وضع داكن
28-03-2024
Logo
الحلقة : 2 - التعاون.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

  يسرنا أن نلتقي مع الأستاذ محمد راتب النابلسي ، المحاضر في جامعة دمشق كلية التربية ، وخطيب جامع النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم .
 الحديث في شهر رمضان المبارك مهما كان نبعه ، ومهما كان عنوانه ، له وضع خاص ، وله نكهةٌ زكية ، والتعاون في الأصل واجب ديني وضرورة حياتية أيضاً ، فما بين الواجب الديني التكليف والضرورة الحياتية في تكون ذات الإنسان ، إذ أنه لا يستطيع أن يقوم بأعماله منفرداً ، ولا يستطيع أن يحقق لحياته الحاجات فيها منفرداً أيضاً ، وهنا من كمال الدين أن جعل ضرورة الحياة ضمن تكليف الإنسان ، إذا تحدثنا في هذا الموضوع فماذا يمكن أن نقول؟

التكليف يناقض الطبع ويتوافق مع الفطرة :

 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 أستاذ عدنان في الإنسان طبع ، وفي الإنسان فطرة ، ومعه تكليف ، فشاءت حكمة الله أن يكون التكليف مناقضاً للطبع ، متوافقاً مع الفطرة ، فالإنسان جسم يميل إلى النوم والتكليف يأمره أن يصلي الفجر ، الإنسان يميل طبعاً إلى أن يأخذ المال التكليف يأمره أن يدفع المال ، الإنسان طبعاً فردي والتكليف يأمره أن يكون جماعياً متعاوناً ، فالإنسان يتعاون مع أخوته ومع أبناء مجتمعه بقدر انصياعه لأمر الله ، فإذا تفلت من أمر الله صار فردياً ، أنانياً ، فإذا أراد أن يكون مطيعاً لله عز وجل يتعاون ، لأن كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب طبعاً ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك ، هناك أمر إباحة ، قال تعالى :

﴿ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾

[ سورة البقرة : 187 ]

 هناك أمر تهديد ، قال تعالى :

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾

[ سورة الكهف : 29 ]

 هذا أمر تهديد ، هناك أمر ندب ، قال تعالى :

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة النور : 32 ]

 وهناك أمر وجوب ، فكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك ، الآية الكريمة :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

[ سورة المائدة : 1-2 ]

 أمر إلهي ، يستفاد من هذه الآية أن الإنسان من الممكن أن يتعاون على الإثم والعدوان ، لذلك هناك أمر وهناك نهي .

الفرق بين الأمر التكويني والأمر التكليفي :

 قال علماء التفسير : البر صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، ينبغي أن نتعاون على صلاح دنيانا ، تأمين حاجاتنا ، تأمين مساكن شبابنا ، تأمين مستقبل أبنائنا ، تأمين حياتنا بشكل مريح ، وأن نتعاون على صلاح آخرتنا ، فكل أمر في القرآن يقتضي الوجوب ، الآن علاقة التكليف بالفطرة الإنسان إذا صلى الفجر في وقته ، وغض بصره ، وأنفق من ماله ، وتعاون مع أخوته ترتاح نفسه لأنها حققت الهدف الذي من أجله خلقت ، على كل التعاون أمر تكليفي ، ومعنى الأمر التكليفي أن بإمكان الإنسان ألا يفعله ، نحن في طريق هناك لوحة : ممنوع المرور ، هذه اللوحة أمر تكليفي ، بإمكان الإنسان أن يتجاوز هذا الأمر ، لكن يعاقب ، يدفع الثمن باهظاً ، أما حينما يوضع أمام الطريق كتل اسمنتية ارتفاعها خمسة أمتار ، مسلحة على عرض الطريق ، هذا اسمه أمر تكويني ، فالأمر التكليفي بإمكانك أن تفعله أو لا تفعله ، أما الأمر التكويني فيمنعك من أن تخرقه ، كل أوامر الله أوامر تكليفية ، لأننا مخيرون ، وهذا التخيير وذاك التكليف يثمن عملنا ، أما الله عز وجل فقادر أن يحمل عباده على طاعته قسراً ، هذه القسرية في طاعة العباد لا قيمة لها ولا ترقى بهم ولا تسعدهم أبداً ، لذلك شاءت حكمة الله أن تكون أوامره تكليفية نفعلها اختياراً ولا نفعلها اختياراً ، وهذا تشريف للإنسان .

