذب ؟.. هل فيها غشّ ؟.. هل فيها تدليس ؟.. هل فيها خِيانة؟.. هل فيها نُصْح؟.. حتى يحبّك الله عز وجل، لأنّه إذا أحبّك أحبّك كلّ شيء، من هاب الله هابهُ كلّ شيء، ومن لم يهب الله أهابه الله من كلّ شيء.

 

الدعاء

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيْت، وتولَّنا فيمن تولّيْت، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت، فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ من واليْت، ولا يعزّ من عادَيْت، تباركْت ربّنا وتعاليْت، ولك الحمد على ما قضيْت.. نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك..
 اللهمّ أعنا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللّسان..
 اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنـا إليـك..
 اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضِنا وارضَ عنـَّا..
 أصْلح لنا ديننـا الذي هو عصمة أمرنا، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربّ العالمين..
 اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك..
 اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين..
 اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السَّلْب بعد العطاء، يا أكرم الأكرمين..
 نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذلّ إلا لك، ومن الفقر إلا إليك..
 اللهمّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحقّ والدِّين، وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى، إنّك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور