وضع داكن
28-03-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 14 - الصحابي عمير بن سعد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أ. جمال: الحديث اليوم عن الصحابي الجليل عمير بن سعد، ولنتابع مع الشيخ محمد راتب النابلسي.
 أ.راتب : بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، سيدنا عُمير بن سعد صحابيٌ جليل، حينما كان غلاماً تجرَّع كأس اليتم والفاقة منذ نعومة أظفاره، فقد مضى أبوه إلى ربه دون أن يترك له مالاً أو معيلاً، لكن أمه ما لبست من أن تزوجت من ثريٍ من أثرياء الأوس، يدعى الجُلاَّس بن سويد، فكفل ابنها عميراً وضمه إليه، وقد لقي عمير من برِّ الجُلاس وحسن رعايته وجميل عطفه ما جعله ينسى أنه يتيم، فأحب عميرٌ الجلاس حب الابن لأبيه، كما أولع الجُلاس بعميرٍ ولع الوالد بولده، وكان كلما نما عميرٌ وشب يزداد الجلاس له حباً وبه إعجاباً، لما كان يرى فيه من أمارت الفطنة والنجابة التي تبدو على كل عملٍ من أعماله، وشمائل الأمانة والصدق التي تظهر في كل تصرفٍ من تصرفاته.
 وقد أسلم عميرٌ وهو صغيرٌ لم يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً، فوجد الإيمان في قلبه الغضٍ مكاناً خالياً فتمكن منه، وألفى الإسلام في نفسه الصافية الشفافة تربةً خصبة فتغلغل في ثناياها، فكان على حداثة سنه لا يتأخر عن صلاةٍ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أمه تغمرها الفرحة كلما رأته ذاهباً إلى المسجد أو ءايباً منه تارتاً مع زوجها وتارة وحده.
أ. جمال: أستاذ راتب أذكر أن في حياة هذا الغلام حدثاً جعلة يتألق في سماء البطولة، حبذا لو أن نلقي الضوء أكثر.
 أ.راتب: الأخ جمال، في السنة التاسعة للهجرة، أعلن الرسول صلوات الله عليه عزمه على غزو الروم في تبوك، وأمر المسلمين أن يستعدوا ويتجهزوا لذلك، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوةً لم يصرِّح بها، وأوهم أنه يريد جهةً غير الجهةٍ التي يقصد إليها، إلا في غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبُعد الشُقَّة وعظم المشقة وقوة العدو ليكون الناس على بينةٍ من أمرهم، فيأخذوا للأمر أُهبته، ويعدوا له عدته، وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل والحر قد اشتد، والثمار قد أينعت، والظلال قد طابت، والنفس قد ركنت إلى التراخي والتكاسل، على الرغم من ذلك كلِّه فقد لبى المسلمون دعوة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأخذوا يتجهَّزون ويستعدون.
 وفي يوم من هذه الأيام التي سبقت رحيل الجيش، عاد الغلام عُمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد، وقد امتلأت نفسه بطائفة مشرقةٍ من صور بزل المسلمين وتضحيتهم، رأها بعينه وسمعها بأذنيه، فقد رأى نساء المهاجرين والأنصار يقبلن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزعن حليهن ويلقونه بين يديه ليجهز بثمنه الجيش الغازي في سبيل الله، وأبصر بعيني رأسه عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتي بجرابٍ فيه ألف دينارٍ ذهباً ويقدمه للنبي عليه الصلاة والسلام، وشهد عبد الرحمن بن عوف يحمل على عاتقه مئتي أوقيةٍ من الذهب ويلقيها بين يدي النبي الكريم، بل إنه رأى رجلاً يعرض فِراشه للبيع ليشترى بثمنه سيفاً يقاتل به في سبيل الله.
 فأخذ عميرٌ يستعيد هذه الصورة الفذة الرائعة، ويعجب من تباطؤ الجلاس عمه عن الاستعداد للرحيل مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، والتأخر عن البذل على الرغم من قدرته ويساره، وكأنما أراد عميرٌ أن يستثير همَّة الجلاس، ويبعث الحمية في نفسه، فأخذ يقصُّ عليه أخبار ما سمع وما رأى، وبخاصةٍ خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه في لوعةٍ أن يضمَّهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله، فردهم النبي عليه الصلاة والسلام لأنه لم يجد من الركائب ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما يبلِّغهم أمنيتهم في الجهاد، ويحقق لهم أشواقهم إلى الاستشهاد.
 لكن الجلاس وهنا بيت القصيد، ما كاد يسمع من عُمير ما سمع حتى أنطلقت من فمه كلمةٌ أطارت صواب الفتى المؤمن، ماذا قال الجلاس ؟ قال: إن كان محمداً صادقاً فيما يدعي من النبوة فنحن شرٌ من الحمير، الحقيقة هذه كلمة الكفر، لقد شُدِه عمير مما سمع، صعق، فما كان يظن أن رجلاً له عقل الجلاس وسنِّه تمدُّ من فمه هذه الكلمة، التي تخرج صاحبها من الإيمان دفعة واحدة، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه، وكما تنطلق الآلات الحاسبة الدقيقة في حساب ما يلقى إليها من المسائل، إنطلق عقل الفتى عُمير بن سعد يفكِّر فيما يجب عليه أن يصنعه، لقد رأى أن في السكوت عن الجلاس والتستر عليه خيانة لله ورسوله، وإضراراً بالإسلام والمسلمين الذي يكيد له المنافقون ويأتمرون به، وأن في إذاعة ما سمعه عقوقاً بالرجل الذي ينزل من نفسه منزلة الوالد، ومجازاةً لإحسانه إليه بالإساءة له، فهو الذي أواه من يتمٍ، وأغناه من فقرٍ، وعوضه من فقد أبيه، وكان على الفتى أن يختار بين أمرين أحلاهما مرُّ، وسرعان ما اختار، ما الذي اختاره ؟
 إلتفت إلى الجلاس وقال: والله يا جلاس ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد بن عبد الله أحب إليَّ منك، ( دقق في كلمة ما كان ) فأنت آسر الناس عندي، وأجلهم يداً علي، ولقد قلت مقالةً إن ذكرتها فضحتك، وإن أخفيتها خُنت أمانتي وأهلكت نفسي وديني، وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت، فكن على بينةٍ من أمرك.
 مضى الفتي عُمير بن سعد إلى المسجد وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما سمع من الجلاس بن سويد، فاستبقاه النبي صلوات الله عليه، وأرسل أحد أصحابه ليدعو له الجُلاس، وما هو إلا قليلٌ حتى جاء الجلاس فحيى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وجلس بين يديه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:

