وضع داكن
28-03-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 21 - الصحابي أبو عبيدة بن الجراح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أ. جمال: أستاذ راتب، سيدنا الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجرَّح شخصيةٌ فذَّة من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ياريت في هذا الوقت المبارك نلقي الضوء على هذه الشخصية الكريمة.
 أ. راتب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، أبو عبيدة بن الجراح لقَّبه النبي الكريم بأنه أمين هذه الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام: لكل أمةٍ أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة.
 كان وضيء الوجه، بهي الطلعة، نحيل الجسم، طويل القامة، خفيف العارضين، ترتاح العين لمرآه، وتأنس النفس للقياه، ويطمئن إليه الفوائد، وكان إلى ذلك رقيق الحاشية، جمَّ التواضع، أي كثير التواضع، شديد الحياء، لكنه كان إذا حزب الأمر وجد الجدُّ يغدو كأنه الليث عادياً، فهو يشبه نصل السيف رونقاً وبهاءً ويحكيه حدةً ومضاءً، ذلكم هو أمين هذه الأمة أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري القرشي المكنى بأبي عبيدة.
أ. جمال: أستاذ راتب وصفه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال كلماتٍ مضيئة بحقه ياليت أن تتكلم ؟.
 أ. راتب: نعته عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: ثلاثةٌ من قريش أصبح الناس وجهاً، وأحسنها أخلاقاً، وأثبتها حياءً، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك، أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، هذا إجابةٌ عن سؤالكم.
 وكان أبو عبيدة من السابقين الأولين إلي الإسلام، فقد أسلم في اليوم التالي لإسلام أبي بكر، وكان إسلامه على يدى الصديق نفسه، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا بين يديه كلمة الحق، فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم.
أ. جمال: أستاذ راتب أبو عبيدة له تجربة، قاسية ومريرة في مكة، ياليت أن نسلط الضوء.
 أ. راتب: هذا الصحابي الجليل أبو عبيدة عاش تجربة المسلمين القاسية في مكة منذ بدايتها إلى نهايتها، وعانى مع المسلمين السابقين من عنفها وضراوتها وآلامها وأحزانها ما لم يعان أتباع دينٍ على ظهر الأرض، فثبت بالابتلاء، وصدق الله ورسوله في كل موقف، لكن محنة أبي عبيدة يوم بدرٍ فاقت في عنفها حسبان الحاسبين، وتجاوزت خيال المتخيلين.
أ. جمال: ماذا عن هذا الموضوع أستاذ راتب ؟.
 أ. راتب: إنطلق أبو عبيدة يوم بدرٍ يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الردى فهابه المشركون، ويجول جولة من لا يحذر الموت فحذره فرسان قريش وجعلوا يتنحون عنه كلما واجوه، لقد أبلى هذا الصحابي الجليل في معركة بدرٍ بلاءً حسناً، فكان مقداماً شجاعاً غير هيَّابٍ قد قال عليه الصلاة والسلام مرةً يصف أصحابه: فرسان النهار رهبانٌ في الليل.
 أ. جمال: أستاذ راتب فعلاً هذا الحديث عن صحابة النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام حديث في متعة وفيه الفائدة وفيه النصيحة، ياليت أن نتابع لأنك شوقتنا من خلال حديثكم عن هذا الصحابي الجليل حبذا من متابعة ؟
 أ. راتب: لم يكن ذلك عجيباً من أبي عبيدة، فقد بلغ من قوة إيمانه بالله ونصحه لدينه، والأمانة على أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم مبلغاً طمحت إليه نفوسٌ كبيرة عند الله، حدَّث محمد بن جعفر، قال: قدم وفدٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا ليحكم بيننا في أشياء من أموالنا إختلفنا فيها، فإنكم عندنا معشر المسلمين مرضيون.
فقال عليه الصلاة والسلام: إيتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين، فقال عمر بن الخطاب: فرحت إلى صلاة الظهر مبكراً وإني ما أحببت الإمارة حبي إياها يوم إذٍ رجاء أن أكون صاحب هذا النحت القوي الأمين، فلما صلى بنا النبي عليه الصلاة والسلام الظهر، جعل ينظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يقلِّب بصره فينا حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال: أخرج معهم فاقضي بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.
فقلت: ذهب بها والله أبو عبيدة.

﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)﴾

( القصص )