النظام الاجتماعي في النمل هو نظام بأمر الله التكويني لا بأمره التكليفي :

 كل شيء له ثمن ، لكن أحياناً ترى التعاون من أفعال الله لا من أوامره ، هذا يبدو واضحاً في مجتمع النمل ، وهناك بحث طريف عن مجتمع النمل لابد من أن نضعه بين أيدي الأخوة المستمعين .
 النملة أستاذ عدنان حشرة اجتماعية راقية ، موجودة في كل مكان ، وفي كل وقت ، بل إن أنواع النمل تزيد عن تسعة آلاف نوع ، وبعض النمل يحيا حياةً مستقرةً في مساكن محكمة، وبعض النمل يحيا حياة الترحال كالبدو تماماً ، وبعضه يكسب رزقه بجده وسعيه ، وبعضه يكسب رزقه بالغدر والسيطرة ، والنمل حشرةٌ اجتماعية تموت إذا عزلت عن أخواتها ، لو أنك وضعتها في بيت فيه كل الطعام والشراب تموت لأنها حشرةٌ اجتماعية ولو توافر لها غذاء جيد ، ومكان جيد ، وظروف جيدة ، كالإنسان إذا عزلته في مكان بعيد عن الصوت ، والضوء ، والساعة ، والزمن ، والليل ، والنهار ، عشرين يوماً يفقد توازنه العقلي ، والنملة تعلم الإنسان درساً بليغاً في التعاون ، فإذا التقت نملة جائعة بأخرى شبعى تعطي النملة الشبعى النملة الجائعة خلاصات غذائية من جسمها ، ففي جهازها الهضمي جهاز ضخ تطعم به النملة الجائعة ، عندها جهاز ضخ وجهاز مص ، إذا التقت النملة الشبعى بنملة جائعة تعطيها من جهازها الهضمي عن طريق جهاز ضخ فرعي شيئاً من خلاصاتها الغذائية ، فلندقق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( والله ما آمن ، والله ما آمن ، والله ما آمن من بات شبعان وجاره إلى جانبه جائع وهو يعلم ))

 ويتمم هذا الحديث :

(( من لم يتفقد شؤون المسلمين فليس منهم ))

 للنمل ملكة كبيرة الحجم ، مهمتها وضع البيوض ، وإعطاء التوجيهات ، ولها مكان أمين في مساكن النمل ، وهي على اتصال دائم بكل أفراد المملكة ، والنملات العاملات لهن مهمات رائعة ومتنوعة وتكاد لا تصدق ، من مهمات العاملات تربية الصغار ، وهذا يشبه قطاع التعليم عندنا ، وفي النمل عساكر لها حجم أكبر ، ولها رأس صلب كأن عليه خوذة ، وهذا يشبه قطاع الجيش ، مهمته حراسة الملكة ، وحفظ الأمن ، ورد العدوان ، ومن مهمات العاملات تنظيف المساكن والممرات ، ومن مهمات العاملات تربية حشرات تعيش النمل على رحيقها ، وهذا يشبه قطاع مربي الماشية ، النمل يبني المدن ، ويشق الطرقات ، ويحفر الأنفاق ، ويخزن الطعام في مخازن وفي صوامع ، بعض أنواع النمل يقيم الحدائق ، ويزرع النباتات ، وبعض أنواع النمل يقيم حروباً على قبائل أخرى ، ويأخذ الأسرى من ضعاف النمل المهزوم ، ولندقق في قوله تعالى:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 38 ]