(( ياجلاس ما مقالةٌ سمعها منك عُمير بن سعد، وذكر له ما قال))

 فقال كذب علي يا رسول الله وافترى، فما تفوَّهت بشيءٍ من ذلك، وأخذ الصحابة يُنَقِّلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد، كأنهم يريدون أن يقرأوا على صفحتي وجهيهما، ما يكنُّه صدرهما، وجعلوا يتهامسون، فقال واحدٌ من الذين في قلوبهم مرضٌ: فتىً عاق، أبا إلا أن يسيء إلى من أحسن إليه، وقال آخرون: بل إنه غلامٌ نشأ في طاعة الله، وإن قسمات وجهه لتنطق بصدقه.
 والتفت النبي صلوات الله عليه إلى عمير فرأى وجهه قد إحتقن بالدم، والدموع تتحدر مدراراً من عينيه، فتتساقط على خديه وصدره، وهو يقول: أللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به، أللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به، فانبرى الجلاس وقال: إنما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق، وإن شئت تحالفنا بين يديك، وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئاً مما نقله لك عمير، فما إن انتهى من حلفه، وأخذت عيون الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد، حتى غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم السكينة، فعرف الصحابة أنه الوحي، فلزموا أماكنهم، وسكنت جوارحهم ولاذوا بالصمت وتعلَّقت أبصارهم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهنا ظهر الخوف والوجل على الجُلاس، وبدى التلهُّف والتشوُّف على عُمير، وظل الجميع كذلك حتى سُرِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فتلى قوله تعالى:

 

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا﴾

 

( سورة التوبة: آية " 74 " )

 إرتعد الجُلاس من هول ما سمع، وكاد ينعقد لسانه من الجزع، ثم إلتفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: بل أتوب يا رسول الله، بل أتوب، صدق عميرٌ يا رسول الله وكنت من الكاذبين، إسأل الله أن يقبل توبتي، جعلت فداك يا رسول الله، وهنا توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الفتى عُمير بن سعد، فإذا دموع الفرح تبلل وجهه المشرق بنور الإيمان، فمد النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى أذنه وأمسكها برفقٍ وقال: وفَّت أذنك يا غلام ما سمعت وصدقك ربك، وعاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام وحسن إسلامه.
أ. جمال: السؤال الآن فضيلة الشيخ: كيف كانت علاقة الجلاس مع عمير بعد هذه الحادثة المشهودة ؟
 أ.راتب: لقد عرف الصحابة صلاح حاله مما كان يغدقه على عميرٍ من بر، وقد كان يقول كلما ذُكر عُمير: جزاه الله عني خيراً، فقد أنقذني من الكفر.
 أ. جمال: فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي نقول: رحم الله الصحابي الجليل عُمير بن سعد، لقاؤنا غداً إن شاء الله في حلقةٍ جديدة من برنامج صور من حياة الصحابة، نشكركم، أهلاً بكم ومرحباً.

تحميل النص

إخفاء الصور