 في التعريف المعاصر القوي هو الكفء، والأمين هو المخلص، ولم يكن أبا عبيدة أيميناً فحسب وإنما كان يجمع القوة إلى الأمانة، وقد برزت هذه القوة في أكثر من موطن، برزت يوم بعث النبي الكريم جماعةً من أصحابه ليتلقوا عيراً لقريش وأمَّر عليهم أبا عبيدة ري الله عنهم وعنه وزودهم جراباً من تمرٍ لم يجد لهم غيره، فكان أبا عبيدة يعطي الرجل من أصحابه كل يوم تمرةً، فيمصها الواحد منهم كما يمص الصبي ضرع أمه، ثم يشرب عليها ماءً فكانت تكفيه يومه إلى الليل، وفي يوم أحدٍ حين هزم المسلمون وطفق صائح المشركين ينادي: دلوني على محمد، دلوني على محمد، كان أبا عبيدة أحد النفر العشرة الذين أحاطوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ليزودوا عنهم بصدورهم رماح المشركين، فلما انتهت المعركة كان عليه الصلاة والسلام قد كسرت رباعيته وشُج جبينه وغارت في وجنته حلقتان من حَلَق درعه، فأقبل عليه الصديق يريد انتزاعهما من وجنته، فقال له أبو عبيدة: أقسم عليك أن تترك ذلك لي.فتركه، فخشي أبو عبيدة إن إقتلعهما بيده أن يؤلم النبي عليه الصلاة والسلام، فعض على أولاهما بثنيتيه عضاً قوياً محكماً فاستخرجهما ووقعت ثنيته، أي سنه الأمامي، ثم عضَّ على الأخرى بثنيته الثانية فإقتلعها فسقطت سنيته الثانية، فقال أبو بكرٍ: فكان أبي عبيدة من أحسن الناس هتماً، الأهتم هو الذي كُسِرت أسنانه الأمامية.
أ. جمال: ما هذا الحب وما هذا التفاني في خدمة النبي عليه الصلاة والسلام ؟
 أ. راتب: أبو سفيان قال مرةً: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ.. لقد شهد أبا عبيدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها منذ صحبه إلى أن وفاه اليقين، فلما كان يوم السقيفة قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة: أُبسط يدك أُبايعك، فإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن لكل أمةٍ أميناً وأنت أمين هذه الأمة. فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجلٍ أمَّره النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤمنا في الصلاة فأمنا حتى مات. يعني سيدنا الصديق.
 ثم بويع بعد ذلك لأبي بكر الصديق، فكان أبو عبيدة خير نصيحٍ له في الحق، وأكرم معوانٍ له على الخير، ثم عهد أبو بكرٍ بالخلافة من بعده إلى الفاروق فدان له أبي عبيدة بالطاعة، ولم يعصه في أمرٍ إلا مرةً واحدة، هل تدري الأخ جمال ما الأمر الذي عصى فيه أبو عبيدة أمر خليفة المسلمين ؟
أ. جمال: ياريت أن نعرف.
 أ. راتب: لقد وقع ذلك حين كان أبو عبيدة بن الجراح في بلاد الشام، يقود جيوش المسلمين من نصرٍ إلى نصرٍ حتى فتح الله على يديه الديار الشامية كلّها، فبلغ الفرات شرقاً وآسيا الصغرى شمالاً، عند ذلك دهم بلاد الشام طاعونٌ، مرضٌ وبائيٌ خطير، ما عرف الناس مثله قط، فجعل يحصد الناس حصداً، فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن وجه رسولاً إلى أبي عبيدة برسالةٍ يقول فيها: إني بدت لي إليك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إلي، وإن أتاك نهاراً فإني أعزم عليك ألا يمسي حتى تركب إلي، فلما أخذ أبا عبيدة كتاب الفاروق قال: قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلي، فهو يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ ثم كتب إليه يقول ( يعني أراد أن يبعده عن هذا الوباء ) فكتب إليه يقول: يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جندٍ من المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبةً عن الذي يصيبهم، ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيهم وفيَّ أمرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فحللني من عزمك وأذن لي بالبقاء.
 فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه، فقال له من عنده: لشدة ما رأوه من بكائه: أمات أبا عبيدة يا أمير المؤمنين ؟ قال: لا، ولكن الموت منه قريب. ولم يكذب ظن الفاروق إذ مال بسأب أبا عبيدة أن أصيب بالطاعون، فلما حضرته الوفاة أوصى جنده فقال: إني موصيكم بوصيةٍ إن قبلتموها لن تزالوا بخير، أقيموا الصلاة وصوموا رمضان وتصدقوا وحجوا واعتمروا وتواصوا وانصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم ولا تلهكم الدنيا، فإن المرء لو عمِّر ألف حولٍ ما كان له بدٌ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، والسلام عليكم ورحمة وبركاته، ثم إلتفت إلى معاذ بن جبل وقال: يا معاذ صلِّي بالناس. ثم ما لبثت أن فاضت روحه الطاهرة، فقام معاذ وقال: أيها الناس إنكم قد فُجِعْتم برجلٍ، والله ما أعلم أني رأيت رجلاً أبر صدراً، ولا أبعد غائلةً، ولا أشد حباً للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه يرحمكم الله.
 أ. جمال: رحم الله عزَّ وجل هذا الصحابي الجليل أبا عبيدة بن الجراح، وأهلاً ومرحباً بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في كلية التربية جامعة دمشق، والمدرس الديني في مساجد دمشق، وخطيب جامع النابلسي بدمشق ، أهلاً بكم فضيلة الشيخ، نشكركم على هذه على هذه الإضاحات حول هذا الصحابي الجليل، أهلاً بكم ومرحباً، لقاؤنا في حلقةٍ قادمة إنشاء الله.

تحميل النص

إخفاء الصور