 أي على هذه الحالة نستطيع أن نقول : إن للنمل حياةً اجتماعية واسعةً كاملة ، وبشكل ما من الأشكال أن يا أيها الإنسان انظر إلى حياتك ، يجب أن تكون اجتماعياً ، وأن تتعامل مع الآخرين في نطاق التعاون من أجل صلاح الدنيا وصلاح الآخرة .
 ولكن هذا النظام الاجتماعي في النمل هو نظام بأمر الله التكويني لا بأمره التكليفي ، نحن عندنا تقصير في مجتمعاتنا ، الإنسان قد يقصر في عمله ، قد لا يتعاون ، لأن الأمر بالتعاون تكليفي يفعله أو لا يفعله اختياراً ، أما النمل فهكذا صمم مجتمع النمل على أن يكون متعاوناً بأمر تكويني من الله عز وجل ، يقول الله عز وجل :

﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾

[ سورة النمل : 18 ]

 لقد أثبت الله جلّ جلاله من خلال هذه الآية الكلام ونوعاً من المعرفة ، فالنملة مخ صغير ، وخلايا عصبية ، وأعصاب لتقدير المعلومات ، والخرائط كي تهتدي بها إلى مواقع الغذاء ، وإلى أوكارها ، وإن النملة تملك نوعاً من التصرف العقلاني ، وهي من أذكى الحشرات ، وهي ترى بموجات ضوئية لا يراها الإنسان ، ولغة النمل كيميائية لها وظيفتان ؛ التواصل والإنذار، فلو سحقت نملة فإن رائحةً تصدر عنها تستغيث بها النملات ، أو تحذرها من الاقتراب من المجزرة ، ولا تستطيع النملة دخول وكرها إلا إذا بينت كلمة السر ، وللنمل جهاز هضم مدهش ؛ فيه فم ، ومري ، ومعدة ، وأمعاء ، وجهاز مص ، وجهاز ضخ كما تكلمت قبل قليل .
 الحقيقة عندما ينظر الإنسان في خلق الله ينكفئ على نفسه ليقول : أين أنا ؟ هل أديت واجبي ؟ هل أنا متعاون ضمن ما أراده الله تعالى من الأوامر التكليفية ؟ هل أسعى لخير الدنيا والآخرة ؟ لاشك أن في هذا توصيات كثيرة جداً ممكن أن نتحدث عن بعضها .

نص رائع للإمام علي حول النمل :

 الإمام علي كرم الله وجهه له نص رائع حول النمل ، والحقيقة كل شيء خلقه الله له وظيفتان ؛ وظيفة نفعية في الدنيا الغربيون عرفوها معرفةً مدهشة ، ووظيفة تعريفية بالله عز وجل، النبي الكريم رأى هلالاً فقال :

((حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلالَ قَالَ : هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ))

[ أبو داود عن قتادة ]

 خير لنا في الدنيا ، ويرشدنا إلى ربنا ، فالإمام علي كرم الله وجهه وضع يده على المهمة الثانية للمخلوقات فقال رضي الله عنه : انظروا إلى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تُنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على أرضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها ، وتعدها في مستقرها ، تجمع من حرها إلى بردها ، وفي وردها إلى صدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنان ، ولا يحرمها الديان ، ولو في الصفا اليابس وفي الحجر الجامس ، ولو فكرت في مجاري أكلها ، في علوها وسفلها وما في الجوف من شراثيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ، وللقيت من وصفها تعبا ، فتعال الله الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشرك في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر .
 هذا نص الإمام علي كرم الله وجهه .

خاتمة وتوديع :

 الحقيقة كما أوضحتم وبينتم ، ونحن في شهر رمضان المبارك علينا أن ندرك الأوامر التكليفية ، وهي لخيرنا وسعادتنا في الدارين .
 في ختام هذا اللقاء نشكر الأستاذ محمد راتب النابلسي ، المحاضر في جامعة دمشق كلية التربية ، وخطيب جامع النابلسي ، وشكراً .

تحميل النص

إخفاء الصور